و اتصاف الحق بالجود و العفو عن الجاني أعظم من المؤاخذة على الإساءة فإن المؤاخذة و العقوبة جزاء و ما في الجزاء على الشر فضل إلا إذا كان في الدنيا لما في إقامة الحدود من دفع المضرة العامة و ما في ذلك من المصالح التي تعود على الناس مثل قوله عز و جل ﴿وَ لَكُمْ فِي الْقِصٰاصِ حَيٰاةٌ﴾ [البقرة:179] و أما في الآخرة فما ثم ما يندفع بجزاء المسيء ما يندفع به في الدنيا فكان العبد إذا قال هذا يوم القيامة أو حيث قاله لله بطريق الشفاعة كأنه ناصح للمقام الإلهي في أن يثني عليه إذا عفا عن المسيء بالكرم و الطول و الفضل فإن في ذلك عين الامتنان فهذا معنى قوله الدين النصيحة لله أي في حق اللّٰه فإنه يسعى في أن يثني على اللّٰه إذا عفا بما يكون ثناء حسنا و لا سيما و «قد ورد في الحديث الثابت أنه لا شيء أحب إلى اللّٰه من أن يمدح» فكما أنه مدح في الدنيا بما نصب من الحدود التي درأ بها المضار عن عباده إذا أقامها أئمة المسلمين على المذنبين كذلك يمدح بالعفو و التجاوز في الدار الآخرة لأنه هنالك ما تمشي هذه المصلحة التي نصبت من أجلها إقامة الحدود التي لا يتمكن الشفاعة فيها كحد السارق و الزاني و حقوق اللّٰه على الإطلاق و أما ما هو حق للعبد فإن اللّٰه قد ندب فيه إلى العفو و التجاوز فالعفو من ولي الدم أو قبول الدية فإن المظلوم هو المقتول و قد مات فالطالب قد تقدم كالشاكي الذي يمشي إلى السلطان رافعا على من ظلمه فجعل الدية كالإحسان لولي الدم لعل ذلك الشاكي إذا بلغه إحسانه لذوي رحمه يسكت عنه و لا يطالبه عند اللّٰه الحكم العدل بشيء من دمه و أما النصيحة لرسول اللّٰه ﷺ ففي زمانه إذا رأى منه الصاحب أمرا قد قرر خلافه و الإنسان صاحب غفلات فينبه الصاحب رسول اللّٰه ﷺ على ذلك حتى يواصل فعله بالقصد فيكون حكما مشروعا أو فعله عن نسيان فيرجع عنه فهذا من النصح لرسول اللّٰه ﷺ مثل سهوه في الصلاة فالواجب عليه في الرباعية أن يصليها أربعا فسلم من اثنتين فقيل له في ذلك فهذه نصيحة لرسول اللّٰه ﷺ فرجع و أتم صلاته و سجد سجدتي السهو و كان ما قد روى في ذلك و أمثال هذا و لهذا أمر اللّٰه عزَّ وجلَّ نبيه ﷺ بمشاورة أصحابه فيما لم يوح إليه فيه فإذا شاورهم تعين عليهم أن ينصحوه فيما شاورهم فيه على قدر علمهم و ما يقتضيه نظرهم في ذلك أنه مصلحة كنز و له يوم بدر على غير ماء فنصحوه و أمروه أن يكون الماء في حيزه ﷺ ففعل و نصحه عمر بن الخطاب رضي اللّٰه عنه في قتل أسارى بدر حين أشار بذلك و أما بعد رسول اللّٰه ﷺ فلم تبق له نصيحة و لكن إذا كانت هذه اللام لام الأجلية بقيت النصيحة فهذا قد بينا ما في نصيحة رسول اللّٰه ﷺ أن المشير الناصح قد جمع بين رسول اللّٰه ﷺ و بين الرأي الذي فيه المصلحة كما يجمع الناصح الذي هو الخائط بالخياطة بين قطعة الكم و البدن في الثوب و أما النصيحة لأئمة المسلمين و هم ولاة الأمور منا القائمون بمصالح عباد اللّٰه الدينية و الحكام و أهل الفتاوى في الدين من العلماء يدخلون في أئمة المسلمين أيضا فإن كان الحاكم عالما كان و إن لم يكن من العلماء بتلك المسألة سأل من يعلم عن الحكم فيها فيتعين على المفتي أن ينصح و يفتيه بما يراه أنه حق عنده و يذكر له دليله على ما أفتاه به فيخلصه عند اللّٰه فهذه هي النصيحة لأئمة المسلمين و لما لم تفرض العصمة لأئمة المسلمين و علم أنهم قد يخطئون و يتبعون أهوائهم تعين على أهل الدين من العلماء بالدين أن ينصحوا أئمة المسلمين و يردوهم عن اتباع أهوائهم في الناس فيؤلفون بين ما هو الدين عليه و بينهم فمثل هذا هو النصح لأئمة المسلمين فيعود على الناس نفع ذلك و أما النصيحة لعامتهم فمعلومة و هي أن يشير عليهم بما لهم فيه المصلحة التي لا تضرهم في دينهم و لا دنياهم فإن كان و لا بد من ضرر يقوم من ذلك إما في الدين أو في الدنيا فيرجحوا في النصيحة ضرر الدنيا على ضرر الدين فيشيرون عليهم بما يسلم لهم فيه دينهم فإن اللّٰه يقول ﴿مٰا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ [الحج:78] و قال دين اللّٰه يسر و قال ﴿فَاتَّقُوا اللّٰهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ [التغابن:16] و إن أضر بدنياهم و مهما قدروا على دفع الضرر في الدين و الدنيا معا بوجه من الوجوه و عرفوه تعين عليهم في الدين أن ينصحوه في ذلك و يبينوه و المستفتي بالخيار في ذلك بحسب ما يوفقه اللّٰه إليه و الذي أقول به إن النصيحة تعم إذ هي عين الدين و هي صفة الناصح فتسري منفعتها في جميع العالم كله من الناصح الذي يستبرئ لدينه و يطلب معالي الأمور فيرى حيوانا قد أضر به العطش و قد حاد ذلك الحيوان عن