«الوصل الثالث و العشرون»من خزائن الجود و هذه خزانة الاعتدال
و إعطاء كل ذي حق حقه فهي خزانة العدل لا خزانة الفضل من هذه الخزانة يقيم اللّٰه العدل في العالم بين عباده و هي خزانة ينقطع حكمها و يغلق بابها و إن خزانة الفصل تنعطف عليها و ﴿إِنَّ اللّٰهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ﴾ [النحل:90] لما فيه من الفضل لمن أخذ له بالحق ﴿وَ الْإِحْسٰانِ﴾ [النحل:90] معطوف على العدل في الأمر به فيكون من ظهر فيه سلطان العدل و أخذ بجريمته أن يعطف عليه بالإحسان فينقضي أمر المؤاخذة و لا ينقضي أمد الإنعام و الإحسان و قد يكون الإحسان ابتداء و جزاء للإحسان الكوني كما جاء في قوله تعالى ﴿هَلْ جَزٰاءُ الْإِحْسٰانِ إِلاَّ الْإِحْسٰانُ﴾ [الرحمن:60] و قوله سبحانه ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنىٰ﴾ [يونس:26] جزاء و زيادة الإحسان بعد العدل و الإحسان قبل المؤاخذة ﴿وَ جَزٰاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهٰا فَمَنْ عَفٰا وَ أَصْلَحَ﴾ [الشورى:40] و لم يجاز بالسيئة على السيئة فهو أولى ﴿فَأَجْرُهُ عَلَى اللّٰهِ﴾ [الشورى:40] أي هذه صفة الحق فيمن عفي عنه فيما هو حق له معرى عن حق الغير فإقامة العدل إنما هو في حق الغير لا فيما يختص بالجناب الإلهي فما كان اللّٰه ليأمر بمكارم خلق و لا يكون الجناب الإلهي موصوفا به و لهذا جعل أجر العافين عن الناس على اللّٰه و هذه الخزانة أرسلت حجب الأسرار دون أعين الناس و هو ما أخفى الحق عنهم من الغيوب و هو قوله تعالى ﴿عٰالِمُ الْغَيْبِ فَلاٰ يُظْهِرُ عَلىٰ غَيْبِهِ أَحَداً إِلاّٰ مَنِ ارْتَضىٰ مِنْ رَسُولٍ﴾ فإنه لا يحيط من علم غيب اللّٰه إلا بما شاء اللّٰه كما رفعت الستور و انكشفت الأنوار فأدركت البصائر بها كل معقول و أدركت الأبصار بها كل مبصر فأحاط العقل بهذه الأنوار كلما يمكن أن يدرك عقلا و أحاط البصر بهذه الأنوار كلما يمكن أن يدرك حسا و هذا لخصوص عباده المصطفين الأخيار فلهم الكشف الدائم للخلق الجديد فلا يتناهى كشفهم كما لا يتناهى الخلق الجديد في العالم ثم إن هذه الخزانة تعطي في العلم الإلهي علم الفاعل و الفعل و المفعول و المفعول فيه و المفعول به و المفعول معه فيقف على التكوين الإلهي و التكوين الكياني فيعلم إن لكل فاعل طريقا يخصه في نسبة الفعل إليه فأما أهل الكرم و الجود على الغير فإن اللّٰه يمكنه من أسباب الخير و يهون عليه الشدائد و يرفع عنه الأمور المحرجة و يخرجه من الظلمات إلى النور و من الضيق إلى السعة و من الغي إلى الرشد و أما من نظر في الحقائق و رأى نفسه أحق بنظره إليها من نظره إلى غيره و إن نظره إلى غيره إنما جعله اللّٰه ليعود بما فيه من الخير على نفسه فغفل عن كل شيء سواه فشغل نفسه بنفسه و صرف همته إلى عينه و أعطاها من كل شيء أعطاه الحق حقها فاستغنى بربه و كشف له عن ذاته و رأى جميع العالم في حضرته و رأى الرقائق بينه و بين كل جزء من العالم فعمد يحسن إلى العالم من نفسه على تلك الرقيقة التي بين ما يناسب من العالم و بين المناسب له فيوصل الإحسان لكل ما في العالم بهمته من الغيب كما يوصله الحق من الأسباب فيجهله العالم لأنه لا يشهده في الإحسان كما يجهل الحق بالأسباب فيقول لو لا كذا ما كان كذا و نسي الحق في جنب السبب فلا بد أن ينسى هذا العبد الكامل و كما أن لله عبادا و إن وقفوا مع الأسباب يقولون هذا من عند اللّٰه ليس للسبب فيه حكم كذلك لله عباد يقولون هذا ببركة فلان و همته و لو لا همته ما جرى كذا و ما دفع اللّٰه عنا كذا و منهم من يقول ذلك عقدا و إيمانا و منهم من يقول ذلك عن غلبة ظن فهذا عبد قد أقامه الحق في قلوب عباده مقامه في الحالين فالناس ينطقون بذلك و لا يعرفون أصله و «قد ورد في الحديث الصحيح أن رسول اللّٰه ﷺ قال لأصحابه من الأنصار في واقعة وقعت في فتح مكة في غزوة حنين فقال لهم أ لم تكونوا ضلالا فهداكم اللّٰه بي فذكر نفسه و وجدتكم» ﴿عَلىٰ شَفٰا حُفْرَةٍ مِنَ النّٰارِ فَأَنْقَذَكُمْ﴾ [آل عمران:103] اللّٰه بي و هذا معنى قول الناس هذا ببركة فلان و هذا بهمة فلان و قولهم اجعلني في خاطرك و في همتك و لا تنساني و أشباه هذا فمن أعرض عن هذه المشاهد و لم يفرق بين المشهود و الشاهد فذلك الحائر الخاسر كما أن الآخر هو الرابح في تجارته المقسط بصفقته و الرابحون انقسموا إلى قسمين إلى عاملين على الجزاء و إلى عاملين على الوفاء فالعاملون على الجزاء لهم نعوت تخصهم و العاملون على الوفاء على قسمين عمال لا عمال و عمال عمال و العمال العمال على قسمين عمال بحق و عمال بأنفسهم و كلاهما قائل بالجزاء و العمال لا عمال يرون الجزاء للعمل لا للعامل و العمل لا يقبل نعيم الجزاء فيعود عليهم جزاء العمل و أما جزاء العامل فهم يرون العامل هو اللّٰه و ليس بمحل للجزاء لأن الجزاء على قدر العامل فيحصلون على الجزاء الإلهي و هو القصور عن الوفاء بما يستحقه العامل فهو جزاء لما قام بالعلماء بالله في الثناء عليه بمحامده و هو