الفتوحات المكية - طبعة بولاق الثالثة (القاهرة / الميمنية) |
![]() |
![]() |
|||||||||
الصفحة - من الجزء (عرض الصورة)![]() [البسط عبارة عن حال الرجاء في الوقت]اعلم وفقك اللّٰه أن البسط عند الطائفة عبارة عن حال الرجاء في الوقت و قال بعضهم القبض و البسط أخذ وارد الوقت بحكم قهر و غلبة و البسط عندنا حال حكم صاحبه أن يسع الأشياء و لا يسعه شيء حقيقة البسط لا تكون إلا لرفيع المنزلة رفيع الدرجات فينزل بالحال إلى حال من هو في أدنى الدرجات فيساويه و هو في الجناب الإلهي في مثل قوله تعالى ﴿وَ أَقْرِضُوا اللّٰهَ قَرْضاً حَسَناً﴾ [الحديد:18] و أعظم في النزول ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّٰهَ﴾ [البقرة:245] و لأجل هذا البسط قال من قال ﴿إِنَّ اللّٰهَ فَقِيرٌ وَ نَحْنُ أَغْنِيٰاءُ﴾ [آل عمران:181] و هذا القول تصديق قوله تعالى ﴿وَ لَوْ بَسَطَ اللّٰهُ الرِّزْقَ لِعِبٰادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ﴾ [الشورى:27] و من البسط الإلهي قوله تعالى ﴿يَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَ هُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ﴾ [الشورى:28] و لو لا البسيط الإلهي ما تمكن لأحد من خلق اللّٰه أن يتخلق بجميع الأسماء الإلهية و أعظم تعريف في البسط الإلهي ﴿إِنَّ رَبَّكَ وٰاسِعُ الْمَغْفِرَةِ﴾ [ النجم:32] و ﴿يٰا أَيُّهَا النّٰاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرٰاءُ إِلَى اللّٰهِ﴾ [فاطر:15] فلما تمكن مثل هذا البسط في قلوب العباد ربما أثر في قلوبهم بغيا فتعدوا منزلتهم فلما علم الحق أنه ربما أثر ذلك مرضا في قلوب بعض العباد جعل دواءه تمام الآية و هو قوله ﴿وَ اللّٰهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ﴾ [فاطر:15] فأنزل الداء و الدواء و هذا من نشر رحمته لأن الأدنى في مرتبة تقتضي أن لا يكون صاحب بسط فإن انبسط فليس له إلا أن يجول في غير ميدانه فيكون البسط من الأدنى سوء أدب و لما علم الحق هذا أمر عباده بالتخلق بمكارم الأخلاق و أثنى عليهم بها و جعل ذلك من أعظم أعمال العباد فظهروا بها عن الأمر الإلهي فكان بسطهم عبادة و قربة إلى اللّٰه و هذا من نشر رحمته و اتساع مغفرته و عموم تفضله فبسط العباد بسط عن قبض و بسط الحق لا عن قبض بل له البسط ابتداء ثم بعد ذلك يكون القبض الإلهي و هو «قوله صلى اللّٰه عليه و سلم إن رحمة اللّٰه سبقت غضبه» فمن رحمته و بسطه أوجد الخلق و لا يكون حكم القبض و البسط إلا مع ثبوت الأغيار و لو لا الأغيار لم يتحقق بسط و لا قبض فتحقق ذلك [إن من أعظم بسط العبد أن يكون خلاقا]و اعلم أن أعظم بسط العبد أن يكون خلاقا فإن تأدب في هذا البسط فهو المذكور الداخل في عموم قوله تعالى ﴿فَتَبٰارَكَ اللّٰهُ أَحْسَنُ الْخٰالِقِينَ﴾ [المؤمنون:14] فأضاف الحسن إلى الخالقين غير إن اللّٰه أحسن الخالقين إذ كان هذا النعت من خصوص وصف الإله لأنه قال تعالى في الرد على عبدة الأوثان ﴿أَ فَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لاٰ يَخْلُقُ﴾ [النحل:17] فنفى الخلق عن الخلق فلو لم يرد عموم نفي الخلق عن الخلق لم تقم به حجة على من عبد فرعون و أمثاله ممن أمر من المخلوقين أن يعبد من دون اللّٰه و لم يكن هؤلاء ممن يدخل في عموم الخالقين من قوله ﴿أَحْسَنُ الْخٰالِقِينَ﴾ [المؤمنون:14] فإنهم لم يتصفوا بالإحسان في الخلق فإن الإحسان في العباد أن تعبد اللّٰه كأنك تراه فتعلم من هو الخالق على الحقيقة فلما كان هذا النعت من خصوص وصف الإله و قد أضاف الخلق إلى الخلق انفرد هو بالنظر إلى ما أثبت من الخلق للخلق بالأحسن في ذلك فقال أحسن الخالقين و هو معنى قوله تعالى ﴿فَتَبٰارَكَ اللّٰهُ أَحْسَنُ الْخٰالِقِينَ﴾ [المؤمنون:14] و البركة الزيادة فزاد أحسن في قوله ﴿أَحْسَنُ الْخٰالِقِينَ﴾ [المؤمنون:14] و ما أحسن قوله تعالى ﴿أَ فَرَأَيْتُمْ مٰا تُمْنُونَ أَ أَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخٰالِقُونَ﴾ و لم يقل أ أنتم تخلقون منه و لا فيه و إنما قال تخلقونه فأراد عين إيجاده منيا خاصة و الاسم المصور هو الذي يتولى فتح الصورة فيه أي صورة شاء من الجنس أو غيره و هو قوله ﴿فِي أَيِّ صُورَةٍ مٰا شٰاءَ رَكَّبَكَ﴾ [الإنفطار:8] فهو الاسم المصور و هنا أسرار من علوم الطبيعة لما جعل اللّٰه فيها من الاشتراك في التكوين فهل هي سبب من جملة الأسباب التي تفعل لعينها بذاتها فيكون الحق يفعل بها لا عندها أو تكون من الأسباب التي يفعل الحق مسببها عندها لا بها و يتفاوت هنا نظر النظار و أما أهل الكشف فيعلمون ذلك ابتداء عند الكشف من غير نظر لعلمهم بمرتبة الطبيعة و أن منزلتها منزلة جميع الحقائق و الحقائق لا تتبدل فيجرونها مجراها و ينزلونها منزلتها فبسط العلماء بالله هو عين العلم بالله فإذا علموا علموا من انبسط و من له البسط و علموا من انقبض و من له القبض فيبقى عندهم كل أمر على أصله و حقيقته لا تبديل عندهم في ذلك و لا تحويل لأنهم على سنة اللّٰه ﴿فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللّٰهِ تَبْدِيلاً وَ لَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللّٰهِ تَحْوِيلاً﴾ [فاطر:43] فأهل سنة اللّٰه لهم البسط المحقق لأن البسط نشر و النشر ظهور و لو لا الظهور ما أدركت الأشياء فبسط العارفين على يقين *** و بسط الخلق تخمين و حدس إذا خشعت الأصوات للرحمن فكيف يكون الحال مع الجبار خشوع حياء لا خشوع مهانة *** و هيبة إجلال و قبض تأدب |
|
|||||||||
![]() |
![]() |
|||||||||
الفتوحات
المكية للشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي ترقيم الصفحات موافق لطبعة القاهرة (دار الكتب العربية الكبرى) - المعروفة بالطبعة الميمنية. وقد تم إضافة عناوين فرعية ضمن قوسين مربعين. |