يتفاضل الناس بالمنازل لا بالعين حتى في الصورة من جميل و أجمل و غير جميل و لهذا ما جاء رضي اللّٰه عنه في ذكر الرجال بأكثر من أربعة فما أراد بالأربعة إلا ما ذكرناه و ما أراد بالرجال في هذه الآيات الذكران خاصة و إنما أراد هذا الصنف الإنساني ذكرا كان أو أنثى و لما قلت له في قوله ﴿يَأْتُوكَ رِجٰالاً﴾ [الحج:27] المراد به من أنى ماشيا على رجله قال رضي اللّٰه عنه الرجل لا يكون محمولا و الراكب محمول فعلمت ما أراد فإنه قد علم إن رسول اللّٰه ﷺ ما أسرى به إلا محمولا على البراق فسلمت إليه ما قال و ما أعلمته رضي اللّٰه عنه إن البقاء على الأصل هو المطلوب لله من الخلق و لهذا ذكره تعالى بقوله ﴿وَ قَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَ لَمْ تَكُ شَيْئاً﴾ [مريم:9] يعني موجودا يقول له ينبغي لك أن تكون و أنت في وجودك من الحال معي كما كنت و أنت في حال عدمك من قبولك لاوامري و عدم اعتراضك يأمره بالوقوف عند حدوده و مر اسمه فيتكلم حيث رسم له أن يتكلم و يتكلم بما أمره به أن يتكلم فيكون سبحانه هو المتكلم بذلك على لسان عبده و كذلك في جميع حركاته و سكناته و أحواله الظاهرة و الباطنة لا يقول في وجوده إنه موجود بل يرى نفسه على صورته في حال عدمه هذا مراد الحق منه بالخطاب فهو محمول بالأصالة غير مستقل فإن المحدث لا يستقل بالوجود من غير المرجح فلا بد أن يكون محمولا و لهذا ما أسرى برسول قط إلا على براق إذا كان إسراء جسميا محسوسا و إذا كان بالإسراء الخيالي الذي يعبر عنه بالرؤيا فقد يرى نفسه محمولا على مركب و قد لا يرى نفسه محمولا على مركب لكن يعلم أنه محمول في الصورة التي يرى نفسه فيها إذ قد علمنا أن جسمه في فراشه و في بيته نائم فاعلم ذلك و أما ما ذهب إليه الشيخ من الاستقلال و عدم الركوب فذلك هو الذي يحذر منه فإنه الاختلاس الذي ذكرنا فإن العبد هنا اختلسته نفسه بالاستقلال و هو في نفسه غير مستقل فأخذه ذلك الاختلاس من يد الحق فتخيل أنه غير محمول فلم يعرف نفسه و من لم يعرف نفسه جهل ربه فكان الغير هنا الذي نظر إليه عين نفسه و ذلك لضعفه في العلم بالأصل الذي هو عليه و لا شك أن مرتبة الرسل عليه السّلام قد جمعت جميع مراتب الرجال من نبوة و ولاية و إيمان و هم المحمولون فمن ورثهم و كان محمولا يعلم ذلك من نفسه و إنما قلنا يعلم ذلك من نفسه لأن الأمر في نفسه أنه محمول و لا بد و لكن من لا علم له بذلك يتخيل أنه غير محمول فلهذا قيدنا و في قوله ﴿يَأْتُوكَ رِجٰالاً﴾ [الحج:27] فالذي دعاهم قال لهم قولوا ﴿وَ إِيّٰاكَ نَسْتَعِينُ﴾ [الفاتحة:5] و قال لهم ﴿اِسْتَعِينُوا بِاللّٰهِ﴾ [الأعراف:128] و اصبر و أو كل معنى محمول بلا شك فإنه غير مستقل بالأمر إذ لو استقل به لما طلب العون و المعين و قوله رضي اللّٰه عنه ﴿رِجٰالٌ لاٰ تُلْهِيهِمْ تِجٰارَةٌ وَ لاٰ بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللّٰهِ﴾ [النور:37] فهم في تجارتهم في ذكر اللّٰه لأن التجارة على الحد المرسوم الإلهي من ذكر اللّٰه كما «قالت عائشة عن رسول اللّٰه ﷺ أنه كان يذكر اللّٰه على كل أحيانه مع كونه يمازح العجوز و الصغير» و كل ذلك عند العالم ذكر اللّٰه لأنه ما من شيء إلا و هو يذكر بالله فمن رأى شيئا لا يذكر اللّٰه عند رؤيته فما رآه فإن اللّٰه ما وضعه في الوجود إلا مذكرا فلم تلههم التجارة و لا البيع عن ذكر اللّٰه و كذلك ﴿رِجٰالٌ صَدَقُوا مٰا عٰاهَدُوا اللّٰهَ عَلَيْهِ﴾ [الأحزاب:23] في أخذ الميثاق الذي أخذ اللّٰه عليهم فوفوا به و قيل فيهم صدقوا لأنهم غالبوا فيه و في الوفاء به الدعاوي المركوزة في النفوس التي أخرجت بعض من أخذ عليه الميثاق أو أكثره عن الوفاء ﴿بِمٰا عٰاهَدَ عَلَيْهُ اللّٰهَ﴾ [الفتح:10] فليس الرجل إلا من صدق مع اللّٰه في الوفاء بما أخذ عليه كما صدق النبي فيما أخذ اللّٰه عليه في ميثاق النبيين و المرسلين و قوله ﴿وَ عَلَى الْأَعْرٰافِ رِجٰالٌ﴾ [الأعراف:46] و هم أعظم الرجال في المنزلة فإن لهم الاستشراف على المنازل فما أشار بالأعراف هنا هذا الشيخ إلى من تساوت حسناته و سيئاته و إنما أخذه من حيث منزلة الاستشراف فإن الأعراف هنا هو السور الذي بين الجنة و النار ﴿بٰاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ﴾ [الحديد:13] و هو الذي يلي الجنة ﴿وَ ظٰاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذٰابُ﴾ [الحديد:13] و هو الذي يلي النار فجعل النار من قبله أي يقابله و المقابل ضد فلم يجعل السور محلا للعذاب و جعله محلا للرحمة بقوله ﴿بٰاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ﴾ [الحديد:13] فانظر ما أعجب تنبيه اللّٰه عباده بحقائق الأمور على ما هي عليه ﴿وَ لٰكِنَّ أَكْثَرَ النّٰاسِ لاٰ يَعْلَمُونَ﴾ [الأعراف:187] فأهل الأعراف في محل رحمة اللّٰه و ذلك هو الذي أطمعهم في الجنة و إن كانوا بعد ما دخلوها ثم ذكر أن لهم المعرفة بمقام الخلق فقال ﴿يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمٰاهُمْ﴾ [الأعراف:46] أي بما جعلنا فيهم من العلامة و قوله ﴿وَ نٰادَوْا أَصْحٰابَ الْجَنَّةِ﴾ [الأعراف:46] ... ﴿لَمْ يَدْخُلُوهٰا﴾ [الأعراف:46] فإنهم في مقام الكشف للأشياء فلو دخلوا الجنة استتر عنهم بدخولهم فيها و سترتهم لأنها جنة عن كشف ما هم له كاشفون و قولهم ﴿سَلاٰمٌ عَلَيْكُمْ﴾ [الأنعام:54] تحية إقبال عليهم لمعرفتهم بهم و تحية لانصرافهم عنهم