الفتوحات المكية - طبعة بولاق الثالثة (القاهرة / الميمنية) |
![]() |
![]() |
|||||||||
الصفحة - من الجزء (عرض الصورة)![]() و بأنه لا يشك فيه و ما علم إن ذلك من تجلى أحد محتملاته فإذا غاب عنه ذلك الوارد قامت معه المحتملات على السواء فلم يترجح عنده ذلك إلا بطريق الظن لا بالعلم فانظر يا أخي ما أخفى غوائل النفس و ما أعظم حجاب الجهل مع كونه عدما فكيف بنا لو كان وجود فلله الحمد و المنة و إنما نبهناك على هذا لتعلم حظك من الايمان و منزلتك «فإن النبي ﷺ يقول في الحديث الصحيح عنه لا يزني الزاني حين يزني و هو مؤمن» أي مصدق بالعقاب عليه فإنه تعالى قد يغفر و إن الايمان إذا لم يعط الكشف الذي يعطيه العلم فليس بإيمان [أن العلم يعطي العمل من خلف حجاب رقيق]فاعلم أن العلم يعطي العمل من خلف حجاب رقيق و «في حديث آخر عن رسول اللّٰه ﷺ في الزاني إذا زنى خرج عنه الايمان حتى صار عليه كالظلة» و لنا فيه تأويل حسن و هو أن الزاني قد تعرض لبلاء من اللّٰه ينزل عليه فيخرج الايمان حتى يصير عليه كالظلة يمنع نزول ذلك البلاء عليه إن نزل فلا تغفل يا ولي عن هذا القدر الذي نبهتك عليه أ لا ترى اللّٰه تعالى ما نصب الآيات و كثرها إلا ليحصل بها العلم لعلمه أن العلم إذا حصل لزم العمل أ لا ترى إلى شارب الدواء و هو عمل ما شربه و تجرع مرارته إلا لعلمه أن ثم دواء مزيلا لهذه العلة التي يشكو منها فيقول عسى يكون ذلك الدواء عين هذا الذي شربته فيشربه بالإمكان و الترجي فكيف به لو علم أنه عين الدواء بلا شك لسارع إليه فهذا حاله مع الترجي و الإمكان فإن قلت فقوله تعالى ﴿وَ أَضَلَّهُ اللّٰهُ عَلىٰ عِلْمٍ﴾ [الجاثية:23] في حق ﴿مَنِ اتَّخَذَ إِلٰهَهُ هَوٰاهُ﴾ [الفرقان:43] قلنا إن الإله له القوة في المألوه و إله هذا هو هواه فحكم عليه و أضله عن سبيل اللّٰه و أما قوله ﴿عَلىٰ عِلْمٍ﴾ [الأعراف:52] يعني من أنه أضله اللّٰه على علم لا إن الضال على علم فإن الضال هو الحائر الذي لا يعرف في أي جهة هو مطلوبه فمتعلق على علم أضله و هو العامل فيه و هو فعل اللّٰه تعالى و الذي على اللّٰه إنما هو البيان خاصة قال تعالى ﴿وَ مٰا كٰانَ اللّٰهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدٰاهُمْ حَتّٰى يُبَيِّنَ لَهُمْ مٰا يَتَّقُونَ﴾ [التوبة:115] أي ليحير قوما بعد أن هداهم في أخذ الميثاق و الفطرة التي ولدوا عليها حتى يبين لهم ما يتقون فإذا أبان لهم حيرهم فمنهم من حيره بالواسطة فشك في النبوة و حار فيها و ما تحقق إن هذا نبي فتوقف في الأخذ عنه و منهم من حيره في أصل النبوة هل لها وجود أم لا و منهم من حيره فيما جاء به هذا النبي مما تحيله الأدلة النظرية فأورثهم البيان الإلهي هذه الحيرة و ذلك لعدم الايمان فلم يكن لهم نور إيمان يكشف لهم عن حقيقة ما قاله اللّٰه و أبان عنه ﴿وَ مَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللّٰهُ لَهُ نُوراً﴾ [النور:40] هنا من إيمانه ﴿فَمٰا لَهُ مِنْ نُورٍ﴾ [النور:40] في القيامة ﴿أَنَّ اللّٰهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [البقرة:231] فيعمل بما علم أنه يكون كونه و ما علم أنه لا يكون لم يكونه فكان عمله بعلمه قل ﴿أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ﴾ [النساء:166] و الإنزال عمل أوجده العلم فلما أبان الحق ما أبانه لعباده فمنهم من رزقه اللّٰه العلم فعمل به و منهم من حرمه اللّٰه العلم فضل و حار و شك و ارتاب و توقف و أما قوله تعالى ﴿اَلَّذِينَ آتَيْنٰاهُمُ الْكِتٰابَ يَعْرِفُونَهُ كَمٰا يَعْرِفُونَ أَبْنٰاءَهُمْ﴾ [البقرة:146] فإنهم مصدقون بكتابهم و هذا النعت فيه و قد أبصروه فيعلمون أنه عين هذا النعت و لا يعرفون الشخص الذي قام به هذا النعت لجواز أنه يقوم ذلك النعت بأشخاص كثيرين فدخلهم الاحتمال في الشخص لا في النعت و أما قوله تعالى ﴿وَ إِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ﴾ [البقرة:146] أنه الحق فيكتمونه عن مقلديهم و عن النبي عليه السّلام أنهم عرفوه أنه صاحب هذا النعت و لا يلزم من العالم بالحق الإقرار به في الظاهر و إنما يستلزمه التصديق به في الباطن فهو مصدق به و إن كذبه باللسان فقد عمل بما علم و هو التصديق و قوله تعالى في مثل هذا ﴿وَ اسْتَيْقَنَتْهٰا أَنْفُسُهُمْ﴾ [النمل:14] أنها آيات فعلموا و عملوا بما علموا و هو التيقن الذي هو استقرار العلم في النفس فلو لا ما علموا ما تيقنوا و ما كل عمل يعطي عموم النجاة بل يعطي من النجاة قدرا مخصوصا من عموم أو خصوص فإن قلت فإن أهل النار قد علموا صدق اللّٰه في إنفاذ الوعيد و قالوا ﴿رَبَّنٰا أَخْرِجْنٰا نَعْمَلْ صٰالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنّٰا نَعْمَلُ﴾ [فاطر:37] فلا نشك أنهم في هذه الحال حصل لهم العلم و اللّٰه يقول ﴿وَ لَوْ رُدُّوا لَعٰادُوا لِمٰا نُهُوا عَنْهُ﴾ [الأنعام:28] مع هذا العلم الذوقي الذي حصل لهم قلنا لما علم اللّٰه أن هذه الدار الدنيا جعلها اللّٰه على طبيعة مخصوصة و جعل نشأة الإنسان على مزاج يقبل النسيان و الغفلة و حب العاجلة و يقبل ضد هذا على حسب ما يقام فيه فعلم سبحانه أن نشأة هؤلاء الذين عينهم أنهم لو ردوا إلى الدنيا في نشأتهم التي كانوا عليها في الدنيا لعادوا إلى نسيان ما كانوا قد علموا و جعل على أعينهم غطاء على ما لو شهدوه لعلموا الأمر فعملوا له فهذا معنى لعادوا لما نهوا عنه لأن النشأة ليست إلا تلك فلو بقي لهم هذا العلم لما عادوا «أ لا ترى النبي ﷺ يقول في الصحيح عنه إنه يؤتى في القيامة بأنعم» |
|
|||||||||
![]() |
![]() |
|||||||||
الفتوحات
المكية للشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي ترقيم الصفحات موافق لطبعة القاهرة (دار الكتب العربية الكبرى) - المعروفة بالطبعة الميمنية. وقد تم إضافة عناوين فرعية ضمن قوسين مربعين. |