الآخر علمنا إن كل واحد من الأمرين المرتبطين للحب الذي قام لكل واحد منهما في ظهور الأمر الثالث و إنه طالب للأمر الثاني فصح الطلب من كل واحد و الحاصل لا يبتغى فلا بد أن يتصفا بالفقد لما يبغيان وجوده و الطلب لا يكون إلا بنوع من الإذلال ﴿وَ قٰالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ [غافر:60] فطلب الدعاء من عباده و طلب العباد الإجابة منه فالكل طالب و مطلوب و قد قام الدليل أن الحوادث لا تقوم به فلا يستقل بكل طلب في ذاته لأن الطلب من الحادث حادث و يستحيل أن يقوم به مثل هذا الطلب فلا بد من طلب وجود ما يقوم به هذا الطلب الحادث و هو قوله إذا أردناه و الطلب إرادة سواء طلبك لنفسه أو طلبك لك على كل حال الحاصل لا يبتغى من الوجه الذي يطلب فإنه من ذلك الوجه ليس بحاصل فلا يصح الوجود أصلا إلا من أصلين الأصل الواحد الاقتدار و هو الذي يلي جانب الحق و الأصل الثاني القبول و هو الذي يلي جانب الممكن فلا استقلال لواحد من الأصلين بالوجود و لا بالإيجاد فالأمر المستفيد الوجود ما استفاده إلا من نفسه بقبوله و ممن نفذ فيه اقتداره و هو الحق غير أنه لا يقول في نفسه إنه موجد نفسه بل يقول إن اللّٰه أوجده و الأمر على ما ذكرناه فما أنصف الممكن نفسه و آثر بهذا الوصف ربه فلما علم اللّٰه أنه آثر ربه على نفسه بنسبة الإيجاد إليه أعطاه الظهور بصورته جزاء فلا أكمل من العالم لأنه لا أكمل من الحق و ما كمل الوجود إلا بظهور الحادث و لما كان الأمر بهذه المثابة في التوقف و عدم الاستقلال من الطرفين نبه الحق على ذلك «بقوله قسمت الصلاة بيني و بين عبدي نصفين فنصفها لي و نصفها لعبدي» و هو أيضا أعني التقسيم موجود في استخلاف العبد و في وكالة الحق فيما هو فيه العبد مستخلف فاستقل الوجود و كمل بالحادث و لما كان الحق غيورا أن يذكر معه سواه تجلى للعالم في صور المحدثات و علموه فيها أعلاما منه للعالم إنه غني عن العالمين بما رأيتموه في ذاته من ظهوره بالتجلي في صور المحدثات فسواء ظهوركم و عدمكم يقول للممكن فعند ذلك ذل الممكن بالفعل في نفسه فوقع منه ما خلقه اللّٰه له و زال عنه عز الاستعداد بالقبول في الإيجاد إذا رأى أعيان الصور التي تكون عن قبولها و اقتدار الحق قد ظهر الحق بها فلم تكن الحاجة إلى الممكنات في قبولها و الأمر قد حصل و صح قوله ﴿فَإِنَّ اللّٰهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعٰالَمِينَ﴾ [آل عمران:97] و لقد برقت لي بارقة إلهية عند تقييدي هذه المسألة رأيت فيها ما شاء اللّٰه من العلوم كما «ضرب النبي ﷺ بالمعول الحجر الذي تعرض لهم في الخندق فبرقت في الضربة منه بارقة رأى بها ما فتح اللّٰه على أمته حتى رأى قصور بصري كأنياب الفيلة رأى ذلك في ثلاث ضربات في كل ضربة بارقة تبدي له جهة مخصوصة» هذا رأيته عند تقييدي هذا الباب وراثة نبوية بحمد اللّٰه و رأيت فيها و بها و إن ظهر بصور الممكنات و اتصف بالغنى فإن ذلك لا يخرجه عن عدم الاستقلال في وجود الحادث به إذ لا بد من قبوله و فيه وقع الكلام هذا مما أعطتنيه تلك البارقة و إنه تعالى لما خلقهم لعبادته كساهم صفته و هي التي بها طلبهم فعبدوه بها إذ لا يصح أن يعبدوه بأنفسهم على جهة الاستقلال و لهذا شرع لهم أن يقولوا بعد قولهم ﴿إِيّٰاكَ نَعْبُدُ وَ إِيّٰاكَ نَسْتَعِينُ﴾ [الفاتحة:5] لعدم الاستقلال في العبادة فألقت عندهم الطلب في المعونة على عبادته كما كان القبول منهم معونة للاقتدار الإلهي في الخلق و لو لا هذا الارتباط ما صحت عبادة و لا إيجاد فالإيجاد عبادة و هو لله و العبادة إيجاد و هي المطلوبة من الخلق فهم العابدون و هو المعبود و هو الموجد و هم الموجودون فلام العلة ذاتية من الجانبين و اسمها في الشرع حكمة و سبب فإنه حكيم ففي كل شيء له حكمة ظاهرة يعلمها أهل الكشف و الوجود في كل شيء و يعلمها أهل الرسوم في التكليفات التي لا تعلم إلا من جهة الشرع فحكمتها لا تعلم إلا من جهة الشرع كقوله ﴿وَ لَكُمْ فِي الْقِصٰاصِ حَيٰاةٌ﴾ [البقرة:179] و أما القول بالعلة في التكليف من جهة الحق فمظنونة غير معلومة و لكن فتح لهم باب الاستنباط بما ذكره لهم في الوحي المنزل من التعليل فمنه جلي و منه خفي كذلك له في الأشياء حكمة باطنة لا يعلمها إلا هو و من أعلمه اللّٰه بها و لذلك قال الجن و هو ما استتر فلا يعلم إلا منه و الإنس و هو ما ظهر فيعلم بذاته حيث ظهر ﴿إِلاّٰ لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات:56] إثبات السبب الموجب للخلق فهذه لام الحكمة و السبب شرعا و لام العلة عقلا و العبادة ذاتية للمخلوق لا يحتاج فيها إلى تكليف فلا بد أن يكون الخالق عين كل صورة يعبدها المخلوق مع افتقار الصورة إلى المادة و إنه إذا لم يكن الأمر هكذا فلا تكن العبادة من المخلوق ذاتية فإنه إذا اقتصرنا على مسمى اللّٰه في العرف عبد المخلوق غير اللّٰه فإنا نرى الأكثر من العالم ما يفتقرون