الفتوحات المكية - طبعة بولاق الثالثة (القاهرة / الميمنية) |
![]() |
![]() |
||||||||
الصفحة - من الجزء (عرض الصورة)![]() هنا إلا لأمر دقيق لا يشعر به كثير من المؤمنين العلماء و قد نبه اللّٰه عليه لمن ﴿أَلْقَى السَّمْعَ وَ هُوَ شَهِيدٌ﴾ [ق:37] و ذلك أن المنافقين هنا ﴿إِذٰا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قٰالُوا آمَنّٰا﴾ [البقرة:14] لو قالوا ذلك حقيقة لسعدوا ﴿وَ إِذٰا خَلَوْا إِلىٰ شَيٰاطِينِهِمْ قٰالُوا إِنّٰا مَعَكُمْ﴾ [البقرة:14] لو قالوا ذلك و سكتوا ما أثر فيهم الذم الواقع و إنما زادوا ﴿إِنَّمٰا نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ﴾ [البقرة:14] فشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كاذبين فما أخذوا إلا بما أقروا به و إلا لو أنهم بقوا على صورة النفاق من غير زيادة لسعدوا أ لا ترى اللّٰه لما أخبر عن نفسه في مؤاخذته إياهم كيف قال ﴿اَللّٰهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ﴾ [البقرة:15] فما أخذهم بقولهم ﴿إِنّٰا مَعَكُمْ﴾ [البقرة:14] و إنما أخذهم بما زادوا به على النفاق و هو قولهم ﴿إِنَّمٰا نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ﴾ [البقرة:14] و ما عرفك اللّٰه بالجزاء الذي جازى به المنافق إلا لتعلم من أين أخذ من أخذ حتى تكون أنت تجتنب موارد الهلاك و «قد قال عليه السّلام إن مداراة الناس صدقة» فالمنافق يداري الطرفين مداراة حقيقة و لا يزيد على المداراة فإنه يجني ثمرة الزائد كان ما كان فتفطن فقد نبهتك على سر عظيم من أسرار القرآن و هو واضح و وضوحه إخفاء و انظر في صورة كل منافق تجده ما أخذ إلا بما زاد على النفاق و بذلك قامت عليه الحجة و لو لم يكن كذلك الحشر على الأعراف مع أصحاب الأعراف و كان حاله حال أصحاب الأعراف ﴿وَ لٰكِنْ لِيَقْضِيَ اللّٰهُ أَمْراً كٰانَ مَفْعُولاً﴾ [الأنفال:42] فالمؤمن المداري منافق و هو ناج فاعل خير فإنه إذا انفرد مع أحد الوجهين أظهر له الاتحاد به و لم يتعرض إلى ذكر الوجه الآخر الذي ليس بحاضر معه فإذا انقلب إلى الوجه الآخر كان معه أيضا بهذه المثابة و الباطن في الحالتين مع اللّٰه فإن المقام الإلهي هذه صورته فإنه لعباده بالصورتين فنزه نفسه و شبه فالمؤمن الكامل بهذه المثابة و هذا عين الكمال فاحذر من الزيادة على ما ذكرته لك و كن متخلقا بأخلاق اللّٰه و قد قال تعالى لنبيه ﷺ ممتنا عليه ﴿فَبِمٰا رَحْمَةٍ مِنَ اللّٰهِ لِنْتَ لَهُمْ﴾ [آل عمران:159] و اللين خفض الجناح و المداراة و السياسة أ لا ترى إلى الحق تعالى يرزق الكافر على كفره و يمهل له في المؤاخذة عليه و قال عزَّ وجلَّ لموسى و هارون في حق فرعون ﴿فَقُولاٰ لَهُ قَوْلاً لَيِّناً﴾ [ طه:44] و هذه عين المداراة فإنه يتخيل في ذلك إنك معه و من هذا المقام لما ذقته و اتحدت به اتفق لي أني صحبت الملوك و السلاطين و ما قضيت لأحد من خلق اللّٰه عند واحد منهم حاجة إلا من هذا المقام و ما زدني أحد من الملوك في حاجة التمستها منه لأحد من خلق اللّٰه و ذلك أني كنت إذا أردت أن أقضي عنده حاجة أحد أبسط له بساطا استدرجه فيه حتى يكون الملك هو الذي يسأل و يطلب قضاء تلك الحاجة مسارعا على الفور بطيب نفس و حرص لما يرى له فيها من المنفعة فكنت أقضي للسلطان حاجة بأن أقبل منه قضاء حاجة ذلك الإنسان و لقد كلمت الملك الظاهر بأمر اللّٰه صاحب حلب في حوائج كثيرة فقضى لي في يوم واحد مائة حاجة و ثمان عشرة حاجة للناس و لو كان عندي في ذلك اليوم أكثر من هذا قضاء طيب النفس راغبا و إذا حصل للإنسان هذه القوة انتفع به الناس عند الملوك فما في العالم أمر مذموم على الإطلاق و لا محمود على الإطلاق فإن الوجوه و قرائن الأحوال تقيده فإن الأصل التقييد لا الإطلاق فإن الوجود مقيد بالضرورة و لذلك يدل الدليل على إن كل ما دخل في الوجود فإنه متناه فالإطلاق الصحيح إنما يرجع لمن في قوته إن يتقيد بكل صورة و لا يطرأ عليه ضرر من ذلك التقييد و ليس هذا إلا لمن تحقق بالمداراة و هو الإمعة و اللّٰه عزَّ وجلَّ يقول ﴿وَ هُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مٰا كُنْتُمْ﴾ [الحديد:4] فهي أشرف الحالات لمن عرف ميزانها و تحقق بها و هو واحد و أين ذلك الواحد إلا إن النفاق هو النفاق *** إليه إذا تحققت المساق فكن فيه تكن بالحق صرفا *** و تحمده إذ شد الوثاق إذا ما كنت معتمد الشيء *** فأنت له إذا فكرت ساق على العمد الذي قد غاب عنا *** إذا ما كنت تعتمد الطباق فكن ذاك العماد تكن إماما *** فيظهر عندك الدين الوفاق فتدبر القرآن من كونه فرقانا و قرآنا فللقرآن موطن و للفرقان موطن فقم في كل موطن باستحقاقه تحمدك المواطن و المواطن شهداء عدل عند اللّٰه فإنها لا تشهد إلا بصدق و قد نصحتك فاعمل و اللّٰه الموفق قلنا و في هذا المنزل من العلوم علم دقيق خفي لا يشعر به لخفائه مع ظهوره فإن العلماء بالله قد علموا شمول الرحمة |
|
||||||||
![]() |
![]() |
||||||||
الفتوحات
المكية للشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي ترقيم الصفحات موافق لطبعة القاهرة (دار الكتب العربية الكبرى) - المعروفة بالطبعة الميمنية. وقد تم إضافة عناوين فرعية ضمن قوسين مربعين. |