«إن اللّٰه في قبلة المصلي» هذا كله حكم المراتب إن عقلت فلو زالت المراتب من العالم لم يكن للاعيان وجود أصلا فافهم فإذا أراد الأعلى أن يعرفه الأدنى لأن الأدنى لا قدم له في العلو و الأعلى له الإحاطة بالأدنى فلا بد أن يتعرف الأعلى إلى الأدنى و لا يمكن ذلك إلا بأن يتنزل إليه الأعلى لأن الأدنى لا يمكن أن يترقى إليه لأنه تنعدم عينه إذ لا قدم له في العلو فالأدنى أبدا لا يزال في رتبته ثابتا و الأعلى له النزول و له الثبوت في رتبته و من ثبوته في رتبته حكم على نفسه بالنزول فهو ثابت في مرتبته العالية في عين نزوله لأن النزول من أحكامها و كذلك فعل اللّٰه تعالى في سفرائه الذين هم رسله إلى خلقه من خلقه فما أرسل رسولا ﴿إِلاّٰ بِلِسٰانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ﴾ [ابراهيم:4] فإذا أرسله عامة كانت العامة قومه فأعطاه جوامع الكلم و هو فصل الخطاب و ما كمل إلا آدم بالأسماء و كمال محمد ﷺ بجوامع الكلم فنزل إليهم برسالة ربهم بلسانهم و لحنهم فما دعاهم إلا بهم ثم إنه ما شرع لهم من الأحكام إلا ما كانوا عليه فما زادهم في ذلك إلا كونها من عند اللّٰه فيحكمون بها على طريق القربة إلى اللّٰه لتورثهم السعادة عند اللّٰه و إنما قلنا ما شرع لهم من الأحكام إلا ما كانوا عليه لأنه لم تخل أمة من الأمم على ناموس تكون عليه لمصالح أحوالها و ليست إلا خمسة فلا بد من واجب أوجبه إمامهم و واضع ناموسهم عليهم و هو الواجب و الفرض عندنا و كذلك المندوب و المحظور و المكروه و المباح لأنه لا بد لهم من حدود في الأحكام يقفون عندها عليها و ما جاءهم الشرع من عند اللّٰه إلا بهذا الذي كانوا عليه من حكم نظرهم فيما يزعمون و هو في نفس الأمر من جعل اللّٰه ذلك في نفوسهم من حيث لا يشعرون و لذلك كان لهم بذلك أجر من اللّٰه من حيث لا يعلمون لكن إذا انقلبوا إليه وجدوا ذلك عنده فلما رأينا أنه ما أرسل رسولا ﴿إِلاّٰ بِلِسٰانِ قَوْمِهِ﴾ [ابراهيم:4] علمنا أنه ما تعرف إلينا حين أراد منا أن نعرفه إلا بما نحن عليه لا بما تقتضيه ذاته و إن كان تعرفه إلينا بنا مما تقتضيه ذاته و لكن يختلف اقتضاء ذاته بين ما يتميز به عنا و بين ما يتعرف به إلينا و لما كان الخلق على مراتب كثيرة و كان أكمل مرتبة فيه الإنسان كان كل صنف من العالم جزءا بالنظر إلى كمال الإنسان حتى الإنسان الحيوان جزء من الإنسان الكامل فكل معرفة لجزء من العالم بالله معرفة جزئية إلا الإنسان فإن معرفته بالله معرفة العالم كله بالله فعلمه بالله علم كلي لا علم كل إذ لو كان علما كلا لم يؤمر أن يقول ﴿رَبِّ زِدْنِي عِلْماً﴾ [ طه:114] أ ترى ذلك علما بغير اللّٰه لا و اللّٰه بل بالله فخلق الإنسان الكامل على صورته و مكنه بالصورة من إطلاق جميع أسمائه عليه فردا فردا و بعضا بعضا لا ينطلق عليه مجموع الأسماء معا في الكلمة الواحدة ليتميز الرب من العبد الكامل فما من اسم من الأسماء الحسنى و كل أسماء اللّٰه حسني إلا و للعبد الكامل أن يدعي بها كما له أن يدعو سيده بها و من هذه الأسماء الإلهية ما يدعوه الحق تعالى بها على طريق الثناء على العبد بها و هي أسماء الرحمة و اللطف و الحنان و منها ما يدعوه بها على طريق المذمة مثل قوله تعالى ﴿ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ﴾ [الدخان:49] و كذلك كان في قومه يدعى بهذا الاسم و دعاه الحق به هنا سخرية به على جهة الذم قال تعالى ﴿فَإِنّٰا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمٰا تَسْخَرُونَ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾ فلما أوجد الكامل منا على الصورة عرفه الكامل من نفسه بما أعطاه من الكمال و كان العبد الكامل حقا كله و فنى عن عينه في نفسه لأنه قابلة بذاته و قد جعل اللّٰه له مثالا في باب المحبة فعشق إليه ما عشق من العالم من أي شيء كان من فرس أو دار أو دينار أو درهم فما قابلة به إلا بالجزء المناسب ففني منه ذلك الجزء المناسب لعشقه في ذلك و بقي سائره صاحيا لا حكم له فيه إلا إذا عشق شخصا مثله من جارية أو غلام فإنه يقابله بذاته كلها و بجميع أجزائه فإذا شاهده فنى فيه بكله لا بجزء منه فيغشى عليه و ذلك لكونه قابلة بكله كذلك العبد إذا رأى الحق أو تخيله فنى فيه عند مشاهدته لأنه على صورته فيقابله بذاته فما بقي فيه جزء يصحو حتى يعقل به ما فنى منه فيه و هكذا كل جزء من العالم مع الحق إذا تجلى له خشع له و فنى فيه لأن كل ما هو عليه شيء من العالم هو صورة الحق لما أعطاه منه إذ لا يصح أن يكون شيء من العالم له وجود ليس هو صورة الحق فلا بد أن يفنى العالم في الحق إذا تجلى له و لا يفنى الحق في الخلق لأن الخلق من الحق ما هو الحق من الخلق فنسبة الحق إلى الخلق نسبة الإنسان إلى كل صنف من العالم ما عدا نوع الإنسان فتفطن لما ذكرته لك من فناء كل شيء من العالم عن نفسه عند تجليه سبحانه له و لا يفنى الحق بمشاهدة الخلق و قد جاء الشرع بتدكدك الجبل و صعق موسى عليه السّلام عند التجلي الرباني فما عرفنا من