الفتوحات المكية - طبعة بولاق الثالثة (القاهرة / الميمنية) |
![]() |
![]() |
|||||||||
الصفحة - من الجزء (عرض الصورة)![]() و لا عبثا و لا يستعمله إلا عبد السميع و عبد البصير بل له دخول في كل اسم إلهي لكل عبد مضاف إلى ذلك الاسم مثل عبد الرءوف فإنه يرأف بعباد اللّٰه و جاء الميزان في إقامة الحدود فأزال حكم الرأفة من المؤمن فإن رأف في إقامة الحد فليس بمؤمن و لا استعمل الميزان و كان من الذين يخسرون الميزان فيتوجه عليه بهذه الرأفة اللؤم حيث عدل بها عن ميزانها فإن اللّٰه يقول ﴿وَ لاٰ تَأْخُذْكُمْ بِهِمٰا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللّٰهِ﴾ [النور:2] و هو الرءوف تعالى و مع علمنا بأنه الرءوف شرع الحدود و أمر بإقامتها و عذب قوما بأنواع العذاب الأدنى و الأكبر : فعلمنا إن للرأفة موطنا لا نتعداه و أن اللّٰه يحكم بها حيث يكون وزنها فإن اللّٰه ينزل كل شيء منزلته و لا يتعدى به حقيقته كما هو في نفسه فإن الذي يتعدى حدود اللّٰه هو المتعدي لا الحدود فإن الحدود لا تتعدى محدودها فيتجاوزها هذا المخذول و يقف عندها العبد المعتنى به المنصور على عدوه فعبد البصير إما أن يعبد اللّٰه كأنه يراه و هذه عبادة المشبهة و إما أن يعبد اللّٰه لعلمه بأن اللّٰه يراه فهذه عبادة المنزهة و إما أن يعبد اللّٰه بالله فهذه عبادة العلماء بالله فيقولون بالتنزيه و يشهدون التشبيه لا يؤمنون به فإنه ليس عندهم ذلك خبرا و إنما هو عيان و الايمان بابه الخبر فالمحجوب يؤمن بقول المخبر و صاحب الشهود يرى صدق المحبر فكثير ما بين يرى و يؤمن فإن صاحب الرؤية لا يرجع بالنسخ إلا رجوع الناسخ و صاحب الايمان يرجع بالنسخ و يعتقد في المرجوع عنه أنه كفر بعد الرجوع عنه و إن كان مؤمنا به و لكن يؤمن به إنه كان لا يؤمن به إنه كائن لأنه منسوخ فإذا علم اللّٰه من العبد أنه يعلم أنه يراه يمهله فيما يجب بفعله المؤاخذة لأنه علم أنه يعلم أنه يراه فيتربص به ليرجع لأنه تحت سلطان علمه و إن انحجب عن استعماله في الوقت لجريان القدر عليه بالمقدور الذي لا كينونة له إلا فيه و إن اللّٰه يستحيي من عبده فيما لا يستحيي العبد فيه و ذلك إذا علم من العبد أنه يعلم ممن اللّٰه أن ﴿بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ [المؤمنون:88] فيقول الحق ما أعلمته بذلك و رزقته الايمان به إن كان من المؤمنين أو أشهدته ذلك إن كان من أهل الشهود إلا ليكون له ذلك مستندا يستند إليه في إقامة الحجة فكون العبد قد أشهد ذلك أو آمن به و لم يحتج به فما منعه من ذلك إلا الحياء فيما لم يستحيي فيه فإن اللّٰه يستحيي منه أن يؤاخذه بعلمه الذي ما استحيى منه فيه [إن للعبد عينان]و اعلم أن هذه الحضرة أعطت أن يكون للعبد عينان و للحق أعين فقيل في المخلوق ﴿أَ لَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ﴾ [البلد:8] و قال تعالى عن نفسه ﴿تَجْرِي بِأَعْيُنِنٰا﴾ [القمر:14] فمن عينيه كان ذا بصر و بصيرة و من أعينه كانت أعين الخلق عينه فهم لا يبصرون إلا به و إن لم يعلموا ذلك و العالمون الذين يعلمون ذلك يعطيهم الأدب أن يغضوا أبصارهم فيتصفوا بالنقص فإن الغض نقص من الإدراك و قوله ﴿أَ لَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللّٰهَ يَرىٰ﴾ [العلق:14] إرسال مطلق في الرؤية لا غض فيه فإن لم يغضوا مع علمهم فيعلم عند ذلك أنهم مع شهود المقدور الذي لا بد من كونه فهم يرونه كما يراه اللّٰه من حيث وقوعه لا من حيث الحكم عليه بأنه كذا هكذا يراه العلماء بالله فيأتون به على بصيرة و بينة في وقته و على صورته و يرتفع عنهم الحكم فيه فإنه من الشهود الأخروي الذي فوق الميزان و لذلك لا يقدح فيهم لأنه خارج عن الوزن في هذا الموطن و هو قوله في حق رسول اللّٰه ص ﴿عَفَا اللّٰهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ﴾ [التوبة:43] و ﴿لِيَغْفِرَ لَكَ اللّٰهُ مٰا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَ مٰا تَأَخَّرَ﴾ [الفتح:2] فهو سؤال عن العلة لا سؤال توبيخ لأن العفو تقدمه و قوله ﴿حَتّٰى يَتَبَيَّنَ لَكَ﴾ [البقرة:187] إنما هو استفهام مثل قوله ﴿أَ أَنْتَ قُلْتَ لِلنّٰاسِ﴾ [المائدة:116] كأنه يقول أ فعلت ذلك ﴿حَتّٰى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا﴾ [التوبة:43] فهو عند ذلك إما أن يقول نعم أو لا فإن العفو و لا سيما إذا تقدم و التوبيخ لا يجتمعان لأنه من وبخ فما عفا مطلقا فإن التوبيخ مؤاخذة و هو قد عفا و لما كان هذا اللفظ قد يفهم منه في اللسان التوبيخ لهذا جاء بالعفو ابتداء ليتنبه العالم بالله أنه ما أراد التوبيخ الذي يظنه من لا علم له بالحقائق و قال في هذه المرتبة في حق المؤمن العالم «اعمل ما شئت فقد غفرت لك» أي أزلت عنك خطاب التحجير يا محمد فاسترسل مطلقا فإن اللّٰه لا يبيح الفحشاء و هي محكوم عليها فحشاء تلك الأعمال فزال الحكم و بقي عين العمل فما هو ذنب يستر عن عقوبته و إنما الستر الواقع إنما هو بين هذا العمل و بين الحكم عليه بأنه محجور خاصة هذا معنى قد غفرت لك لا ما يفهمه من لا علم له فيمشي هذا الشخص في الدنيا و لا خطيئة عليه بل قد عجل اللّٰه له جنته في الدنيا فهو في حياته الدنيا كالمقتول في سبيل اللّٰه |
|
|||||||||
![]() |
![]() |
|||||||||
الفتوحات
المكية للشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي ترقيم الصفحات موافق لطبعة القاهرة (دار الكتب العربية الكبرى) - المعروفة بالطبعة الميمنية. وقد تم إضافة عناوين فرعية ضمن قوسين مربعين. |