محل يخاف و يرجى و باطنا بما نظروا فيه مما قاله لهم فلما أخذ قلوبهم بالكلية إليه و لم يبق لله فيهم نصيب يعصمهم أغضبوا اللّٰه فغضب فانتقم فكان حكمهم في نفس الأمر خلاف حكم فرعون في نفسه فإنه علم صدق موسى عليه السّلام و علم حكم اللّٰه في ظاهره بما صدر منه و حكم اللّٰه في باطنه بما كان يعتقده من صدق موسى فيما دعاهم إليه و كان ظهور إيمانه المقرر في باطنه عند اللّٰه مخصوصا بزمان مؤقت لا يكون إلا فيه و بحالة خاصة فظهر بالإيمان لما جاء زمانه و حاله فغرق قومه آية و نجا فرعون ببدنه دون قومه عند ظهور إيمانه آية فمن رحمة اللّٰه بعباده أن قال ﴿فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ﴾ [يونس:92] يعني دون قومك ﴿لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً﴾ [يونس:92] أي علامة لمن آمن بالله أن ينجيه اللّٰه ببدنه أي بظاهره فإن باطنه لم يزل محفوظا بالنجاة من الشرك لأن العلم أقوى الموانع فسوى اللّٰه في الغرق بينهم و تفرقا في الحكم فجعلهم سلفا و مثلا للآخرين يعني الأمم الذين يأتون من بعدهم و خص فرعون بأن تكون نجاته آية لمن رجع إلى اللّٰه بالنجاة و لما كان الاختصاص الإلهي الكامل في الجمع بين السعادة و الصورة كان الكمال للمؤمن بالخلافة في المكان الذي من شأنه أن يظهر فيه كمال الصورة من نفوذ الاقتدار عند الإغضاب و ليست الجنة بمحل لهذه الصفة فليست بدار خلافة بل هي دار ولاية محكوم على صاحب تلك الولاية بأمر لا يتعداه و لا تعطي نشأته أن يقبل سواه حتى لو كان فيها تقديرا من شأنه أن يغضب ما قبل صاحب الولاية صفة الغضب لأنه على مزاج خاص بخلاف نشأة الدنيا و لهذا قال ﴿إِنِّي جٰاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ [البقرة:30] و لم يقل في العالم و لو لم تعترض الملائكة ما ابتليت بالسجود فكان ما ابتلوا به عن إغضاب دقيق خفي لا يشعر به إلا الراسخون في العلم : و هكذا كل انتقام إلهي يقع بالعالم لا يكون إلا بعد إغضاب لأن اللّٰه خلق العالم بالرحمة و ليس من شأنها الانتقام كما إن الغضب من شأنه الانتقام لكنه أعني الغضب على طبقات فيظهر الانتقام على ميزانه من غير زيادة و لا نقصان و لا يقع الانتقام أبدا إلا تطهيرا لمن كان منه الإغضاب فلذلك لا يكون الانتقام إلى غير نهاية بل ينتهي الحكم به إلى أجل مسمى عند اللّٰه و تعقبه الرحمة به لأن لها الحكم الأبدي الذي لا يتناهى و من جعل باله لما ذكرناه و دقق النظر فيه رأى علما كبيرا إلهيا من سريان العدل في الحكم الإلهي و شمول الفضل و سبق الرحمة الغضب و إن الحق يجري في حكمه بما هي الحقائق عليه إذ الحقائق لا تتبدل لأنفسها و لا تتحول فهذا الذي ذكرناه في هذه المسألة من الآيات التي جاء بها الحق على لسان المترجم ﴿لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [يونس:24] و ﴿لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ [البقرة:164] ليست لغير هذا الصنف فحافظ على تحصيل معرفة الإغضاب على غاية الاستقصاء حتى تجتنبه فإنه من علم الأسرار ما يعرفه كل أحد و هو كان علم حذيفة بن اليمان صاحب رسول اللّٰه ﷺ و لهذا كان أصحاب رسول اللّٰه ﷺ يسمونه صاحب السر لعلمه بهذا العلم و ليس فيما يمنح اللّٰه أولياءه من العلم به في حقهم أنفع من هذا العلم و ما رأيت أحدا له فيه ذوق و لا سمعت عن أحد من أهل اللّٰه تعالى بعد حذيفة من ظهر عليه حكم هذا العلم و هو عصمة خفية تكاد لا يشعر صاحبها بها و ما في الكشف أتم منه و لا يرزق اللّٰه هذا العلم إلا للادباء أهل المراقبة فإنهم يأخذون الأشياء بحكم المطابقة و المناسبة بين الرب و المربوب و الخالق و المخلوق و لا يحكم عليهم حاكم الإمكان و الجواز لأنه ليس له في هذه الحضرة قدم و لا عين أعني الإمكان و هذا مقام وراء طور العقل لأن العقل يحكم في مثل هذا بالإمكان و الأمر في نفسه ليس كذلك و لكن إذا شهده قبله و إذا فكر فيه أدخله تحت الإمكان و يختص هذا المنزل من العلوم بعلم الإيهام و الإبهام و الرموز و الألغاز و الأسرار و فيه علم الحروف المركبة التي هي الكلمة و فيه علم الأنوار و ما يختص به عالم الشهادة من الشهود و فيه علم الجعل و فيه علم الجمع و التفصيل و فيه علم منازل العلو في الأسماء الإلهية و أحكامها و فيه علم الإعجاز و فيه علم التقرير و فيه علم نتائج الجهل و هو أمر عدمي فكيف يكون له حكم وجودي و فيه علم مقابلة الاقتدار بالاقتدار و فيه علم سريان وجود الحق في العالم و لهذا ما أنكره أحد و إنما وقع الغلط من طلب الماهية فادى إلى الاختلاف فيه الذي ظهر في العالم و فيه علم ما يختص به الحق تعالى لنفسه من غير أن يكون له حكم في العالم و فيه علم الشرائع كلها و أنها بالجعل و لهذا تجري إلى أمد و غايتها حكم الحق بها في القيامة في الفريقين فإذا عمرت الداران و انقضى أمد العقوبة انتشر حكم الرحمة و فيه علم الشفع و الوتر و تقدم علم الزوج على الفرد و علم الحامل و المحمول و علم شمول النعم في البلايا و الرزايا و الأمور المؤلمة و فيه علم نفي الطاقة