الفتوحات المكية - طبعة بولاق الثالثة (القاهرة / الميمنية) |
![]() |
![]() |
|||||||||
الصفحة - من الجزء (عرض الصورة)![]() ظهرت في أعيننا مظلمة كما يخرج اللبن ﴿مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَ دَمٍ لَبَناً خٰالِصاً سٰائِغاً لِلشّٰارِبِينَ﴾ تخزنه ضروع مواشيهم و إبلهم لهم كما يخرج من بطون النحل ﴿شَرٰابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوٰانُهُ فِيهِ شِفٰاءٌ لِلنّٰاسِ﴾ [النحل:69] و اللّٰه يقول ﴿اَللّٰهُ نُورُ السَّمٰاوٰاتِ وَ الْأَرْضِ﴾ [النور:35] و لو لا النور ما ظهر للممكنات عين و «قول رسول اللّٰه ﷺ في دعائه اللهم اجعل في سمعي نورا و في بصري نورا و في شعري نورا حتى قال و اجعلني نورا» و هو كذلك و إنما طلب مشاهدة ذلك حتى يظهر للابصار فإن النور المعنوي خفي ﴿لاٰ تُدْرِكُهُ الْأَبْصٰارُ﴾ [الأنعام:103] فأراد رسول اللّٰه ﷺ أن يدرك بالحس ما أدركه بالإيمان و العقل و ذلك لا يظهر إلا لأرباب المجاهدات النار في أحجارها مخبوءه *** لا تصطلي ما لم تثرها الأزند فنحن نعلم أن ثم نار أو لا نرى لها تسخينا في الحجر و لا إحراقا في المرخ و العفار و هكذا جميع الموجودات لمن نظر و استبصر أو من شاهد فاعتبر فالحق مخبوء في الخلق من كونه نورا فإذا قدحت زناد الخلق بالفكر ظهر نور الحق «من عرف نفسه عرف ربه» فمن عرف القدح و ميز الزناد فالنار عنده فهو ﴿عَلىٰ نُورٍ مِنْ رَبِّهِ﴾ [الزمر:22] متى شاء أظهرها فهو الظاهر و متى شاء أخفاها فهو الباطن فإذا بطن ف ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [الشورى:11] و إذا ظهر ف ﴿هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [الإسراء:1] فالقادح ما جاء بنور من عنده فالحق معنا أينما كنا في عدم أو وجود فبمعيته ظهرنا فنحن ذو نور و لا شعور لنا فلله ما لله من عين كوننا *** و للكون ما للكون من نور ذاته فنحن كثير و المهيمن واحد *** توحد في أسمائه و صفاته و إنما قلنا نحن كثير و هو واحد لأن الأزند كثير و النار من كل زناد منها واحد العين فسواء كان الزناد حجرا أو شجرا و لهذا اختلفت المقالات في اللّٰه و المطلوب واحد فكل ما ظهر لكل طالب فليس إلا اللّٰه لا غيره فالكل منه بدأ و إليه يعود و إنما سمي طالب النار في الزناد قادحا لأن طلب الحق من الخلق ليعرف ذاته قدح في العلم الصحيح بذاته فإنه لا يعلم منه إلا المرتبة و هي كونه إلها واحدا خاصة فإن رام العلم بذاته و هي المشاهدة و لا تكون المشاهدة إلا عن تجليه و لا يكون ذلك إلا بالقدح فيه فإنك لا تراه إلا مقيدا قيده عقلك بنظره و تجلى لك في صورة تقييدك و هذا قدح فيما هو عليه في نفس الأمر و لو لا ما أنت في نفسك ذو نور عقلي ما عرفته و ذو نور بصري ما شهدته فما شهدته إلا بالنور و ما ثم نور إلا هو فما شهدته و لا عرفته إلا به فهو نور السموات من حيث العقول و الأرض من حيث الأبصار و ما جعل اللّٰه عزَّ وجلَّ صفة نوره إلا بالنور الذي هو المصباح و هو نور أرضي لا سماوي فشبه نوره بالمصباح و رؤيتنا إياه كرؤيتنا الشمس و القمر أي و إن كان كالمصباح فإنه يعلو في الرؤية و الإدراك عن رؤية المصباح فهو بنفسه أرضى لأنه لو لا نزوله إلينا ما عرفناه و هو بالرؤية سماوي فانظر ما أحكم علم الشارع بالله أين هو من نظر العقل و لهذا قال ﴿لاٰ تُدْرِكُهُ الْأَبْصٰارُ﴾ [الأنعام:103] لأنه نور و النور لا يدرك إلا بالنور فلا يدرك إلا به ﴿وَ هُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصٰارَ﴾ [الأنعام:103] لأنه نور ﴿وَ هُوَ اللَّطِيفُ﴾ [الأنعام:103] لأنه يلطف و يخفى في عين ظهوره فلا يعرف و لا يشهد كما يعرف نفسه و يشهدها ﴿اَلْخَبِيرُ﴾ [الأنعام:18] علم ذوق و ما قال لا تدركه الأنوار فلو لا النور لم تشهده عين *** و لو لا العقل لم يعرفه كون فبالنور الكوني و الإلهي كان ظهور الموجودات التي لم تزل ظاهرة له في حال عدمها كما هي لنا في حال وجودها فنحن ندركها عقلا في حال عدمها و ندركها عينا في حال وجودها و الحق يدركها عينا في الحالين فلو لا إن الممكن في حال عدمه على نور في نفسه ما قبل الوجود و لا تميز عن المحال فبنور إمكانه شاهده الحق و بنور وجوده شاهده الخلق فبين الحق و الخلق ما بين الشهودين فالحق نور في نور و الخلق نور في ظلمة في حال عدمه و أما في حال وجوده فهو نور على نور لأنه عين الدليل على ربه و ما يحتمل هذا الوصل أكثر من هذا فإن فيه مكرا خفيا لعدم المثل للحق و لا يتمكن أن يشهد و يعلم إلا بضرب مثل و لهذا جعل لنا مثل نوره في السموات و الأرض ﴿كَمِشْكٰاةٍ فِيهٰا مِصْبٰاحٌ الْمِصْبٰاحُ فِي زُجٰاجَةٍ الزُّجٰاجَةُ كَأَنَّهٰا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبٰارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لاٰ شَرْقِيَّةٍ وَ لاٰ غَرْبِيَّةٍ يَكٰادُ زَيْتُهٰا يُضِيءُ وَ لَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نٰارٌ﴾ [النور:35] ثم قال ﴿نُورٌ عَلىٰ نُورٍ يَهْدِي اللّٰهُ لِنُورِهِ﴾ [النور:35] من هذين النورين فيعلم المشبه و المشبه به ﴿مَنْ يَشٰاءُ وَ يَضْرِبُ اللّٰهُ الْأَمْثٰالَ﴾ [النور:35] فجعله ضرب مثل للتوصيل و يجوز في ضرب الأمثال المحال الذي لا يمكن وقوعه فكما لا يكون المحال الوجود وجودا بالفرض كذلك |
|
|||||||||
![]() |
![]() |
|||||||||
الفتوحات
المكية للشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي ترقيم الصفحات موافق لطبعة القاهرة (دار الكتب العربية الكبرى) - المعروفة بالطبعة الميمنية. وقد تم إضافة عناوين فرعية ضمن قوسين مربعين. |