فاعلم إن الإمكان موطنه غير موطن الوجوب بل هما موطنان للواجب و الممكن و موطن الممكن العدم أو لا و هو موطنه الحقيقي فإذا اتصف بالوجود فقد اغترب عن وطنه بلا شك و كان في حال سكناه في وطنه مشاهدا للحق فإنه جار له إذ وصف العدم له أزلا وصف الوجود لله أزلا فاغترب عن وطنه بالوجود ففارق مجاورة الحق و لزم الحدوث بهذه الغربة و الحق غير متصف بهذه الصفة و لم يتصف الحق بالحدوث أزلا في حال عدمه فاغترب عن الحق بحدوثه و لما حصل له الوجود الحادث و وقعت المشاركة في الوجود بينه و بين الحق دهش فإنه رأى ما لا يعرفه فإنه عرف نفسه متميزا عن الحق بحال العدم فلما فارق هذا الحال بالوجود أدركه الدهش عن المعرفة الأولى و هذه الغربة حال رجلين رجل لم يأنس بهذا المقام و لا وصل إليه بطريق استدراج و ترق من حال إلى حال بل أتاه بغتة فجاءه ما لم يعهده و لا ألفه فرأى نفسه تضعف عن حمله فيخاف من عدم عينه فيدهش عن تحصيل تلك المعرفة و يرجع إلى حسه عاجلا فيتغرب عن الحق في تلك الرجعة و رأينا من أهل هذا المقام أبا العباس أحمد العصاد المعروف بمصر بالحريري و ما رأينا غيره و أما الرجل الآخر فهو رجل ما من معرفة ترد عليه إلا و تدهشه لعظيم ما يرى مما هو أعلى مما حصل له و أمكن فيتغرب عن الحق الذي كان بيده و يحصل من هذه المعرفة حقا يقوم به إلى وقت تجل آخر يعطي فيه معرفة تدهشه لما ذكرناه فيتغرب أيضا عن الحق الذي حصل له في هذه المعرفة دائما أبدا دنيا و آخرة و أما العارفون المكملون فليس عندهم غربة أصلا و إنهم أعيان ثابتة في أماكنهم لم يبرحوا عن وطنهم و لما كان الحق مرآة لهم ظهرت صورهم فيه ظهور الصور في المرآة فما هي تلك الصور أعيانهم لكونهم يظهرون بحكم شكل المرآة و لا تلك الصور عين المرآة لأن المرآة ما في ذاتها تفصيل ما ظهر منهم و ما هم فما اغتربوا و إنما هم أهل شهود في وجود و إنما أضيف إليهم الوجود من أجل حدوث الأحكام إذ لا تظهر إلا من موجود فمرتبة الغربة ليست من منازل الرجال فهي منزلة أدنى ينزلها المتوسطون و المريدون و أما الأكابر فما يرون أنه اغترب شيء عن وطنه بل الواجب واجب و الممكن ممكن و المحال محال فتعين وطن كل مستوطن و لو قامت غربة بهم لانقلبت الحقائق و عاد الواجب ممكنا و الممكن واجبا و المحال ممكنا و الأمر ليس كذلك و الغربة عند العلماء بالحقائق في هذا المقام غير موجودة و لا واقعة ﴿وَ اللّٰهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَ هُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ﴾ [الأحزاب:4]
«الباب الأحد و الثلاثون و مائتان في المكر»
هذه نسخة نصية حديثة موزعة بشكل تقريبي وفق ترتيب صفحات مخطوطة قونية