المكتبة الأكبرية: القرآن الكريم: سورة البقرة: [الآية 197]
![]() |
![]() |
![]() |
سورة البقرة | ||
![]() |
![]() |
![]() |
تفسير الجلالين:
تفسير الشيخ محي الدين:
لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (286)
أصل التكاليف مشتق من الكلف وهي المشقات «لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها» وهو ما آتاها من التمكن الذي هو وسعها ، فقد خلق سبحانه لنا التمكن من فعل بعض الأعمال ، نجد ذلك من نفوسنا ولا ننكره ، وهي الحركة الاختيارية ، كما جعل سبحانه فينا المانع من بعض الأفعال الظاهرة فينا ، ونجد ذلك من نفوسنا ، كحركة المرتعش الذي لا اختيار للمرتعش فيها ، وبذلك القدر من التمكن الذي يجده الإنسان في نفسه صح أن يكون مكلفا ، ولا يحقق الإنسان بعقله لما ذا يرجع ذلك التمكن ، هل لكونه قادرا أو لكونه مختارا ؟ وإن كان مجبورا في اختياره ، ولا يمكن رفع الخلاف في هذه المسألة ، فإنها من المسائل المعقولة ولا يعرف الحق فيها إلا بالكشف ، وإذا بذلت النفس الوسع في طاعة اللّه لم يقم عليها حجة ،
فإن اللّه أجلّ أن يكلف نفسا إلا وسعها ، ولذلك كان الاجتهاد في الفروع والأصول «لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ» لما كانت النفوس ولاة الحق على الجوارح ، والجوارح مأمورة مجبورة غير مختارة فيما تصرف فيه ، مطيعة بكل وجه ، والنفوس ليست كذلك ، فإذا عملت لغير عبادة لا يقبل العمل من حيث القاصد لوقوعه الذي هو النفس المكلفة ، لكن من حيث أن العمل صدر من الجوارح أو من جارحة مخصوصة ، فإنها تجزى به تلك الجارحة ، فيقبل العمل لمن ظهر منه ولا يعود منه على النفس الآمرة به للجوارح شيء إذا كان العمل خيرا بالصورة كصلاة المرائي والمنافق وجميع ما يظهر على جوارحه من أفعال الخير الذي لم تقصد به النفس عبادة ، وأما أعمال الشر المنهي عنها فإن النفس تجزى بها للقصد ، والجوارح لا تجزى بها لأنها ليس في قوتها الامتناع عما تريد النفوس بها من الحركات ، فإنها مجبورة على السمع والطاعة لها ، فإن جارت النفوس فعليها ، وللجوارح رفع الحرج ، بل لهم الخير الأتم ، وإن عدلت النفوس فلها وللجوارح ، لذلك قال تعالى : «لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ» فميز اللّه بين الكسب والاكتساب باللام وعلى ، وهذه الآية بشرى من اللّه حيث جعل المخالفة اكتسابا والطاعة كسبا ، فقال : «لَها ما كَسَبَتْ» فأوجبه لها .
وقال في المعصية والمخالفة : «وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ» فما أوجب لها الأخذ بما اكتسبته ، فالاكتساب ما هو حق لها فتستحقه ، فتستحق الكسب ولا تستحق الاكتساب ، والحق لا يعامل إلا بالاستحقاق ، والعفو من اللّه يحكم على الأخذ بالجريمة «رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا» اعلم أن الرحمة أبطنها اللّه في النسيان الموجود في العالم ، وأنه لو لم يكن لعظم الأمر وشق ، وفيما يقع فيه التذكر كفاية ، وأصل هذا وضع الحجاب بين العالم وبين اللّه في موطن التكليف ، إذ كانت المعاصي والمخالفات مقدرة في علم اللّه فلا بد من وقوعها من العبد ضرورة ، فلو وقعت مع التجلي والكشف لكان مبالغة في قلة الحياء من اللّه حيث يشهده ويراه ، والقدر حاكم بالوقوع فاحتجب رحمة بالخلق لعظيم المصاب ، قال صلّى اللّه عليه وسلم:
إن اللّه إذا أراد نفاذ قضائه وقدره سلب ذوي العقول عقولهم ، حتى إذا أمضى فيهم قضاءه وقدره ردها عليهم ليعتبروا ، وقال صلّى اللّه عليه وسلم : رفع عن أمتي الخطأ والنسيان ، فلا يؤاخذهم اللّه به في الدنيا ولا في الآخرة ، فأما في الآخرة فمجمع عليه من الكل ، وأما في الدنيا فأجمعوا على رفع الذنب ، واختلفوا في الحكم ، وكذلك في الخطأ على قدر ما شرع الشارع في
أشخاص المسائل ، مثل الإفطار ناسيا في رمضان وغير ذلك من المسائل ، فإن اللّه تعالى الذي شرع المعصية والطاعة وبيّن حكمهما ، رفع حكم الأخذ بالمعصية في حق الناسي والمخطئ «رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا ، رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ» وهذا تعليم من الحق لنا أن نسأله في أن لا يقع منه في المستقبل ما لم يقع في الحال ، «وَاعْفُ عَنَّا» أي كثر خيرك لنا وقلل بلاءك عنا ، أي قلل ما ينبغي أن يقلل وكثر ما ينبغي أن يكثر ، فإن العفو من الأضداد يطلق بإزاء الكثرة والقلة ، وليس إلا عفوك عن خطايانا التي طلبنا منك أن تسترنا عنها حتى لا تصيبنا ، وهو قولنا : «وَاغْفِرْ لَنا» أي استرنا من المخالفات حتى لا تعرف مكاننا فتقصدنا «وَارْحَمْنا» برحمة الامتنان ورحمة الوجوب ، أي برحمة الاختصاص.
------------
(286) التنزلات الموصلية - الفتوحات ج 1 / 341 - ج 2 / 381 - ج 3 / 348 ، 123 ، 511 - ج 2 / 535 ، 684 - ج 3 / 381 - ج 1 / 435 ، 434تفسير ابن كثير:
اختلف أهل العربية في قوله : ( الحج أشهر معلومات ) فقال بعضهم : [ تقديره ] الحج حج أشهر معلومات ، فعلى هذا التقدير يكون الإحرام بالحج فيها أكمل من الإحرام به فيما عداها ، وإن كان ذاك صحيحا ، والقول بصحة الإحرام بالحج في جميع السنة مذهب مالك ، وأبي حنيفة ، وأحمد بن حنبل ، وإسحاق ابن راهويه ، وبه يقول إبراهيم النخعي ، والثوري ، والليث بن سعد . واحتج لهم بقوله تعالى : ( يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج ) [ البقرة : 189 ] وبأنه أحد النسكين . فصح الإحرام به في جميع السنة كالعمرة .
وذهب الشافعي ، رحمه الله ، إلى أنه لا يصح الإحرام بالحج إلا في أشهره فلو أحرم به قبلها لم ينعقد إحرامه به ، وهل ينعقد عمرة ؟ فيه قولان عنه . والقول بأنه لا يصح الإحرام بالحج إلا في أشهره مروي عن ابن عباس ، وجابر ، وبه يقول عطاء ، وطاوس ، ومجاهد ، رحمهم الله ، والدليل عليه قوله تعالى : ( الحج أشهر معلومات ) وظاهره التقدير الآخر الذي ذهب إليه النحاة ، وهو أن : وقت الحج أشهر معلومات ، فخصصه بها من بين سائر شهور السنة ، فدل على أنه لا يصح قبلها ، كميقات الصلاة .
قال الشافعي ، رحمه الله : أخبرنا مسلم بن خالد ، عن ابن جريج ، أخبرني عمر بن عطاء ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، أنه قال : لا ينبغي لأحد أن يحرم بالحج إلا في شهور الحج ، من أجل قول الله : ( الحج أشهر معلومات ) وكذا رواه ابن أبي حاتم ، عن أحمد بن يحيى بن مالك السوسي ، عن حجاج بن محمد الأعور ، عن ابن جريج ، به . ورواه ابن مردويه في تفسيره من طريقين ، عن حجاج بن أرطاة ، عن الحكم بن عتيبة عن مقسم ، عن ابن عباس : أنه قال : من السنة ألا يحرم [ بالحج ] إلا في أشهر الحج .
وقال ابن خزيمة في صحيحه : حدثنا أبو كريب ، حدثنا أبو خالد الأحمر ، عن شعبة ، عن الحكم ، عن مقسم ، عن ابن عباس ، قال : لا يحرم بالحج إلا في أشهر الحج ، فإن من سنة الحج أن يحرم بالحج في أشهر الحج . وهذا إسناد صحيح ، وقول الصحابي : " من السنة كذا " في حكم المرفوع عند الأكثرين ، ولا سيما قول ابن عباس تفسيرا للقرآن ، وهو ترجمانه .
وقد ورد فيه حديث مرفوع ، قال ابن مردويه : حدثنا عبد الباقي بن قانع حدثنا الحسن بن المثنى ، حدثنا أبو حذيفة ، حدثنا سفيان ، عن أبي الزبير ، عن جابر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لا ينبغي لأحد أن يحرم بالحج إلا في أشهر الحج " .
وإسناده لا بأس به . لكن رواه الشافعي ، والبيهقي من طرق ، عن ابن جريج ، عن أبي الزبير ، أنه سمع جابر بن عبد الله يسأل : أيهل بالحج قبل أشهر الحج ؟ فقال : لا .
وهذا الموقوف أصح وأثبت من المرفوع ، ويبقى حينئذ مذهب صحابي ، يتقوى بقول ابن عباس : " من السنة أن لا يحرم بالحج إلا في أشهره " . والله أعلم .
وقوله : ( أشهر معلومات ) قال البخاري : قال ابن عمر : هي شوال ، وذو القعدة ، وعشر من ذي الحجة . وهذا الذي علقه البخاري عنه بصيغة الجزم رواه ابن جرير موصولا حدثنا أحمد بن حازم بن أبي غرزة حدثنا أبو نعيم ، حدثنا ورقاء ، عن عبد الله بن دينار ، عن ابن عمر : ( الحج أشهر معلومات ) قال : شوال ، وذو القعدة وعشر من ذي الحجة .
إسناد صحيح ، وقد رواه الحاكم أيضا في مستدركه ، عن الأصم ، عن الحسن بن علي بن عفان ، عن عبد الله بن نمير ، عن عبيد الله عن نافع ، عن ابن عمر فذكره وقال : على شرط الشيخين .
قلت : وهو مروي عن عمر ، وعلي ، وابن مسعود ، وعبد الله بن الزبير ، وابن عباس ، وعطاء ، وطاوس ، ومجاهد ، وإبراهيم النخعي ، والشعبي ، والحسن ، وابن سيرين ، ومكحول ، وقتادة ، والضحاك بن مزاحم ، والربيع بن أنس ، ومقاتل بن حيان . وهو مذهب الشافعي ، وأبي حنيفة ، وأحمد بن حنبل ، وأبي يوسف ، وأبي ثور ، رحمهم الله . واختار هذا القول ابن جرير ، قال : وصح إطلاق الجمع على شهرين وبعض الثالث للتغليب ، كما تقول العرب : " زرته العام ، ورأيته اليوم " . وإنما وقع ذلك في بعض العام واليوم ; قال الله تعالى : ( فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ) [ البقرة : 203 ] وإنما تعجل في يوم ونصف .
وقال الإمام مالك بن أنس [ والشافعي في القديم ] : هي : شوال وذو القعدة وذو الحجة بكماله . وهو رواية عن ابن عمر أيضا ; قال ابن جرير :
حدثنا أحمد بن إسحاق ، حدثنا أبو أحمد ، حدثنا شريك ، عن إبراهيم بن مهاجر ، عن مجاهد ، عن ابن عمر قال : شوال وذو القعدة وذو الحجة .
وقال ابن أبي حاتم في تفسيره : حدثنا يونس بن عبد الأعلى ، حدثنا ابن وهب ، أخبرني ابن جريج ، قال : قلت لنافع : أسمعت عبد الله بن عمر يسمي شهور الحج ؟ قال : نعم ، كان عبد الله يسمي : " شوال وذو القعدة وذو الحجة " . قال ابن جريج : وقال ذلك ابن شهاب ، وعطاء ، وجابر بن عبد الله صاحب النبي صلى الله عليه وسلم ، وهذا إسناد صحيح إلى ابن جريج . وقد حكي هذا أيضا عن طاوس ، ومجاهد ، وعروة بن الزبير ، والربيع بن أنس ، وقتادة . وجاء فيه حديث مرفوع ، ولكنه موضوع ، رواه الحافظ ابن مردويه ، من طريق حصين بن مخارق وهو متهم بالوضع عن يونس بن عبيد ، عن شهر بن حوشب ، عن أبي أمامة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الحج أشهر معلومات : شوال وذو القعدة وذو الحجة " .
وهذا كما رأيت لا يصح رفعه ، والله أعلم .
وفائدة مذهب مالك أنه إلى آخر ذي الحجة ، بمعنى أنه مختص بالحج ، فيكره الاعتمار في بقية ذي الحجة ، لا أنه يصح الحج بعد ليلة النحر .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن سنان ، حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن قيس بن مسلم ، عن طارق بن شهاب ، قال : قال عبد الله : الحج أشهر معلومات ، ليس فيها عمرة . وهذا إسناد صحيح .
قال ابن جرير : إنما أراد من ذهب إلى أن أشهر الحج شوال وذو القعدة وذو الحجة أن هذه الأشهر ليست أشهر العمرة ، إنما هي للحج ، وإن كان عمل الحج قد انقضى بانقضاء أيام منى ، كما قال محمد بن سيرين : ما أحد من أهل العلم يشك في أن عمرة في غير أشهر الحج أفضل من عمرة في أشهر الحج .
وقال ابن عون : سألت القاسم بن محمد ، عن العمرة في أشهر الحج ، فقال : كانوا لا يرونها تامة .
قلت : وقد ثبت عن عمر وعثمان ، رضي الله عنهما ، أنهما كانا يحبان الاعتمار في غير أشهر الحج ، وينهيان عن ذلك في أشهر الحج ، والله أعلم .
وقوله : ( فمن فرض فيهن الحج ) أي : أوجب بإحرامه حجا . فيه دلالة على لزوم الإحرام بالحج والمضي فيه . قال ابن جرير : أجمعوا على أن المراد من الفرض هاهنا الإيجاب والإلزام .
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : ( فمن فرض فيهن الحج ) يقول : من أحرم بحج أو عمرة . وقال عطاء : الفرض الإحرام . وكذا قال إبراهيم ، والضحاك ، وغيرهم .
وقال ابن جريج : أخبرني عمر بن عطاء ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : أنه قال ( فمن فرض فيهن الحج ) فلا ينبغي أن يلبي بالحج ثم يقيم بأرض . قال ابن أبي حاتم : وروي عن ابن مسعود ، وابن عباس ، وابن الزبير ، ومجاهد ، وعطاء ، وإبراهيم النخعي ، وعكرمة ، والضحاك ، وقتادة ، وسفيان الثوري ، والزهري ، ومقاتل بن حيان نحو ذلك .
وقال طاوس ، والقاسم بن محمد : هو التلبية .
وقوله : ( فلا رفث ) أي : من أحرم بالحج أو العمرة ، فليجتنب الرفث ، وهو الجماع ، كما قال تعالى : ( أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم ) [ البقرة : 187 ] ، وكذلك يحرم تعاطي دواعيه من المباشرة والتقبيل ونحو ذلك ، وكذا التكلم به بحضرة النساء .
قال ابن جرير : حدثني يونس ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرني يونس : أن نافعا أخبره : أن عبد الله بن عمر كان يقول : الرفث إتيان النساء ، والتكلم بذلك : الرجال والنساء إذا ذكروا ذلك بأفواههم .
قال ابن وهب : وأخبرني أبو صخر ، عن محمد بن كعب ، مثله .
قال ابن جرير : وحدثنا محمد بن بشار ، حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، عن قتادة ، عن رجل ، عن أبي العالية الرياحي ، عن ابن عباس : أنه كان يحدو وهو محرم وهو يقول :
وهن يمشين بنا هميسا إن يصدق الطير ننل لميسا
قال أبو العالية فقلت : تكلم بالرفث وأنت محرم ؟ ! قال : إنما الرفث ما قيل عند النساء .
ورواه الأعمش ، عن زياد بن حصين ، عن أبي العالية ، عن ابن عباس ، فذكره .
وقال ابن جرير أيضا : حدثنا ابن أبي عدي ، عن عون حدثني زياد بن حصين ، حدثني أبي حصين بن قيس ، قال : أصعدت مع ابن عباس في الحاج ، وكنت خليلا له ، فلما كان بعد إحرامنا قال ابن عباس ، فأخذ بذنب بعيره فجعل يلويه و [ هو ] يرتجز ، ويقول :
وهن يمشين بنا هميسا إن يصدق الطير ننل لميسا
قال : فقلت : أترفث وأنت محرم ؟ فقال : إنما الرفث ما قيل عند النساء .
وقال عبد الله بن طاوس ، عن أبيه : سألت ابن عباس عن قول الله تعالى : ( فلا رفث ولا فسوق ) قال : الرفث التعريض بذكر الجماع ، وهي العرابة في كلام العرب ، وهو أدنى الرفث .
وقال عطاء بن أبي رباح : الرفث : الجماع ، وما دونه من قول الفحش ، وكذا قال عمرو بن دينار . وقال عطاء : كانوا يكرهون العرابة ، وهو التعريض بذكر الجماع وهو محرم .
وقال طاوس : هو أن تقول للمرأة : إذا حللت أصبتك . وكذا قال أبو العالية .
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : الرفث : غشيان النساء والقبل والغمز ، وأن يعرض لها بالفحش من الكلام ، ونحو ذلك .
وقال ابن عباس أيضا وابن عمر : الرفث : غشيان النساء . وكذا قال سعيد بن جبير ، وعكرمة ، ومجاهد ، وإبراهيم ، وأبو العالية ، وعطاء ، ومكحول ، وعطاء بن يسار ، وعطية ، وإبراهيم النخعي ، والربيع ، والزهري ، والسدي ، ومالك بن أنس ، ومقاتل بن حيان ، وعبد الكريم بن مالك ، والحسن ، وقتادة والضحاك ، وغيرهم .
وقوله : ( ولا فسوق ) قال مقسم وغير واحد ، عن ابن عباس : هي المعاصي . وكذا قال عطاء ، ومجاهد ، وطاوس ، وعكرمة ، وسعيد بن جبير ، ومحمد بن كعب ، والحسن ، وقتادة ، وإبراهيم النخعي ، والزهري ، ومكحول ، وابن أبان ، والربيع بن أنس ، وعطاء بن يسار ، وعطاء الخراساني ، ومقاتل بن حيان .
وقال محمد بن إسحاق ، عن نافع ، عن ابن عمر قال : الفسوق : ما أصيب من معاصي الله به صيد أو غيره . وكذا روى ابن وهب ، عن يونس ، عن نافع أن عبد الله بن عمر كان يقول : الفسوق إتيان معاصي الله في الحرم .
وقال آخرون : الفسوق هاهنا السباب ، قاله ابن عباس ، وابن عمر ، وابن الزبير ، ومجاهد ، والسدي ، وإبراهيم والحسن . وقد يتمسك لهؤلاء بما ثبت في الصحيح " سباب المسلم فسوق ، وقتاله كفر " .
ولهذا رواه هاهنا الحبر أبو محمد بن أبي حاتم ، رحمه الله ، من حديث سفيان الثوري عن يزيد عن أبي وائل ، عن عبد الله ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " سباب المسلم فسوق ، وقتاله كفر " . وروي من حديث عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن أبيه ومن حديث أبي إسحاق عن محمد بن سعد عن أبيه ] .
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : الفسوق هاهنا : الذبح للأصنام . قال الله تعالى : ( أو فسقا أهل لغير الله به ) [ الأنعام : 145 ] .
وقال الضحاك : الفسوق : التنابز بالألقاب .
والذين قالوا : الفسوق هاهنا هو جميع المعاصي ، معهم الصواب ، كما نهى تعالى عن الظلم في الأشهر الحرم ، وإن كان في جميع السنة منهيا عنه ، إلا أنه في الأشهر الحرم آكد ; ولهذا قال : ( منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم ) [ التوبة : 36 ] ، وقال في الحرم : ( ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم ) [ الحج : 25 ] .
واختار ابن جرير أن الفسوق هاهنا : هو ارتكاب ما نهي عنه في الإحرام ، من قتل الصيد ، وحلق الشعر ، وقلم الأظفار ، ونحو ذلك ، كما تقدم عن ابن عمر . وما ذكرناه أولى ، والله أعلم .
وقد ثبت في الصحيحين من حديث أبي حازم ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق ، خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه " .
وقوله : ( ولا جدال في الحج ) فيه قولان :
أحدهما : ولا مجادلة في وقت الحج وفي مناسكه ، وقد بينه الله أتم بيان ووضحه أكمل إيضاح . كما قال وكيع ، عن العلاء بن عبد الكريم : سمعت مجاهدا يقول : ( ولا جدال في الحج ) قد بين الله أشهر الحج ، فليس فيه جدال بين الناس .
وقال ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ( ولا جدال في الحج ) قال : لا شهر ينسأ ، ولا جدال في الحج ، قد تبين ، ثم ذكر كيفية ما كان المشركون يصنعون في النسيء الذي ذمهم الله به .
وقال الثوري ، عن عبد العزيز بن رفيع ، عن مجاهد في قوله : ( ولا جدال في الحج ) قال : قد استقام الحج ، فلا جدال فيه . وكذا قال السدي .
وقال هشيم : أخبرنا حجاج ، عن عطاء ، عن ابن عباس : ( ولا جدال في الحج ) قال : المراء في الحج .
وقال عبد الله بن وهب : قال مالك : قال الله تعالى : ( ولا جدال في الحج ) فالجدال في الحج والله أعلم أن قريشا كانت تقف عند المشعر الحرام بالمزدلفة ، وكانت العرب ، وغيرهم يقفون بعرفة ، وكانوا يتجادلون ، يقول هؤلاء : نحن أصوب . ويقول هؤلاء : نحن أصوب . فهذا فيما نرى ، والله أعلم .
وقال ابن وهب ، عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : كانوا يقفون مواقف مختلفة يتجادلون ، كلهم يدعي أن موقفه موقف إبراهيم فقطعه الله حين أعلم نبيه بالمناسك .
وقال ابن وهب ، عن أبي صخر ، عن محمد بن كعب ، قال : كانت قريش إذا اجتمعت بمنى قال هؤلاء : حجنا أتم من حجكم . وقال هؤلاء : حجنا أتم من حجكم .
وقال حماد بن سلمة عن جبر بن حبيب ، عن القاسم بن محمد أنه قال : الجدال في الحج أن يقول بعضهم : الحج غدا . ويقول بعضهم : اليوم .
وقد اختار ابن جرير مضمون هذه الأقوال ، وهو قطع التنازع في مناسك الحج .
والقول الثاني : أن المراد بالجدال هاهنا : المخاصمة .
قال ابن جرير : حدثنا عبد الحميد بن بيان حدثنا إسحاق ، عن شريك ، عن أبي إسحاق ، عن أبي الأحوص ، عن عبد الله هو ابن مسعود في قوله : ( ولا جدال في الحج ) قال : أن تماري صاحبك حتى تغضبه .
وبهذا الإسناد إلى أبي إسحاق ، عن التميمي : سألت ابن عباس عن " الجدال " قال : المراء ، تماري صاحبك حتى تغضبه . وكذا روى مقسم والضحاك ، عن ابن عباس . وكذا قال أبو العالية ، وعطاء ومجاهد ، وسعيد بن جبير ، وعكرمة ، وجابر بن زيد ، وعطاء الخراساني ، ومكحول ، وعمرو بن دينار ، والسدي ، والضحاك ، والربيع بن أنس ، وإبراهيم النخعي ، وعطاء بن يسار ، والحسن ، وقتادة ، والزهري ، ومقاتل بن حيان .
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : ( ولا جدال في الحج ) قال الجدال : المراء والملاحاة ، حتى تغضب أخاك وصاحبك ، فنهى الله عن ذلك .
وقال إبراهيم النخعي : ( ولا جدال في الحج ) قال : كانوا يكرهون الجدال . وقال محمد بن إسحاق ، عن نافع ، عن ابن عمر ، قال : الجدال : السباب والمنازعة . وكذا روى ابن وهب ، عن يونس ، عن نافع : أن ابن عمر كان يقول : الجدال في الحج : السباب ، والمراء ، والخصومات ، وقال ابن أبي حاتم : وروي عن ابن الزبير ، والحسن ، وإبراهيم ، وطاوس ، ومحمد بن كعب ، قالوا : الجدال المراء .
وقال عبد الله بن المبارك ، عن يحيى بن بشر عن عكرمة : ( ولا جدال في الحج ) والجدال الغضب ، أن تغضب عليك مسلما ، إلا أن تستعتب مملوكا فتغضبه من غير أن تضربه ، فلا بأس عليك ، إن شاء الله .
قلت : ولو ضربه لكان جائزا سائغا . والدليل على ذلك ما رواه الإمام أحمد : حدثنا عبد الله بن إدريس ، حدثنا محمد بن إسحاق ، عن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير ، عن أبيه : أن أسماء بنت أبي بكر قالت : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حجاجا ، حتى إذا كنا بالعرج نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجلست عائشة إلى جنب رسول الله ، وجلست إلى جنب أبي . وكانت زمالة أبي بكر وزمالة رسول الله صلى الله عليه وسلم واحدة مع غلام أبي بكر ، فجلس أبو بكر ينتظره إلى أن يطلع عليه ، فأطلع وليس معه بعيره ، فقال : أين بعيرك ؟ فقال : أضللته البارحة . فقال أبو بكر : بعير واحد تضله ؟ فطفق يضربه ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يتبسم ويقول : " انظروا إلى هذا المحرم ما يصنع ؟ " .
وهكذا أخرجه أبو داود ، وابن ماجه ، من حديث ابن إسحاق . ومن هذا الحديث حكى بعضهم عن بعض السلف أنه قال : من تمام الحج ضرب الجمال . ولكن يستفاد من قول النبي صلى الله عليه وسلم عن أبي بكر : " انظروا إلى هذا المحرم ما يصنع ؟ " كهيئة الإنكار اللطيف أن الأولى ترك ذلك ، والله أعلم .
وقد قال الإمام عبد بن حميد في مسنده : حدثنا عبيد الله بن موسى ، عن موسى بن عبيدة ، عن أخيه عبد الله بن عبيدة عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من قضى نسكه ، وسلم المسلمون من لسانه ويده ، غفر له ما تقدم من ذنبه " .
وقوله : ( وما تفعلوا من خير يعلمه الله ) لما نهاهم عن إتيان القبيح قولا وفعلا حثهم على فعل الجميل ، وأخبرهم أنه عالم به ، وسيجزيهم عليه أوفر الجزاء يوم القيامة .
وقوله : ( وتزودوا فإن خير الزاد التقوى ) قال العوفي ، عن ابن عباس : كان أناس يخرجون من أهليهم ليست معهم أزودة ، يقولون : نحج بيت الله ولا يطعمنا . فقال الله : تزودوا ما يكف وجوهكم عن الناس .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد المقري ، حدثنا سفيان ، عن عمرو بن دينار ، عن عكرمة : قال : إن ناسا كانوا يحجون بغير زاد ، فأنزل الله : ( وتزودوا فإن خير الزاد التقوى )
وكذا رواه ابن جرير عن عمرو وهو الفلاس عن ابن عيينة .
قال ابن أبي حاتم : وقد روى هذا الحديث ورقاء ، عن عمرو بن دينار ، عن عكرمة ، عن ابن عباس . قال : وما يرويه عن ابن عيينة أصح .
قلت : قد رواه النسائي ، عن سعيد بن عبد الرحمن المخزومي ، عن سفيان بن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، عن عكرمة ، عن ابن عباس [ قال ] كان ناس يحجون بغير زاد ، فأنزل الله : ( وتزودوا فإن خير الزاد التقوى ) . وأما حديث ورقاء فأخرجه البخاري ، عن يحيى بن بشر ، عن شبابة . وأخرجه أبو داود ، عن أبي مسعود أحمد بن الفرات الرازي ، ومحمد بن عبد الله المخرمي ، عن شبابة ، عن ورقاء ، عن عمرو بن دينار ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : كان أهل اليمن يحجون ولا يتزودون ، ويقولون : نحن المتوكلون . فأنزل الله : ( وتزودوا فإن خير الزاد التقوى ) .
ورواه عبد بن حميد في تفسيره ، عن شبابة [ به ] . ورواه ابن حبان في صحيحه من حديث شبابة ، به .
وروى ابن جرير وابن مردويه من حديث عمرو بن عبد الغفار [ عن محمد بن سوقة ] عن نافع ، عن ابن عمر ، قال : كانوا إذا أحرموا ومعهم أزوادهم رموا بها ، واستأنفوا زادا آخر ; فأنزل الله تعالى : ( وتزودوا فإن خير الزاد التقوى ) فنهوا عن ذلك ، وأمروا أن يتزودوا الكعك والدقيق والسويق . وكذا قال ابن الزبير ، وأبو العالية ، ومجاهد ، وعكرمة ، والشعبي ، والنخعي ، وسالم بن عبد الله ، وعطاء الخراساني ، وقتادة ، والربيع بن أنس ، ومقاتل بن حيان .
وقال سعيد بن جبير : فتزودوا الدقيق والسويق والكعك وقال وكيع [ بن الجراح ] في تفسيره : حدثنا سفيان ، عن محمد بن سوقة عن سعيد بن جبير : ( وتزودوا ) قال : الخشكنانج والسويق . وقال وكيع أيضا : حدثنا إبراهيم المكي ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، عن ابن عمر ، قال : إن من كرم الرجل طيب زاده في السفر . وزاد فيه حماد بن سلمة ، عن أبي ريحانة أن ابن عمر كان يشترط على من صحبه الجوزة .
وقوله : ( فإن خير الزاد التقوى ) لما أمرهم بالزاد للسفر في الدنيا أرشدهم إلى زاد الآخرة ، وهو استصحاب التقوى إليها ، كما قال : ( وريشا ولباس التقوى ذلك خير ) [ الأعراف : 26 ] . لما ذكر اللباس الحسي نبه مرشدا إلى اللباس المعنوي ، وهو الخشوع ، والطاعة والتقوى ، وذكر أنه خير من هذا ، وأنفع .
قال عطاء الخراساني في قوله : ( فإن خير الزاد التقوى ) يعني : زاد الآخرة .
وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني : حدثنا عبدان ، حدثنا هشام بن عمار ، حدثنا مروان بن معاوية ، عن إسماعيل عن قيس ، عن جرير بن عبد الله ، عن النبي ، صلى الله عليه وسلم [ قال ] : " من يتزود في الدنيا ينفعه في الآخرة " .
وقال مقاتل بن حيان : لما نزلت هذه الآية : ( وتزودوا ) قام رجل من فقراء المسلمين فقال : يا رسول الله ، ما نجد زادا نتزوده . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " تزود ما تكف به وجهك عن الناس ، وخير ما تزودتم التقوى " . رواه ابن أبي حاتم .
وقوله : ( واتقون يا أولي الألباب ) يقول : واتقوا عقابي ، ونكالي ، وعذابي ، لمن خالفني ولم يأتمر بأمري ، يا ذوي العقول والأفهام .
تفسير الطبري :
التفسير الميسّر:
تفسير السعدي
يخبر تعالى أن { الْحَجَّ } واقع في { أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ } عند المخاطبين, مشهورات, بحيث لا تحتاج إلى تخصيص، كما احتاج الصيام إلى تعيين شهره, وكما بين تعالى أوقات الصلوات الخمس. وأما الحج فقد كان من ملة إبراهيم, التي لم تزل مستمرة في ذريته معروفة بينهم. والمراد بالأشهر المعلومات عند جمهور العلماء: شوال, وذو القعدة, وعشر من ذي الحجة, فهي التي يقع فيها الإحرام بالحج غالبا. { فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ } أي: أحرم به, لأن الشروع فيه يصيره فرضا, ولو كان نفلا. واستدل بهذه الآية الشافعي ومن تابعه, على أنه لا يجوز الإحرام بالحج قبل أشهره، قلت لو قيل: إن فيها دلالة لقول الجمهور, بصحة الإحرام [بالحج] قبل أشهره لكان قريبا، فإن قوله: { فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ } دليل على أن الفرض قد يقع في الأشهر المذكورة وقد لا يقع فيها, وإلا لم يقيده. وقوله: { فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ } أي: يجب أن تعظموا الإحرام بالحج, وخصوصا الواقع في أشهره, وتصونوه عن كل ما يفسده أو ينقصه, من الرفث وهو الجماع ومقدماته الفعلية والقولية, خصوصا عند النساء بحضرتهن. والفسوق وهو: جميع المعاصي, ومنها محظورات الإحرام. والجدال وهو: المماراة والمنازعة والمخاصمة, لكونها تثير الشر, وتوقع العداوة. والمقصود من الحج, الذل والانكسار لله, والتقرب إليه بما أمكن من القربات, والتنزه عن مقارفة السيئات, فإنه بذلك يكون مبرورا والمبرور, ليس له جزاء إلا الجنة، وهذه الأشياء وإن كانت ممنوعة في كل مكان وزمان, فإنها يتغلظ المنع عنها في الحج. واعلم أنه لا يتم التقرب إلى الله بترك المعاصي حتى يفعل الأوامر، ولهذا قال تعالى: { وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ } أتى بـ " من " لتنصيص على العموم، فكل خير وقربة وعبادة, داخل في ذلك، أي: فإن الله به عليم, وهذا يتضمن غاية الحث على أفعال الخير, وخصوصا في تلك البقاع الشريفة والحرمات المنيفة, فإنه ينبغي تدارك ما أمكن تداركه فيها, من صلاة, وصيام, وصدقة, وطواف, وإحسان قولي وفعلي. ثم أمر تعالى بالتزود لهذا السفر المبارك, فإن التزود فيه الاستغناء عن المخلوقين, والكف عن أموالهم, سؤالا واستشرافا، وفي الإكثار منه نفع وإعانة للمسافرين, وزيادة قربة لرب العالمين، وهذا الزاد الذي المراد منه إقامة البنية بلغة ومتاع. وأما الزاد الحقيقي المستمر نفعه لصاحبه, في دنياه, وأخراه, فهو زاد التقوى الذي هو زاد إلى دار القرار, وهو الموصل لأكمل لذة, وأجل نعيم دائم أبدا، ومن ترك هذا الزاد, فهو المنقطع به الذي هو عرضة لكل شر, وممنوع من الوصول إلى دار المتقين. فهذا مدح للتقوى. ثم أمر بها أولي الألباب فقال: { وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ } أي: يا أهل العقول الرزينة, اتقوا ربكم الذي تقواه أعظم ما تأمر به العقول, وتركها دليل على الجهل, وفساد الرأي
تفسير البغوي
قوله تعالى : ( الحج أشهر معلومات ) أي وقت الحج أشهر معلومات وهي شوال وذو القعدة وتسع من ذي الحجة إلى طلوع الفجر من يوم النحر ويروى عن ابن عمر شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة وكل واحد من اللفظين صحيح غير مختلف فمن قال عشر عبر به عن الليالي ومن قال تسع عبر به عن الأيام فإن آخر أيامها يوم عرفة وهو يوم التاسع وإنما قال أشهر بلفظ الجمع وهي شهران وبعض الثالث لأنها وقت والعرب تسمي الوقت تاما بقليله وكثيره فتقول العرب أتيتك يوم الخميس وإنما أتاه في ساعة منه ويقول زرتك العام وإنما زاره في بعضه وقيل الاثنان فما فوقهما جماعة لأن معنى الجمع ضم الشيء إلى الشيء فإذا جاز أن يسمى الاثنان جماعة جاز أن يسمى الاثنان وبعض الثالث جماعة وقد ذكر الله تعالى الاثنين بلفظ الجمع فقال " فقد صغت قلوبكما " ( 4 - التحريم ) أي قلباكما وقال عروة بن الزبير وغيره أراد بالأشهر شوالا وذا القعدة وذا الحجة كملا لأنه يبقى على الحاج أمور بعد عرفة يجب عليه فعلها مثل الرمي والذبح ، والحلق وطواف الزيارة والبيتوتة بمنى فكانت في حكم الجمع ( فمن فرض فيهن الحج ) أي فمن أوجب على نفسه الحج بالإحرام والتلبية وفيه دليل على أن من أحرم بالحج في غير أشهر الحج لا ينعقد إحرامه بالحج وهو قول ابن عباس وجابر وبه قال عطاء وطاووس ومجاهد وإليه ذهب الأوزاعي والشافعي وقال ينعقد إحرامه بالعمرة لأن الله تعالى خص هذه الأشهر بغرض الحج فيها فلو انعقد في غيرها لم يكن لهذا التخصيص فائدة كما أنه علق الصلوات بالمواقيت ثم من أحرم بفرض الصلاة قبل دخول وقته لا ينعقد إحرامه عن الفرض وذهب جماعة إلى أنه ينعقد إحرامه بالحج وهو قول مالك والثوري وأبي حنيفة رضي الله عنهم وأما العمرة : فجميع أيام السنة لها إلا أن يكون متلبسا بالحج وروي عن أنس أنه كان بمكة فكان إذا حمم رأسه خرج فاعتمر .
قوله تعالى : ( فلا رفث ولا فسوق ) قرأ ابن كثير وأهل البصرة ) فلا رفث ولا فسوق بالرفع والتنوين فيهما وقرأ الآخرون بالنصب من غير تنوين كقوله تعالى ( ولا جدال في الحج ) وقرأ أبو جعفر كلها بالرفع والتنوين واختلفوا في الرفث قال ابن مسعود وابن عباس وابن عمر هو الجماع وهو قول الحسن ومجاهد وعمرو بن دينار وقتادة وعكرمة والربيع وإبراهيم النخعي ، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : الرفث غشيان النساء والتقبيل ، والغمز وأن يعرض لها بالفحش من الكلام قال حصين بن قيس أخذ ابن عباس رضي الله عنه بذنب بعيره فجعل يلويه وهو يحدو ويقول
وهن يمشين بنا هميسا إن تصدق الطير ننك لميسا
فقلت له أترفث وأنت محرم ؟ فقال إنما الرفث ما قيل عند النساء قال طاووس : الرفث التعريض للنساء بالجماع وذكره بين أيديهن وقال عطاء : الرفث قول الرجل للمرأة في حال الإحرام إذا حللت أصبتك وقيل الرفث الفحش والقول القبيح أما الفسوق قال ابن عباس : هو المعاصي كلها وهو قول طاووس والحسن وسعيد بن جبير وقتادة والزهري والربيع والقرظي وقال ابن عمر : هو ما نهي عنه المحرم في حال الإحرام من قتل الصيد وتقليم الأظافر وأخذ الأشعار وما أشبههما وقال إبراهيم وعطاء ومجاهد هو السباب بدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم : سباب المسلم فسوق ، وقتاله كفر " وقال الضحاك هو التنابز بالألقاب بدليل قوله تعالى : " ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان " ( 11 - الحجرات ) .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف أخبرنا محمد بن إسماعيل أخبرنا آدم أخبرنا سيار أبو الحكم قال سمعت أبا حازم يقول سمعت أبا هريرة رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " من حج لله فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه " .
قوله تعالى ( ولا جدال في الحج ) قال ابن مسعود وابن عباس : الجدال أن يماري صاحبه ويخاصمه حتى يغضبه وهو قول عمرو بن دينار وسعيد بن جبير وعكرمة والزهري وعطاء وقتادة وقال القاسم بن محمد : هو أن يقول بعضهم الحج اليوم ويقول بعضهم الحج غدا وقال القرظي : كانت قريش إذا اجتمعت بمنى قال هؤلاء حجنا أتم من حجكم وقال هؤلاء حجنا أتم من حجكم وقال مقاتل : هو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم في حجة الوداع وقد أحرموا بالحج " اجعلوا إهلالكم بالحج عمرة إلا من قلد الهدي قالوا كيف نجعله عمرة وقد سمينا الحج فهذا جدالهم وقال ابن زيد : كانوا يقفون مواقف مختلفة كلهم يزعم أن موقفه موقف إبراهيم يتجادلون فيه وقيل هو ما كان عليه أهل الجاهلية كان بعضهم يقف بعرفة وبعضهم بالمزدلفة وكان بعضهم يحج في ذي القعدة وكان بعضهم يحج في ذي الحجة فكل يقول ما فعلته فهو الصواب فقال جل ذكره ( ولا جدال في الحج ) أي استقر أمر الحج على ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا اختلاف فيه من بعد وذلك معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم : ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض " قال مجاهد : معناه ولا شك في الحج أنه في ذي الحجة فأبطل النسيء قال أهل المعاني ظاهر الآية نفي ومعناها نهي أي لا ترفثوا ولا تفسقوا ولا تجادلوا كقوله تعالى " لا ريب فيه " أي لا ترتابوا " وما تفعلوا من خير يعلمه الله " أي لا يخفى عليه فيجازيكم به
قوله تعالى : ( وتزودوا فإن خير الزاد التقوى ) نزلت في ناس من أهل اليمن كانوا يخرجون إلى الحج بغير زاد ويقولون نحن متوكلون ويقولون نحن نحج بيت الله فلا يطعمنا فإذا قدموا مكة سألوا الناس وربما يفضي بهم الحال إلى النهب ، والغصب فقال الله عز وجل ) ( وتزودوا ) أي ما تتبلغون به وتكفون به وجوهكم قال أهل التفسير الكعك والزبيب والسويق ، والتمر ونحوها ( فإن خير الزاد التقوى ) من السؤال والنهب ( واتقون يا أولي الألباب ) يا ذوي العقول
الإعراب:
(الْحَجُّ) مبتدأ.
(أَشْهُرٌ) خبره.
(مَعْلُوماتٌ) صفة.
(فَمَنْ) الفاء الفصيحة من اسم شرط جازم مبتدأ.
(فَرَضَ) فعل ماض والفاعل هو، وهو فعل الشرط.
(فِيهِنَّ) جار ومجرور متعلقان بفرض.
(الْحَجُّ) مفعول به وجملة: (فرض) جواب شرط غير جازم لا محل لها والجملة الاسمية.
(الْحَجُّ أَشْهُرٌ) استئنافية لا محل لها.
(فَلا) الفاء رابطة لجواب الشرط لا نافية للجنس تعمل عمل إن.
(رَفَثَ) اسمها مبني على الفتح.
(وَلا فُسُوقَ) عطف على فلا رفث.
(وَلا جِدالَ) عطف عليها.
(فِي الْحَجِّ) متعلقان بمحذوف خبر لا وجملة: (لا رفث) في محل جزم جواب الشرط وفعل الشرط وجوابه في محل رفع خبر من.
(وَما) الواو استئنافية ما اسم شرط جازم في محل نصب مفعول به مقدم.
(تَفْعَلُوا) مضارع مجزوم بحذف النون والواو فاعل (مِنْ خَيْرٍ) متعلقان بمحذوف حال من ما.
(يَعْلَمْهُ) فعل مضارع مجزوم لأنه جواب الشرط والهاء مفعول به.
(اللَّهُ) لفظ الجلالة فاعل والجملة جواب الشرط لا محل لها.
(وَتَزَوَّدُوا) الواو عاطفة تزودوا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل والجملة معطوفة.
(فَإِنَّ) الفاء تعليلية إن حرف مشبه بالفعل.
(خَيْرٍ) اسمها.
(الزَّادِ) مضاف إليه.
(التَّقْوى) خبرها والجملة لا محل لها تعليلية.
(وَاتَّقُونِ) الواو عاطفة اتقون فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل والنون للوقاية، وياء المتكلم المحذوفة المدلول عليها بالكسرة مفعول به، والجملة معطوفة.
(يا أُولِي) يا أداة نداء أولي منادى مضاف منصوب بالياء لأنه ملحق بجمع المذكر السالم.
(الْأَلْبابِ) مضاف إليه.