الفتوحات المكية - طبعة بولاق الثالثة (القاهرة / الميمنية) |
![]() |
![]() |
||||||||
الصفحة - من الجزء (عرض الصورة)![]() بالعزلة ثم إن ارتقى إلى طور أعلى من هذا فيجعل عزلته رياضة و تقدمة بين يدي خلوته لتالف النفس قطع المألوفات من الأنس بالخلق فإنه يرى الأنس بالخلق من العلائق و العوائق الحائلة بينه و بين مطلوبه من الأنس بالله و الانفراد به فإذا انتقل من العزلة بعد إحكامه شرائطها سهل عليه أمر الخلوة هذا سبب العزلة عند خاصة أهل اللّٰه [العزلة التي هي نسبة و العزلة التي هي مقام]فهذه العزلة نسبة لا مقام و العزلة الأولى التي ذكرناها مقام مطلوب و لهذا جعلناها في المقامات من هذا الكتاب و إذا كانت مقاما فهي من المقامات المستصحبة في الدنيا و الآخرة فللعارفين من أهل الأنس و الوصال في العزلة من الدرجات خمسمائة درجة و ثمان و ثلاثون درجة و للعارفين الأدباء الواقفين مائة و ثلاث و أربعون درجة و للملامية فيها من أهل الأنس خمسمائة درجة و سبع درجات و للملامية من أهل الأدب الواقفين معهم مائة و اثنتي عشرة درجة و العزلة المعهودة في عموم أهل اللّٰه من المقامات المقيدة بشرط لا تكون إلا به و هي نسبة في التحقيق لا مقام إلا أنها تحصل عنها فوائد أقلها العصمة لها الدعوى صاحبها مسئول و علتها سوء الظن بنفسك أو بمن اعتزلت عنهم و هذا كله في عزلة العموم و هي من عالم الجبروت و الملكوت ما لها قدم في عالم الشهادة فلا تتعلق معارفها بشيء من عالم الملك (الباب الحادي و الثمانون في ترك العزلة)لا تفرحن بالاعتزال فإنه *** جهل و أين اللّٰه و الأرواح نور الإله أجل منك نفاسة *** و مع الجلال جليسه المصباح لم يعتزل عن نور كون حادث *** و إلى التعلق ذاته ترتاح لو أن نور الحق معتزل لما *** ظهر الوجود و دامت الأفراح بالنور من فلك البهاء إذا بدا *** للناظرين أضاءت الأشباح [مثير العزلة إنما هو خوف القواطع أو رجاء الوصلة]اعلم أيدنا اللّٰه و إياك أن مثير العزلة إنما هو خوف القواطع عن الوصلة بالجناب الإلهي أو رجاء الوصلة بالعزلة به لما كان في حجاب نفسه و ظلمة كونه و حقيقة ذاته يبعثها على طلب الوصلة ما هي عليه من الصورة الإلهية كما يطلب الرحم الوصلة بالرحمن لما كانت شجنة منه [ارتباط الكون بالله وصف ذاتى للكون]ثم إن العبد رأى ارتباط الكون بالله ارتباطا لا يمكن الانفكاك عنه لأنه وصف ذاتي له و تجلى له في هذا الارتباط و عرف من هذا التجلي وجوبه به و أنه لا تثبت لمطلوبه هذه الرتبة إلا به و أنه سرها الذي لو بطل لبطلت الربوبية و رآه في كل شيء مثل ما هو عنده و نسبة كل شيء إليه كنسبته هو إليه فلم يتمكن له الاعتزال [النور و المشكاة و المصباح]فتأدب مع قوله تعالى ﴿مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكٰاةٍ فِيهٰا مِصْبٰاحٌ﴾ [النور:35] أي صفة نوره صفة المصباح و لم يقل صفة الشمس فإن الإمداد في نور الشمس يخفى بخلاف المصباح فإن الزيت و الدهن يمده لبقاء الإضاءة فهو باق بإمداد دهني من شجرة نسبة الجهات إليها نسبة واحدة منزهة عن الاختصاص بحكم جهة و هو قوله ﴿لاٰ شَرْقِيَّةٍ وَ لاٰ غَرْبِيَّةٍ﴾ [النور:35] و هذا الإمداد من نور السبحات الظاهرة من وراء سبحات العزة و الكبرياء و الجلال فما ينفذ من نور سبحات هذه الحجب هو ﴿نُورُ السَّمٰاوٰاتِ وَ الْأَرْضِ﴾ [النور:35] و مثله كمثل المصباح و النور الذي في الدهن معلوم غير مشهود وضوء المصباح من أثره يدل عليه و على الحقيقة ما هو نور و إنما هو سبب لبقاء النور و استمراره فالنور العلمي منفر ظلمة الجهل من النفس فإذا أضاءت ذات النفس أبصرت ارتباطها بربها في كونها و في كون كل كون فلم تر عمن تعتزل [النشأتان الظاهرة و الباطنة شاهدتان على النفس المدبرة]و جعل هذا النور في مشكاة و زجاجة مخافة الهواء أن يجيره و يشتد عليه فيطفيه فكان مشكاته و زجاجته نشأته الظاهرة و الباطنة فإنهما من حيث هما عاصمان فإنهما من الذين ﴿يُسَبِّحُونَ﴾ [الأعراف:206] بحمد اللّٰه ﴿اَللَّيْلَ وَ النَّهٰارَ لاٰ يَفْتُرُونَ﴾ [الأنبياء:20] و هما اللذان يشهدان على النفس المدبرة إذا أنكرت بين يدي اللّٰه فهما أهل عدالة قال تعالى ﴿شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَ أَبْصٰارُهُمْ﴾ [فصلت:20] و هما من النشأة الباطنة و جلودهم و هي من النشأة الظاهرة فما من شخص يروم مخالفة حق إلا و نشأتاه تقولان له لا تفعل أيها الملك و لا تحوجنا أن نكون سببا في إهلاكك فإن اللّٰه إن استشهدنا شهدنا «أ لا ترى الرسول صلى اللّٰه عليه و سلم لما بلغ و أنذر و وعد و أوعد قال لقومه إنكم لتسئلون عني فما أنتم قائلون قالوا نشهد أنك بلغت و نصحت و أديت فقال اللهم اشهد» و قد سأل هود قومه مع شركهم فقال ﴿اِشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمّٰا تُشْرِكُونَ﴾ [هود:54] فاستشهدهم لعلمه أنهم لا بد أن يسألهم و نحن رعيتك و لا حركة لنا إلا بك فلا تحركنا إلا |
|
||||||||
![]() |
![]() |
||||||||
الفتوحات
المكية للشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي ترقيم الصفحات موافق لطبعة القاهرة (دار الكتب العربية الكبرى) - المعروفة بالطبعة الميمنية. وقد تم إضافة عناوين فرعية ضمن قوسين مربعين. |