و اللين خفض الجناح و المداراة و السياسة أ لا ترى إلى الحق تعالى يرزق الكافر على كفره و يمهل له في المؤاخذة عليه و قال عزَّ وجلَّ لموسى و هارون في حق فرعون ﴿فَقُولاٰ لَهُ قَوْلاً لَيِّناً﴾ [ طه:44] و هذه عين المداراة فإنه يتخيل في ذلك إنك معه و من هذا المقام لما ذقته و اتحدت به اتفق لي أني صحبت الملوك و السلاطين و ما قضيت لأحد من خلق اللّٰه عند واحد منهم حاجة إلا من هذا المقام و ما زدني أحد من الملوك في حاجة التمستها منه لأحد من خلق اللّٰه و ذلك أني كنت إذا أردت أن أقضي عنده حاجة أحد أبسط له بساطا استدرجه فيه حتى يكون الملك هو الذي يسأل و يطلب قضاء تلك الحاجة مسارعا على الفور بطيب نفس و حرص لما يرى له فيها من المنفعة فكنت أقضي للسلطان حاجة بأن أقبل منه قضاء حاجة ذلك الإنسان و لقد كلمت الملك الظاهر بأمر اللّٰه صاحب حلب في حوائج كثيرة فقضى لي في يوم واحد مائة حاجة و ثمان عشرة حاجة للناس و لو كان عندي في ذلك اليوم أكثر من هذا قضاء طيب النفس راغبا و إذا حصل للإنسان هذه القوة انتفع به الناس عند الملوك فما في العالم أمر مذموم على الإطلاق و لا محمود على الإطلاق فإن الوجوه و قرائن الأحوال تقيده فإن الأصل التقييد لا الإطلاق فإن الوجود مقيد بالضرورة و لذلك يدل الدليل على إن كل ما دخل في الوجود فإنه متناه فالإطلاق الصحيح إنما يرجع لمن في قوته إن يتقيد بكل صورة و لا يطرأ عليه ضرر من ذلك التقييد و ليس هذا إلا لمن تحقق بالمداراة و هو الإمعة و اللّٰه عزَّ وجلَّ يقول ﴿وَ هُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مٰا كُنْتُمْ﴾ [الحديد:4] فهي أشرف الحالات لمن عرف ميزانها و تحقق بها و هو واحد و أين ذلك الواحد
إلا إن النفاق هو النفاق *** إليه إذا تحققت المساق
فكن فيه تكن بالحق صرفا *** و تحمده إذ شد الوثاق
إذا ما كنت معتمد الشيء *** فأنت له إذا فكرت ساق
على العمد الذي قد غاب عنا *** إذا ما كنت تعتمد الطباق
فكن ذاك العماد تكن إماما *** فيظهر عندك الدين الوفاق
فتدبر القرآن من كونه فرقانا و قرآنا فللقرآن موطن و للفرقان موطن فقم في كل موطن باستحقاقه تحمدك المواطن و المواطن شهداء عدل عند اللّٰه فإنها لا تشهد إلا بصدق و قد نصحتك فاعمل و اللّٰه الموفق قلنا و في هذا المنزل من العلوم علم دقيق خفي لا يشعر به لخفائه مع ظهوره فإن العلماء بالله قد علموا شمول الرحمة و المؤمنون قد علموا اتساعها ثم يرونها مع الشمول و الاتساع ما لها صورة في بعض المواطن و مع كونها ما لها صورة ظاهرة في بعض المواطن فإن الحكم لها في ذلك الموطن الذي ما لها فيه صورة و لا يكون لها حكم إلا بوجودها و لكن هو خفي لبطونها جلي لظهور حكمها و أكثر ما يظهر ذلك في صنعة الطب و إقامة الحدود فالله يقول في إقامة الحدود في حد الزاني و الزانية
هذه نسخة نصية حديثة موزعة بشكل تقريبي وفق ترتيب صفحات مخطوطة قونية