الفتوحات المكية - طبعة بولاق الثالثة (القاهرة / الميمنية) |
الصفحة - من الجزء (عرض الصورة)ما يملأ الكون غير من قد *** جاد على الخلق بالوجود و ذلك الحق لا سواه *** ما رتبة الرب كالعبيد من علم الحق علم ذوق *** لم يدر ما لذة السجود فنار جهنم لها نضج الجلود و حرق الأجسام و نار اللّٰه نار ممثلة مجسدة لأنها نتائج أعمال معنوية باطنة و نار جهنم نتائج أعمال حسية ظاهرة ليجمع لمن هذه صفته بين العذابين كما فعل بأهل الجزية في إعطائها ﴿عَنْ يَدٍ وَ هُمْ صٰاغِرُونَ﴾ [التوبة:29] فعذبهم بعذاب إخراج المال من أيديهم و بين الصغار و القهر الذي هو عذاب نفوسهم مما يجدون في ذلك من الحرج أ لا ترى المنافق ﴿فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النّٰارِ﴾ [النساء:145] فهو في نار اللّٰه لما كان عليه من إصرار الكفر و ما له في الدرك الأول مقعد لما أتى به من الأعمال الظاهرة بخلاف الكافر فإن له من جهنم أعلاها و أسفلها فما عنده من يعصمه من نار اللّٰه و لا من نار جهنم و أما حكم الذي جحدها و استيقن الحق و اعتقده فإنه على ضد أو عكس عذاب المنافق فإنه عالم بالحق يتحقق به في نفسه و لم يظهر ذلك على ظاهر نشأته فأظهر خلاف ما أضمر و النار إنما تطلب من الإنسان من لم تظهر عليه صورة حق من ظاهر و باطن فالعلم للباطن كالعمل للظاهر و الجهل للباطن كترك الواجب للظاهر و هنا يتبين للإنسان مراتب و أسباب المؤاخذات الإلهية لعباده في الدار الآخرة فإذا استوفيت الحدود عمت الرحمة من خزانة الجود و هو قوله ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النّٰارِ﴾ [هود:106] ... ﴿خٰالِدِينَ فِيهٰا مٰا دٰامَتِ السَّمٰاوٰاتُ وَ الْأَرْضُ﴾ [هود:107] الآية و هذا هو الحد الزماني لأن التبديل لا بد أن يقع بالسموات و الأرض فتنتهي المدة عند ذلك و هو في حق كل إنسان من وقت تكليفه إلى يوم التبديل لأنه غير مخاطب ببقاء السموات و الأرض قبل التكليف و هذا في حق السعيد و الشقي فهما في نتائج أعمالهما هذه المدة المعينة فإذا انتهت انتهى نعيم الجزاء الوفاق و عذاب الجزاء و انتقل هؤلاء إلى نعيم المنن الإلهية التي لم يربطها اللّٰه بالأعمال و لا خصها بقوم دون قوم و هو ﴿عَطٰاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ﴾ [هود:108] ما له مدة ينتهي بانتهائها كما انتهى الكفر و الايمان هنا بانتهاء عمر المكلف و انتهت إقامة الحدود في الأشقياء و النعيم الجزائي في السعداء بانتهاء مدة السموات و الأرض ﴿إِلاّٰ مٰا شٰاءَ رَبُّكَ﴾ [هود:107] في حق الأشقياء ﴿إِنَّ رَبَّكَ فَعّٰالٌ لِمٰا يُرِيدُ﴾ [هود:107] و كذا وقع الأمر بحسب ما تعلقت به المشيئة الإلهية و ما قال تعالى في الأشقياء عذابا غير مجذوذ كما قال تعالى في السعداء فعلمنا بذكر مدة السماء و الأرض و حكم الإرادة في الأشقياء و الإعراض عن ذكر العذاب إن للشقاء مدة ينتهي إليها حكمه و ينقطع عن الأشقياء بانقطاعها و أن جزاء السعيد على مثل ذلك ثم تعم المنن و الرضي الإلهي على الجميع في أي منزل كانوا فإن النعيم ليس سوى ما يقبله المزاج و غرض النفوس لا أثر للامكنة في ذلك فحيثما وجد ملاءمة الطبع و نيل الغرض كان ذلك نعيما لصاحبه فاعلم ذلك و متعلق الاستثناء معلوم في الطائفتين لما كان عليه الكافر من نعيم الحياة الدنيا من نيل أغراضه و صحة بدنه و لما كان عليه المؤمن من عدم نيل أغراضه و أمراضه في الدنيا كل ذلك من زمان تكليف كل واحد من الطائفتين ﴿وَ اللّٰهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَ هُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ﴾ [الأحزاب:4] «الوصل الثاني عشر من خزائن الجود»و هو الإهمال الإلهيفلا يدري صاحبه ما له فإن كل عبد استحق العقاب على مخالفته لما جاء الرسول إليه به فقد أمهله اللّٰه و ما أخذه و هو تحت حكم سلطان الاسم الحليم فهو كالمهمل فلا يدري هل تسبق له العناية بالمغفرة و العفو قبل إقامة الحد الإلهي عليه بالحكم أو يؤخذ فيقام عليه حدود جناياته إلى أجل معلوم و لما كان هذا الاحتمال يسوغ فيمن أمهله اللّٰه كانت صورة صاحب هذا الوصف صورة المهمل فإن الإهمال من جانب الحق ما يصح فإنه في علم اللّٰه السابق إما مغفور له و إما مؤاخذ بما جنى على نفسه فهو على خطر و على غير علم بما سبق له في الكتاب الماضي الحكم فإن الحكم يحكم على الحاكم العادل كما يحكم على المحكوم عليه فأما بالأخذ و إما بالعفو في الشخص الذي هو على نعت و حال يوجب له أحد الأمرين مما ذكرناه و ليس إلا من أمهله اللّٰه فلم يؤاخذه في وقت المخالفة و كفى بالترقب للعارف العاصي الممهل الذي هو في صورة المهمل عذابا في حقه لأنه لا يدري ما عاقبة الأمر فيه و ما من طائفة إلا و هي تحت ناموس شرعي حكمي أو وضع حكمي فلا تخلو أمة من مخالفة تقع منها لناموسها كان |
|
|||||||||
الفتوحات
المكية للشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي ترقيم الصفحات موافق لطبعة القاهرة (دار الكتب العربية الكبرى) - المعروفة بالطبعة الميمنية. وقد تم إضافة عناوين فرعية ضمن قوسين مربعين. |