الفتوحات المكية - طبعة بولاق الثالثة (القاهرة / الميمنية) |
![]() |
![]() |
|||||||||
الصفحة - من الجزء (عرض الصورة)![]() شغلني عنك فهذا حال الاصطلام و هو نعت لازم للحضرة الإلهية مؤثر و لكل اسم إلهي مشهود فيه جمال الحق يحول بين العبد و بين تكييف الحق و يذهب بكل صورة يضبطها أو يتخيلها و لهذا «قال صلى اللّٰه عليه و سلم ألظوا بيا ذا الجلال و الإكرام» من الإلظاظ و هو المثابرة و قرن الجلال بالإكرام و ما ورد الجلال قط في النبويات إلا و الإكرام مصاحب له ليبقى رسم العبد و لا يذهب بعينه فالجلال الذي هو جلال الجمال يكسوك الهيبة فتهاب المقام و هو الذي يجده المحب و العارف في نفسه من تعظيم المحبوب فيؤثر جنابه على كل شيء فإكرام اللّٰه به أنه يؤثره على كل شيء و ثم اصطلام يزول في الوقت و هو ما يرد على القلب من مشاهدة المحبوب في صورة الخيال فما دام هذا الخيال دام اصطلامه و الجلال يمحو هذه الصورة من النفس غيرة من تقييده بصورة و له الإطلاق فيزول اصطلام تلك الصورة المقيدة بزوالها و يبقى الاصطلام اللازم الذي هو أثر الجلال في النفس فيرى المحب يكذب الصورة المتخيلة في نفسه التي تقول له أنا محبوبك و يعرض عنها إجلالا لمحبوبه أن يقيده لمعرفته بأن محبوبه لا يتقيد فلهذا يحترق في نفسه حيث يريد أو يتمنى أن يضبط ما لا ينضبط لينعم به و لهذا كان العلم أشرف من المحبة و به أمر اللّٰه تعالى نبيه صلى اللّٰه عليه و سلم أن يسأله الزيادة منه لأنه عين الولاية الإلهية به يتولى اللّٰه عباده و به يكرمهم و به يعرفون أنه لا يعرف و أما المحب إذا لم يكن عارفا فهو يخلق في نفسه صورة يهيم فيها و يعشقها فما عبد و لا اشتاق إلا لمن هو تحت حيطته و لا يزيله عن هذا المقام إلا المعرفة فحيرة العارف في الجناب الإلهي أعظم الحيرات لأنه خارج عن الحصر و التقييد تفرقت الظباء على خداش *** فما يدري خداش ما يصيد فله جميع الصور و ما له صورة تقيده و لهذا «كان يقول صلى اللّٰه عليه و سلم اللهم زدني فيك تحيرا» لأنه المقام الأعلى و المنظر الأجلى و المكانة الزلفى و المظهر الأزهى و الطريقة المثلى و من هذه الحضرة صدر الإنذار فعدم القرار و حل البوار بساحة الكفار فلم يبق ستر و لا حجاب إلا مزقه و خرقه هذا المشهد الأسنى فإن الستر يقيد المستور و الحجاب يحد المحجوب و لا حد لذاته و لا تقييد لجلاله فكيف يستره شيء أو تغيب له عين ﴿تَجْرِي بِأَعْيُنِنٰا جَزٰاءً لِمَنْ كٰانَ كُفِرَ﴾ [القمر:14] فمن قال ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [الشورى:11] فقد صدق لأنه ما ثم موجود لا يغيب له عين و لا يحصره أين إلا اللّٰه فجميع الصور الحسية و المعنوية مظاهره فهو الناطق من كل صورة لا في كل صورة و هو المنظور بكل عين و هو المسموع بكل سمع و هو الذي لم يسمع له كلام فيعقل و لا نظر إليه بصر فيحد و لا كان له مظهر فيتقيد فالهو له لازم ﴿لاٰ إِلٰهَ إِلاّٰ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [آل عمران:6] ﴿يَمْحُوا﴾ و هو عين ما يمحو قال ﴿وَ يُثْبِتُ﴾ [الأنفال:11] و هو عين ما يثبت ف ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [الشورى:11] في هذا الحكم و به شهد له العلم الصحيح الموهوب فعلم الدليل ينفيه إذ لم يكن بيده منه و لا له تعلق بسوى صفات السلب و التنزيه و علم الكشف يثبته و يبقيه و لا يبدو له مظهرا لا و يراه فيه و العلمان صحيحان فهو لكل قوة مدركة بحسبها ليعرفها أنها ما زالت عن منصبها و أنها لم تحصل بيدها من العلم بالله إلا ما هي عليه في نفسها فذاتها عرفت و نفسها وصفت فخرج عن التقييد و الحدود بظهوره فيها ليكون هو المعبود فقد قضى أن لا يعبد إلا إياه : فكانت الأصنام و الأوثان مظاهر له في زعم الكفار فأطلقوا عليها اسم الإله فما عبدوا إلا الإله و هو الذي دل عليه ذلك المظهر فقضى حوائجهم و سقاهم و عاقبهم إذ لم يحترموا ذلك الجناب الإلهي في هذه الصورة الجمادية فهم الأشقياء و إن أصابوا أو لم يعبدوا إلا اللّٰه فانظر إلى هذا السريان الوجودي في هذه المظاهر كيف سعد به قوم و شقي به آخرون قال بعضهم كل ما تخيلته في نفسك أو صوره وهمك فالله بخلاف ذلك فصدق و كذب و أظهر و حجب و قال الآخر لا يكون الحق مدلولا لدليل و لا معقولا للعقول لا تحصله العقول بأفكارها و لا تستنزله المعارف بأذكارها فإذا ذكر فبه يذكر و به يفكر و يعقل فهو عقل العقلاء و فكرة المفكرين و ذكر الذاكرين و دليل الدالين لو خرج عن شيء لم يكن و لو كان في شيء لم يكن فهذا قد أبنت لك ما أثره الاصطلام اللازم و أن العلماء هم المقربون الذين أدركوا هذا المشهد الأحمى و هذه المعرفة العظمى و من سواهم فقد نصب له علامة يعبدها و حقيقة يشهدها و هي ما انطوى عليه اعتقاده لدليل قام عنده أو قلد صاحب دليل فهو عند نفسه قد ظفر بمطلوبه و اعتكف على معبوده و سكن إليه و استراح من الحيرة و كفر بما ناقض ما عنده و كفر بلا شك غيره ممن اعتقد غير معتقده فلهذا يكفر |
|
|||||||||
![]() |
![]() |
|||||||||
الفتوحات
المكية للشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي ترقيم الصفحات موافق لطبعة القاهرة (دار الكتب العربية الكبرى) - المعروفة بالطبعة الميمنية. وقد تم إضافة عناوين فرعية ضمن قوسين مربعين. |