الفتوحات المكية - طبعة بولاق الثالثة (القاهرة / الميمنية) |
الصفحة - من الجزء (عرض الصورة)سبحانه في كتابه ﴿بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ﴾ [الفاتحة:1] في كل سورة إذ كانت السور تحوي على أمور مخوفة تطلب أسماء العظمة و الاقتدار فقدم أسماء الرحمة تأنيسا و بشرى و لهذا قالوا في سورة التوبة إنها و الأنفال سورة واحدة حيث لم يفصل بينهما بالبسملة و في ذلك خلاف منقول بين علماء هذا الشأن من الصحابة و لما علم اللّٰه تعالى ما يجري من الخلاف في هذه الأمة في حذف البسملة من سورة براءة فمن ذهب إلى أنها سورة مستقلة و كان القرآن عنده مائة و ثلاث عشرة سورة فيحتاج إلى مائة و ثلاث عشرة بسملة أظهر لهم في سورة النمل بسملة ليكمل العدد و جاء بها كما جاء بها في أوائل السور بعينها فإن لغة سليمان عليه السلام لم تكن عربية و إنما كانت أخرى فما كتب لغة هذا اللفظ في كتابه و إنما كتب لفظة بلغته تقتضي معناها باللسان العربي إذا عبر عنها ﴿بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ 27﴾ و أتى بها محذوفة الألف كما جاءت في أوائل السور ليعلم أن المقصود بها هو المقصود بها في أوائل السور و لم يعمل ذلك في ﴿بِسْمِ اللّٰهِ مَجْرٰاهٰا﴾ [هود:41] و ﴿اِقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ﴾ [العلق:1] فأثبت الألف هناك ليفرق ما بين اسم البسملة و غيرها [سورة التوبة هي سورة الرحمة]و لهذا تتضمن سورة التوبة من صفات الرحمة و التنزل الإلهي كثيرا فإن فيها شراء اللّٰه نفوس المؤمنين منهم ﴿بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ﴾ [التوبة:111] و أي تنزل أعظم من أن يشتري السيد ملكه من عبده و هل يكون في الرحمة أبلغ من هذا فلا بد أن تكون التوبة و الأنفال سورة واحدة أو تكون بسملة النمل السليمانية لسورة التوبة ثم انظر في اسمها سورة التوبة و التوبة تطلب الرحمة ما تطلب التبري و إن ابتدأ عزَّ وجلَّ بالتبري فقد ختم بآية لم يأت بها و لا وجدت إلا عند من جعل اللّٰه شهادته شهادة رجلين فإن كنت تعقل علمت ما في هذه السورة من الرحمة المدرجة و لا سيما في قوله تعالى ﴿وَ مِنْهُمْ﴾ [البقرة:78] ﴿وَ مِنْهُمْ﴾ [البقرة:78] و ذلك كله رحمة بنا لنحذر الوقوع فيه و الاتصاف بتلك الصفات فإن القرآن علينا نزل فلم تتضمن سورة من القرآن في حقنا رحمة أعظم من هذه السورة لأنه كثر من الأمور التي ينبغي أن يتقيها المؤمن و يجتنبها فلو لم يعرفنا الحق تعالى بها ربما وقعنا فيها و لا نشعر فهي سورة رحمة للمؤمنين [رجال نفس الرحمن]و إذ و قد عرفناك بمنازله فاعلم أن رجاله هم كل من كان حاله من أهل اللّٰه حال من أحاطت به الأسماء الجبروتية من جميع عالمه العلوي و السفلي فيقع منه اللجأ و التضرع إلى أسماء الرحمة فيتجلى له الاسم الرحمن الذي له الأسماء الحسنى و الذي به على العرش استوى فيهبه الاقتدار الإلهي فيمحو به آثار الأسماء القهرية فيتسع له المجال فينشرح الصدر و يجري النفس و يسرى فيه روح الحياة و تأتي إليه وفود الأسماء الرحمانية و الحقائق الإلهية بالتهاني و البشائر فمن كانت هذه حالته و يعرفها ذوقا من نفسه و هو من رجال هذا المقام فلا يغالط نفسه و كل إنسان أعلم بحاله و لا ينفعك أن تنزل نفسك عند الناس منزلة ليست لك في نفس الأمر و قد نصحتك و أبنت لك عن طريق القوم فلا تكن من الجاهلين بما عرفناك به ﴿وَ اعْبُدْ رَبَّكَ حَتّٰى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ﴾ [الحجر:99] ف ﴿إِنَّ اللّٰهَ لاٰ يَخْفىٰ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَ لاٰ فِي السَّمٰاءِ﴾ [آل عمران:5] ﴿وَ اللّٰهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَ هُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ﴾ [الأحزاب:4] (الباب الخمسون في معرفة رجال الحيرة و العجز)من قال يعلم أن اللّٰه خالقه *** و لم يحركان برهانا بأن جهلا لا يعلم اللّٰه إلا اللّٰه فانتبهوا *** فليس حاضركم مثل الذي غفلا العجز عن درك الإدراك معرفة *** كذا هو الحكم فيه عند من عقلا هو الإله فلا تحصى محامده *** هو النزيه فلا تضرب له مثلا [سبب الحيرة في المعرفة الإلهية]اعلم أيدك اللّٰه بروح منه أن سبب الحيرة في علمنا بالله طلبنا معرفة ذاته جل و تعالى بأحد الطريقين إما بطريق الأدلة العقلية و إما بطريق تسمى المشاهدة فالدليل العقلي يمنع من المشاهدة و الدليل السمعي قد أومأ إليها و ما صرح و الدليل العقلي قد منع من إدراك حقيقة ذاته من طريق الصفة الثبوتية النفسية التي هو سبحانه في نفسه عليها و ما أدرك العقل بنظره إلا صفات السلوب لا غير و سمي هذا معرفة و الشارع قد نسب إلى نفسه أمورا وصف نفسه بها تحيلها الأدلة العقلية إلا بتأويل بعيد يمكن أن يكون مقصودا للشارع و يمكن أن لا يكون و قد لزمه الايمان و التصديق بما وصف به نفسه لقيام الأدلة عنده بصدق هذه الأخبار عنه إنه أخبر بها عن نفسه في كتبه أو على ألسنة رسله فتعارض هذه الأمور |
|
|||||||||
الفتوحات
المكية للشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي ترقيم الصفحات موافق لطبعة القاهرة (دار الكتب العربية الكبرى) - المعروفة بالطبعة الميمنية. وقد تم إضافة عناوين فرعية ضمن قوسين مربعين. |