الفتوحات المكية - طبعة بولاق الثالثة (القاهرة / الميمنية) |
![]() |
![]() |
|||||||||
الصفحة - من الجزء (عرض الصورة)
غشاه اللّٰه به فنضجه سبب في عذاب النفس المكلفة و الجلد متنعم في ذلك العذاب المحسوس قال بعض المحبين فهل سمعتم بصب هذا الهجير هو هجير الخائفين من مكر اللّٰه يزجرون به نفوسهم الأمارة بالسوء عسى تنزجر و يأبى الخرق إلا اتساعا و سبب ذلك ما ذكر اللّٰه عن نفسه من اختيار مشيئته بين المغفرة و العذاب فهو غير قاطع بأحد الأمرين ثم إنه يرى الأسماء الإلهية تتقابل في حقه ثم يرى أسماء الفضل تترجح عددا و قوة على أسماء العدل و الانتقام و يرى أن التقابل بين هذه الأسماء إنما يقع بميدان الرحمة التي ﴿وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ﴾ [الأعراف:156] فجرأهم ذلك على ما ارتكبوه من المخالفات و تعدوه من الحدود و انتهكوه من المحارم فلو قطعوا بالمؤاخذة على ما صدر منهم إن ماتوا عن غير توبة كما ذهبت إليه طائفة ما فعلوا ما لا يرضى سيدهم ثم رأوا أنهم في عذاب الحياة الدنيا لا يصبرون تحت حكمه و ينفرون منه طبعا و لا يقبلونه إلا جبرا فيجعله الخائف لنفسه موعظة و ذكرى فإن كان قوي الايمان غير متبحر في التأويل خائضا في بحر الظاهر لا يصرفه للمعاني الباطنة صارف انتفع بالذكرى و إن لم تقم به هذه النعوت و أمثالها و تأول تردى و أردى من اتبعه و كان من الذين ﴿اِتَّبَعُوا أَهْوٰاءَهُمْ﴾ [محمد:14] و كان أمر من هذه صفته فرطا فينتج له هذا الذكر من الأحوال العصمة و من الأسماء الإلهية الاسم الظاهر و الأول و من المعارف معرفة الشهود و قبول الحق صور التجلي الظاهرة و يتحقق بالتقوى كل التحقق فيعلم العلم المجهول الذي لا يصل إليه كل أحد و هو العلم بسرائر المحسوسات و الحواس و الإحساس و المحس و إنما جهله الأكثرون لما نقوله و ذلك أن النفوس مجبولة على حب إدراك المغيبات و استخراج الكنوز و حل الرموز و فتح المغاليق و البحث عن خفيات الأمور و دقائق الحكم و لا ترفع بالظاهر رأسا فإن ذلك عندها في زعمها أبين من فلق الصبح فالنهار عندها لا يخفى على أحد فصاحب هذا الهجير يبدو له من العلم في هذه الظواهر ما لا يخطر بخاطر أحد أن ذلك الذي أدركه صاحب الكشف لهذا العلم يحمله ظاهر ذلك الأمر و لا صورته فإذا نبه عليه صاحب هذا العلم و الكشف عند ذلك يعظم قدره و تظهر حكمته و كثرة خيره و يعلم عند ذلك أنه ما كان يحسبه ﴿هَيِّناً وَ هُوَ عِنْدَ اللّٰهِ عَظِيمٌ﴾ [النور:15] و هذا كله من الاسم الإلهي الظاهر الذي له التقدم في الأمور و الخير كله إنما هو في الأوائل إلا ترى أن الخاطر الأول هو الإلهي الصادق الذي لا يخطئ أبدا فله العصمة و المضاء و فيه يظهر القدر و القضاء و كذلك النظرة الأولى و المسموع الأول و الحركة الأولى و هو الذي يعطي علوم الزجر للزاجر و هي لا تخطي أبدا بل الصحة تصحبها فالأوائل هي الظواهر السوابق و كل ما جاء بعد الخاطر الأول فهو حديث نفس يجيء على أثره فللخاطر الأول التمهيد و التوطئة و هي الظواهر تعطي العقول التشوق إلى ما وراءها فالفطن المصيب النحرير لا يزول عن الأمر الظاهر الأول الذي ورد عليه حتى يستوفي جميع حقائقه و ما تعطيه صورته و يقف على خفيات غيوبه فإذا حصله و قبله علما حينئذ ينتقل إلى ما يرد عليه في أثره الذي هو باطن فإن جهل الظاهر كان بالباطن أجهل فإنه الدليل عليه و إن فرط في تحصيل الأول كان في تحصيل الآخر أشد تفريطا لأن من الحرص على تحصيل العلم بالخاطر الآخر تحصيل الأول فأول الأمر خوف و الرجاء يتلوه فإن تقدمه الرجاء فقد فاته الخوف فإن الماضي لا يسترجع فالتقدم للخوف و قد فاته و ذهب عنه و من له برده و الرجاء في المحل قد منعه سلطانه فالمؤمن من تساوى خوفه و رجاؤه بحيث إنه لا يفضل واحد صاحبه عنده لأنه استعمل كل شيء في محله و أول نشء الإنسان ضعف و لضعفه يتقدمه الخوف على نفسه ثم تكون له القوة بعد هذا الضعف فيأتيه الرجاء بقوته فإنه يتقوى نظره في العلوم و التأويلات فيعظم رجاؤه في جناب الحق و لكن العاقل لا يتعدى به موطنه فإذا خطر له من قوة الرجاء ما يوجب استعمال الخوف عند العاقل العارف عزل الرجاء عن الانفراد بالحكم و أشرك معه الخوف فذلك المؤمن فلا يزال كذلك إلى أن تكمل ذاته الكمال الذي ينتهي إليه أولياء اللّٰه في الورث النبوي في هذا الزمان المحمدي الذي أغلق فيه باب نبوة التشريع و رسالته و بقي باب حكم الاختصاص بالعلوم الإلهية و الأسرار مفتوحا يدخل عليه أهل اللّٰه و أول داخل عليه أهل هذا الذكر جعلنا اللّٰه ممن استوى خوفه و رجاؤه في الحياة الدنيا إلى حين موته عند الاحتضار فيغلب رجاؤه على خوفه ﴿وَ اللّٰهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَ هُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ﴾ [الأحزاب:4] |
|
|||||||||
![]() |
![]() |
|||||||||
| الفتوحات
المكية للشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي ترقيم الصفحات موافق لطبعة القاهرة (دار الكتب العربية الكبرى) - المعروفة بالطبعة الميمنية. وقد تم إضافة عناوين فرعية ضمن قوسين مربعين. |
||||||||||





