«فويل» شدة عذاب «للذين كفروا من» في «يومهم الذي يوعدون» أي يوم القيامة.
فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ (59) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (60)
فالحاصل من هذا أنه من لم يغب عن عبوديته للّه في كل حال ، فقد أدى ما خلق له وكان طائعا وسواء كان مطيعا أو مخالفا ، فإن العبد الآبق لا يخرجه إباقه عن الرق ، وإنما يخرجه عن لوازم العبودية ، من الوقوف بين يدي سيده لامتثال أوامره ومراسمه ، ألا ترى اسم العبودية ينسحب عليه سواء كان مطيعا أو مخالفا .
(52) سورة الطّور مكيّة
------------
(60) الفتوحات ج 3 /
124
قوله تعالى {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} قيل : إن هذا خاص فيمن سبق في علم الله أنه يعبده، فجاء بلفظ العموم ومعناه الخصوص. والمعنى : وما خلقت أهل السعادة من الجن والإنس إلا ليوحدون. قال القشيري : والآية دخلها التخصيص على القطع؛ لأن المجانين والصبيان ما أمروا بالعبادة حتى يقال أراد منهم العبادة، وقد قال الله تعالى {ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس} [
الأعراف : 179] ومن خلق لجهنم لا يكون ممن خلق للعبادة، فالآية محمولة على المؤمنين منهم؛ وهو كقوله تعالى{قالت الأعراب آمنا} [
الحجرات : 14] وإنما قال فريق منهم. ذكره الضحاك والكلبي والفراء والقتبي. وفي قراءة عبدالله {وما خلقت الجن والإنس من المؤمنين إلا ليعبدون}وقال علي رضي الله عنه : أي وما خلقت الجن ولإنس إلا لآمرهم بالعبادة. واعتمد الزجاج على هذا القول، ويدل عليه قوله تعالى {وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا}{التوبة : 31]. فإن قيل : كيف كفروا وقد خلقهم للإقرار بربوبيته والتذلل لأمره ومشيئته؟ قيل تذللوا لقضائه عليهم؛ لأن قضاءه جار عليهم لا يقدرون على الامتناع منه، وإنما خالفهم من كفر في العمل بما أمره به، فأما التذلل لقضائه فإنه غير ممتنع منه. وقيل {إلا ليعبدون} أي إلا ليقروا لي بالعبادة طوعا أو كرها؛ رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس. فالكره ما يرى فيهم من أثر الصنعة. مجاهد : إلا ليعرفوني. الثعلبي : وهذا قول حسن؛ لأنه لو لم يخلقهم لما عرف وجوده وتوحيده. ودليل هذا التأويل قوله تعالى {ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله} [
الزخرف : 87] {ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم} [
الزخرف : 9] وما أشبه هذا من الآيات. وعن مجاهد أيضا : إلا لآمرهم وأنهاهم. زيد بن أسلم : هو ما جبلوا عليه من الشقوة والسعادة؛ فخلق السعداء من الجن والإنس للعبادة، وخلق الأشقياء منهم للمعصية. وعن الكلبي أيضا : إلا ليوحدون، فأما المؤمن فيوحده في الشدة والرخاء، وأما الكافر فيوحده في الشدة والبلاء دون النعمة والرخاء؛ يدل عليه قوله تعالى {وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين} [
لقمان : 32] الآية. وقال عكرمة : إلا ليعبدون ويطيعون فأثيب العابد وأعاقب الجاحد. وقيل : المعنى إلا لأستعبدهم. والمعنى متقارب؛ تقول : عبد بين العبودة والعبودية، وأصل العبودية الخضوع والذل. والتعبيد التذليل؛ يقال : طريق معبد. قال : وظيفا وظيفا فوق مور معبد والتعبيد الاستعباد وهو أن يتخذه عبدا. وكذلك الاعتباد. والعبادة الطاعة، والتعبد التنسك. فمعنى {ليعبدون} ليذلوا ويخضعوا ويعبدوا. {ما أريد منهم من رزق} {من} صلة أي رزقا بل أنا الرزاق والمعطي. وقال ابن عباس وأبو الجوزاء : أي ما أريد أن يرزقوا أنفسهم ولا أن يطعموها. وقيل : المعنى ما أريد أن يرزقوا عبادي ولا أن يطعموهم {إن الله هو الرزاق} وقرأ ابن محيصن وغيره {الرازق}. {ذو القوة المتين} أي الشديد القوي. وقرأ الأعمش ويحيى بن وثاب والنخعي {المتين} بالجر على النعت للقوة. الباقون بالرفع على النعت لـ {الرزاق} أو {ذو} من قوله {ذو القوة} أو يكون خبر ابتداء محذوف؛ أو يكون نعتا لاسم إن على الموضع، أو خبرا بعد خبر. قال الفراء : كان حقه المتينة فذكره لأنه ذهب بها إلى الشيء المبرم المحكم الفتل؛ يقال : حبل متين. وأنشد الفراء : لكل دهر قد لبست أثوبا ** حتى اكتسى الرأس قناعا أشيبا من ريطة واليمنة المعصبا فذكر المعصب؛ لأن اليمنة صنف من الثياب؛ ومن هذا الباب قوله تعالى {فمن جاءه موعظة} [
البقرة : 275] أي وعظ {وأخذ الذين ظلموا الصيحة} [
هود : 67] أي الصياح والصوت. قوله تعالى {فإن للذين ظلموا} أي كفروا من أهل مكة {ذنوبا مثل ذنوب أصحابهم} أي نصيبا من العذاب مثل نصيب الكفار من الأمم السالفة. وقال ابن الأعرابي : يقال يوم ذنوب أي طويل الشر لا ينقضي. وأصل الذنوب في اللغة الدلو العظيمة، وكانوا يستقون الماء فيقسمون ذلك على الأنصباء فقيل للذنوب نصيب من هذا؛ قال الراجز : لنا ذنوب ولكم ذنوب ** فإن أبيتم فلنا القليب وقال علقمة : وفي كل يوم قد خبطت بنعمة ** فحق لشأس من نداك ذنوب وقال آخر : لعمرك والمنايا طارقات ** لكل بني أب منها ذنوب الجوهري : والذنوب الفرس الطويل الذنب، والذنوب النصيب، والذنوب لحم أسفل المتن، والذنوب الدلو الملأى ماء. وقال ابن السكيت : فيها ماء قريب من الملء يؤنث ويذكر، ولا يقال لها وهي فارغة ذنوب، والجمع في أدنى العدد أذنبة والكثير ذنائب، مثل قلوص وقلائص. {فلا يستعجلون} أي فلا يستعجلون نزول العذاب بهم؛ لأنهم قالوا : يا محمد {فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين} [
الأعراف : 70] فنزل بهم يوم بدر ما حقق به وعده وعجل بهم انتقامه، ثم لهم في الآخرة العذاب الدائم، والخزي القائم، الذي لا انقطاع له ولا نفاد، ولا غاية ولا آباد. تم تفسير سورة {الذاريات} والحمد لله.
فهلاك وشقاء للذين كفروا بالله ورسوله من يومهم الذي يوعدون فيه بنزول العذاب بهم، وهو يوم القيامة.