الفتوحات المكية

المكتبة الأكبرية: القرآن الكريم: سورة البقرة: [الآية 102]

سورة البقرة
وَٱتَّبَعُوا۟ مَا تَتْلُوا۟ ٱلشَّيَٰطِينُ عَلَىٰ مُلْكِ سُلَيْمَٰنَ ۖ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَٰنُ وَلَٰكِنَّ ٱلشَّيَٰطِينَ كَفَرُوا۟ يُعَلِّمُونَ ٱلنَّاسَ ٱلسِّحْرَ وَمَآ أُنزِلَ عَلَى ٱلْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَٰرُوتَ وَمَٰرُوتَ ۚ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّىٰ يَقُولَآ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ ۖ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِۦ بَيْنَ ٱلْمَرْءِ وَزَوْجِهِۦ ۚ وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِۦ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ ٱللَّهِ ۚ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنفَعُهُمْ ۚ وَلَقَدْ عَلِمُوا۟ لَمَنِ ٱشْتَرَىٰهُ مَا لَهُۥ فِى ٱلْءَاخِرَةِ مِنْ خَلَٰقٍ ۚ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا۟ بِهِۦٓ أَنفُسَهُمْ ۚ لَوْ كَانُوا۟ يَعْلَمُونَ ﴿102﴾

تفسير الجلالين:

«واتبعوا» عطف على نبذ «ما تتلوا» أي تلت «الشياطين على» عهد «ملك سليمان» من السحر وكانت دفنته تحت كرسيه لما نزع ملكه أو كانت تسترق السمع وتضم إليه أكاذيب وتلقيه إلى الكهنة فيدونونه وفشا ذلك وشاع أن الجن تعلم الغيب فجمع سليمان الكتب ودفنها فلما مات دلت الشياطين عليها الناس فاستخرجوها فوجدوا فيها السحر فقالوا إنما ملككم بهذا فتعلموه فرفضوا كتب أنبيائهم قال تعالى تبرئه لسليمان ورداً على اليهود في قولهم انظروا إلى محمد يذكر سليمان في الأنبياء وما كان إلا ساحراً: «وما كفر سليمان» أي لم يعمل السحر لأنه كفر «ولكن» بالتشديد والتخفيف «الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر» الجملة حال من ضمير كفروا «و» يعلمونهم «ما أنزل على الملكين» أي ألهماه من السحر وقرئ بكسر اللام الكائنين «ببابل» بلد في سواد العراق «هاروت وماروت» بدل أو عطف بيان للملكين قال ابن عباس هما ساحران كانا يعلمان السحر وقيل ملكان أنزلا لتعليمه ابتلاء من الله للناس «وما يعلمان من» زائدة «أحد حتى يقولا» له نصحاً «إنما نحن فتنة» بلية من الله إلى الناس ليمتحنهم بتعليمه فمن تعلمه كفر ومن تركه فهو مؤمن «فلا تكفر» بتعلمه فإن أبى إلا التعليم علماه «فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه» بأن يبغض كلا إلى الآخر «وما هم» أي السحرة «بضارين به» بالسحر «من» زائدة «أحد إلا بإذن الله» بإرادته «ويتعلمون ما يضرهم» في الآخرة «ولا ينفعهم» وهو السحر «ولقد» لام قسم «علموا» أي اليهود «لمن» لام ابتداء معلقة لما قبلها ومن موصلة «اشتراه» اختاره أو استبدله بكتاب الله «ماله في الآخرة من خلاق» نصيب في الجنة «ولبئس ما» شيئاً «شروا» باعوا «به أنفسهم» أي الشارين: أي حظها من الآخرة إن تعلموه حيث أوجب لهم النار «لو كانوا يعلمون» حقيقة ما يصيرون إليه من العذاب ما تعلَّموه.

تفسير الشيخ محي الدين:

لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (286)

أصل التكاليف مشتق من الكلف وهي المشقات «لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها» وهو ما آتاها من التمكن الذي هو وسعها ، فقد خلق سبحانه لنا التمكن من فعل بعض الأعمال ، نجد ذلك من نفوسنا ولا ننكره ، وهي الحركة الاختيارية ، كما جعل سبحانه فينا المانع من بعض الأفعال الظاهرة فينا ، ونجد ذلك من نفوسنا ، كحركة المرتعش الذي لا اختيار للمرتعش فيها ، وبذلك القدر من التمكن الذي يجده الإنسان في نفسه صح أن يكون مكلفا ، ولا يحقق الإنسان بعقله لما ذا يرجع ذلك التمكن ، هل لكونه قادرا أو لكونه مختارا ؟ وإن كان مجبورا في اختياره ، ولا يمكن رفع الخلاف في هذه المسألة ، فإنها من المسائل المعقولة ولا يعرف الحق فيها إلا بالكشف ، وإذا بذلت النفس الوسع في طاعة اللّه لم يقم عليها حجة ،

فإن اللّه أجلّ أن يكلف نفسا إلا وسعها ، ولذلك كان الاجتهاد في الفروع والأصول «لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ» لما كانت النفوس ولاة الحق على الجوارح ، والجوارح مأمورة مجبورة غير مختارة فيما تصرف فيه ، مطيعة بكل وجه ، والنفوس ليست كذلك ، فإذا عملت لغير عبادة لا يقبل العمل من حيث القاصد لوقوعه الذي هو النفس المكلفة ، لكن من حيث أن العمل صدر من الجوارح أو من جارحة مخصوصة ، فإنها تجزى به تلك الجارحة ، فيقبل العمل لمن ظهر منه ولا يعود منه على النفس الآمرة به للجوارح شيء إذا كان العمل خيرا بالصورة كصلاة المرائي والمنافق وجميع ما يظهر على جوارحه من أفعال الخير الذي لم تقصد به النفس عبادة ، وأما أعمال الشر المنهي عنها فإن النفس تجزى بها للقصد ، والجوارح لا تجزى بها لأنها ليس في قوتها الامتناع عما تريد النفوس بها من الحركات ، فإنها مجبورة على السمع والطاعة لها ، فإن جارت النفوس فعليها ، وللجوارح رفع الحرج ، بل لهم الخير الأتم ، وإن عدلت النفوس فلها وللجوارح ، لذلك قال تعالى : «لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ» فميز اللّه بين الكسب والاكتساب باللام وعلى ، وهذه الآية بشرى من اللّه حيث جعل المخالفة اكتسابا والطاعة كسبا ، فقال : «لَها ما كَسَبَتْ» فأوجبه لها .

وقال في المعصية والمخالفة : «وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ» فما أوجب لها الأخذ بما اكتسبته ، فالاكتساب ما هو حق لها فتستحقه ، فتستحق الكسب ولا تستحق الاكتساب ، والحق لا يعامل إلا بالاستحقاق ، والعفو من اللّه يحكم على الأخذ بالجريمة «رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا» اعلم أن الرحمة أبطنها اللّه في النسيان الموجود في العالم ، وأنه لو لم يكن لعظم الأمر وشق ، وفيما يقع فيه التذكر كفاية ، وأصل هذا وضع الحجاب بين العالم وبين اللّه في موطن التكليف ، إذ كانت المعاصي والمخالفات مقدرة في علم اللّه فلا بد من وقوعها من العبد ضرورة ، فلو وقعت مع التجلي والكشف لكان مبالغة في قلة الحياء من اللّه حيث يشهده ويراه ، والقدر حاكم بالوقوع فاحتجب رحمة بالخلق لعظيم المصاب ، قال صلّى اللّه عليه وسلم:

إن اللّه إذا أراد نفاذ قضائه وقدره سلب ذوي العقول عقولهم ، حتى إذا أمضى فيهم قضاءه وقدره ردها عليهم ليعتبروا ، وقال صلّى اللّه عليه وسلم : رفع عن أمتي الخطأ والنسيان ، فلا يؤاخذهم اللّه به في الدنيا ولا في الآخرة ، فأما في الآخرة فمجمع عليه من الكل ، وأما في الدنيا فأجمعوا على رفع الذنب ، واختلفوا في الحكم ، وكذلك في الخطأ على قدر ما شرع الشارع في

أشخاص المسائل ، مثل الإفطار ناسيا في رمضان وغير ذلك من المسائل ، فإن اللّه تعالى الذي شرع المعصية والطاعة وبيّن حكمهما ، رفع حكم الأخذ بالمعصية في حق الناسي والمخطئ «رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا ، رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ» وهذا تعليم من الحق لنا أن نسأله في أن لا يقع منه في المستقبل ما لم يقع في الحال ، «وَاعْفُ عَنَّا» أي كثر خيرك لنا وقلل بلاءك عنا ، أي قلل ما ينبغي أن يقلل وكثر ما ينبغي أن يكثر ، فإن العفو من الأضداد يطلق بإزاء الكثرة والقلة ، وليس إلا عفوك عن خطايانا التي طلبنا منك أن تسترنا عنها حتى لا تصيبنا ، وهو قولنا : «وَاغْفِرْ لَنا» أي استرنا من المخالفات حتى لا تعرف مكاننا فتقصدنا «وَارْحَمْنا» برحمة الامتنان ورحمة الوجوب ، أي برحمة الاختصاص.

------------

(286) التنزلات الموصلية - الفتوحات ج 1 / 341 - ج 2 / 381 - ج 3 / 348 ، 123 ، 511 - ج 2 / 535 ، 684 - ج 3 / 381 - ج 1 / 435 ، 434

تفسير ابن كثير:

قال العوفي في تفسيره ، عن ابن عباس في قوله تعالى : ( واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا ) وكان حين ذهب ملك سليمان ارتد فئام من الجن والإنس واتبعوا الشهوات ، فلما رجع الله إلى سليمان ملكه ، وقام الناس على الدين كما كان أوان سليمان ، ظهر على كتبهم فدفنها تحت كرسيه ، وتوفي سليمان ، عليه السلام ، حدثان ذلك ، فظهر الإنس والجن على الكتب بعد وفاة سليمان ، وقالوا : هذا كتاب من الله نزل على سليمان وأخفاه عنا فأخذوا به فجعلوه دينا . فأنزل الله : ( ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون ) واتبعوا الشهوات ، [ أي ] : التي كانت [ تتلو الشياطين ] وهي المعازف واللعب وكل شيء يصد عن ذكر الله .

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا أبو أسامة ، عن الأعمش ، عن المنهال ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : كان آصف كاتب سليمان ، وكان يعلم الاسم " الأعظم " ، وكان يكتب كل شيء بأمر سليمان ويدفنه تحت كرسيه ، فلما مات سليمان أخرجه الشياطين ، فكتبوا بين كل سطرين سحرا وكفرا ، وقالوا : هذا الذي كان سليمان يعمل بها . قال : فأكفره جهال الناس وسبوه ، ووقف علماؤهم فلم يزل جهالهم يسبونه ، حتى أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم : ( واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا ) .

وقال ابن جرير : حدثني أبو السائب سلم بن جنادة السوائي ، حدثنا أبو معاوية ، حدثنا عن الأعمش ، عن المنهال ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : كان سليمان ، عليه السلام ، إذا أراد أن يدخل الخلاء ، أو يأتي شيئا من نسائه ، أعطى الجرادة وهي امرأة خاتمه . فلما أراد الله أن يبتلي سليمان ، عليه السلام ، بالذي ابتلاه به ، أعطى الجرادة ذات يوم خاتمه ، فجاء الشيطان في صورة سليمان فقال لها : هاتي خاتمي . فأخذه فلبسه . فلما لبسه دانت له الشياطين والجن والإنس . قال : فجاءها سليمان ، فقال : هاتي خاتمي فقالت : كذبت ، لست سليمان . قال : فعرف سليمان أنه بلاء ابتلي به . قال : فانطلقت الشياطين فكتبت في تلك الأيام كتبا فيها سحر وكفر . ثم دفنوها تحت كرسي سليمان ، ثم أخرجوها وقرؤوها على الناس ، وقالوا : إنما كان سليمان يغلب الناس بهذه الكتب . قال : فبرئ الناس من سليمان ، عليه السلام ، وأكفروه حتى بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم وأنزل عليه : ( وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا )

ثم قال ابن جرير : حدثنا ابن حميد ، حدثنا جرير ، عن حصين بن عبد الرحمن ، عن عمران ، وهو ابن الحارث قال : بينا نحن عند ابن عباس رضي الله عنهما إذ جاء رجل فقال له : من أين جئت ؟ قال : من العراق . قال : من أيه ؟ قال : من الكوفة . قال : فما الخبر ؟ قال : تركتهم يتحدثون أن عليا خارج إليهم . ففزع ثم قال : ما تقول ؟ لا أبا لك ! لو شعرنا ما نكحنا نساءه ، ولا قسمنا ميراثه ، أما إني سأحدثكم عن ذلك : إنه كانت الشياطين يسترقون السمع من السماء ، فيجيء أحدهم بكلمة حق قد سمعها ، فإذا جرب منه صدق كذب معها سبعين كذبة ، قال : فتشربها قلوب الناس . فأطلع الله عليها سليمان . عليه السلام ، فدفنها تحت كرسيه . فلما توفي سليمان ، عليه السلام ، قام شيطان الطريق ، فقال : أفلا أدلكم على كنزه الممنع الذي لا كنز له مثله ؟ تحت الكرسي . فأخرجوه ، فقالوا هذا سحره ، فتناسخها الأمم حتى بقاياها ما يتحدث به أهل العراق وأنزل الله عز وجل ( واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا )

ورواه الحاكم في مستدركه ، عن أبي زكريا العنبري ، عن محمد بن عبد السلام ، عن إسحاق بن إبراهيم ، عن جرير ، به .

وقال السدي في قوله تعالى : ( واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان ) أي : على عهد سليمان . قال : كانت الشياطين تصعد إلى السماء ، فتقعد منها مقاعد للسمع ، فيستمعون من كلام الملائكة مما يكون في الأرض من موت أو غيب أو أمر ، فيأتون الكهنة فيخبرونهم . فتحدث الكهنة الناس فيجدونه كما قالوا . حتى إذا أمنتهم الكهنة كذبوا لهم . وأدخلوا فيه غيره ، فزادوا مع كل كلمة سبعين كلمة ، فاكتتب الناس ذلك الحديث في الكتب ، وفشا في بني إسرائيل أن الجن تعلم الغيب . فبعث سليمان في الناس فجمع تلك الكتب فجعلها في صندوق . ثم دفنها تحت كرسيه . ولم يكن أحد من الشياطين يستطيع أن يدنو من الكرسي إلا احترق . وقال : لا أسمع أحدا يذكر أن الشياطين يعلمون الغيب إلا ضربت عنقه . فلما مات سليمان ، عليه السلام ، وذهبت العلماء الذين كانوا يعرفون أمر سليمان ، وخلف من بعد ذلك خلف تمثل شيطان في صورة إنسان ، ثم أتى نفرا من بني إسرائيل ، فقال لهم : هل أدلكم على كنز لا تأكلونه أبدا ؟ قالوا : نعم . قال : فاحفروا تحت الكرسي . وذهب معهم وأراهم المكان ، وقام ناحية ، فقالوا له : فادن . قال لا ولكنني هاهنا في أيديكم ، فإن لم تجدوه فاقتلوني . فحفروا فوجدوا تلك الكتب . فلما أخرجوها قال الشيطان : إن سليمان إنما كان يضبط الإنس والشياطين والطير بهذا السحر . ثم طار وذهب . وفشا في الناس أن سليمان كان ساحرا . واتخذت بنو إسرائيل تلك الكتب ، فلما جاء محمد صلى الله عليه وسلم خاصموه بها ; فذلك حين يقول الله تعالى : ( وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا )

وقال الربيع بن أنس : إن اليهود سألوا محمدا صلى الله عليه وسلم زمانا عن أمور من التوراة ، لا يسألونه عن شيء من ذلك إلا أنزل الله تعالى عليه ما سألوه عنه ، فيخصمهم ، فلما رأوا ذلك قالوا : هذا أعلم بما أنزل الله إلينا منا . وإنهم سألوه عن السحر وخاصموه به ، فأنزل الله عز وجل : ( واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ) وإن الشياطين عمدوا إلى كتاب فكتبوا فيه السحر والكهانة وما شاء الله من ذلك ، فدفنوه تحت مجلس سليمان ، وكان [ سليمان ] عليه السلام ، لا يعلم الغيب . فلما فارق سليمان الدنيا استخرجوا ذلك السحر وخدعوا الناس ، وقالوا : هذا علم كان سليمان يكتمه ويحسد الناس عليه . فأخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث فرجعوا من عنده وقد حزنوا ، وأدحض الله حجتهم .

وقال مجاهد في قوله : ( واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان ) قال : كانت الشياطين تستمع الوحي فما سمعوا من كلمة [ إلا ] زادوا فيها مائتين مثلها . فأرسل سليمان ، عليه السلام ، إلى ما كتبوا من ذلك . فلما توفي سليمان وجدته الشياطين فعلمته الناس [ به ] وهو السحر .

وقال سعيد بن جبير : كان سليمان ، عليه السلام ، يتتبع ما في أيدي الشياطين من السحر فيأخذه منهم ، فيدفنه تحت كرسيه في بيت خزانته ، فلم يقدر الشياطين أن يصلوا إليه ، فدبت إلى الإنس ، فقالوا لهم : أتدرون ما العلم الذي كان سليمان يسخر به الشياطين والرياح وغير ذلك ؟ قالوا : نعم . قالوا : فإنه في بيت خزانته وتحت كرسيه . فاستثار به الإنس واستخرجوه فعملوا بها . فقال أهل الحجا : كان سليمان يعمل بهذا وهذا سحر . فأنزل الله تعالى على [ لسان ] نبيه محمد صلى الله عليه وسلم براءة سليمان عليه السلام ، فقال : ( واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا )

وقال محمد بن إسحاق بن يسار عمدت الشياطين حين عرفت موت سليمان بن داود ، عليه السلام فكتبوا أصناف السحر : " من كان يحب أن يبلغ كذا وكذا فليقل كذا وكذا " . حتى إذا صنفوا أصناف السحر جعلوه في كتاب . ثم ختموا بخاتم على نقش خاتم سليمان ، وكتبوا في عنوانه : " هذا ما كتب آصف بن برخيا الصديق للملك سليمان بن داود ، عليهما السلام من ذخائر كنوز العلم " . ثم دفنوه تحت كرسيه واستخرجته بعد ذلك بقايا بني إسرائيل حتى أحدثوا ما أحدثوا . فلما عثروا عليه قالوا : والله ما كان سليمان بن داود إلا بهذا . فأفشوا السحر في الناس [ وتعلموه وعلموه ] . وليس هو في أحد أكثر منه في اليهود لعنهم الله . فلما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما نزل عليه من الله ، سليمان بن داود ، وعده فيمن عده من المرسلين ، قال من كان بالمدينة من يهود : ألا تعجبون من محمد ! يزعم أن ابن داود كان نبيا ، والله ما كان إلا ساحرا . وأنزل الله [ في ] ذلك من قولهم : ( واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا ) الآية .

وقال ابن جرير : حدثنا القاسم ، حدثنا حسين ، حدثنا الحجاج عن أبي بكر ، عن شهر بن حوشب ، قال : لما سلب سليمان ، عليه السلام ، ملكه ، كانت الشياطين تكتب السحر في غيبة سليمان . فكتبت : " من أراد أن يأتي كذا وكذا فليستقبل الشمس ، وليقل كذا وكذا ، ومن أراد أن يفعل كذا وكذا فليستدبر الشمس وليقل كذا وكذا . فكتبته وجعلت عنوانه : هذا ما كتب آصف بن برخيا للملك سليمان [ بن داود ] من ذخائر كنوز العلم " . ثم دفنته تحت كرسيه . فلما مات سليمان ، عليه السلام ، قام إبليس ، لعنه الله ، خطيبا ، [ ثم ] قال : يا أيها الناس ، إن سليمان لم يكن نبيا ، إنما كان ساحرا ، فالتمسوا سحره في متاعه وبيوته . ثم دلهم على المكان الذي دفن فيه . فقالوا : والله لقد كان سليمان ساحرا ! هذا سحره ، بهذا تعبدنا ، وبهذا قهرنا . وقال المؤمنون : بل كان نبيا مؤمنا . فلما بعث الله النبي صلى الله عليه وسلم جعل يذكر الأنبياء حتى ذكر داود وسليمان . فقالت اليهود [ لعنهم الله ] انظروا إلى محمد يخلط الحق بالباطل . يذكر سليمان مع الأنبياء . إنما كان ساحرا يركب الريح ، فأنزل الله تعالى : ( واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان ) الآية .

وقال ابن جرير : حدثنا محمد بن عبد الأعلى الصنعاني ، قال : حدثنا المعتمر بن سليمان ، قال : سمعت عمران بن حدير ، عن أبي مجلز ، قال : أخذ سليمان ، عليه السلام ، من كل دابة عهدا ، فإذا أصيب رجل فسأل بذلك العهد ، خلى عنه . فزاد الناس السجع والسحر ، وقالوا : هذا يعمل به سليمان . فقال الله تعالى : ( وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ) .

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا عصام بن رواد ، حدثنا آدم ، حدثنا المسعودي ، عن زياد مولى ابن مصعب ، عن الحسن : ( واتبعوا ما تتلو الشياطين ) قال : ثلث الشعر ، وثلث السحر ، وثلث الكهانة .

وقال : حدثنا الحسن بن أحمد ، حدثنا إبراهيم بن عبد الله بن بشار الواسطي ، حدثني سرور بن المغيرة ، عن عباد بن منصور ، عن الحسن : ( واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان ) واتبعته اليهود على ملكه . وكان السحر قبل ذلك في الأرض لم يزل بها ، ولكنه إنما اتبع على ملك سليمان .

فهذه نبذة من أقوال أئمة السلف في هذا المقام ، ولا يخفى ملخص القصة والجمع بين أطرافها ، وأنه لا تعارض بين السياقات على اللبيب الفهم ، والله الهادي . وقوله تعالى : ( واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان ) أي : واتبعت اليهود الذين أوتوا الكتاب بعد إعراضهم عن كتاب الله الذي بأيديهم ومخالفتهم الرسول محمدا صلى الله عليه وسلم ما تتلوه الشياطين ، أي : ما ترويه وتخبر به وتحدثه الشياطين على ملك سليمان . وعداه ب على ; لأنه تضمن تتلو : تكذب . وقال ابن جرير : " على " هاهنا بمعنى " في " ، أي : تتلو في ملك سليمان . ونقله عن ابن جريج ، وابن إسحاق .

قلت : والتضمن أحسن وأولى ، والله أعلم .

وقول الحسن البصري ، رحمه الله : " قد كان السحر قبل زمان سليمان بن داود " صحيح لا شك فيه ; لأن السحرة كانوا في زمان موسى ، عليه السلام ، وسليمان بن داود بعده ، كما قال تعالى : ( ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله ) الآية [ البقرة : 246 ] ، ثم ذكر القصة بعدها ، وفيها : ( وقتل داود جالوت وآتاه الله الملك والحكمة ) [ البقرة : 251 ] . وقال قوم صالح وهم قبل إبراهيم الخليل ، عليه السلام ، لنبيهم صالح : ( إنما أنت من المسحرين ) [ الشعراء : 153 ] أي : [ من ] المسحورين على المشهور .

وقوله تعالى : ( وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه ) اختلف الناس في هذا المقام ، فذهب بعضهم إلى أن " ما " نافية ، أعني التي في قوله : ( وما أنزل على الملكين ) قال القرطبي : " ما " نافية ومعطوفة على قوله : ( وما كفر سليمان ) ثم قال : ( ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل ) أي : السحر ( على الملكين ) وذلك أن اليهود لعنهم الله كانوا يزعمون أنه نزل به جبريل وميكائيل فأكذبهم الله في ذلك وجعل قوله : ( هاروت وماروت ) بدلا من : ( الشياطين ) قال : وصح ذلك ، إما لأن الجمع قد يطلق على الاثنين كما في قوله : ( فإن كان له إخوة ) [ النساء : 11 ] أو يكون لهما أتباع ، أو ذكرا من بينهم لتمردهما ، فتقدير الكلام عنده : تعلمون الناس السحر ببابل ، هاروت وماروت . ثم قال : وهذا أولى ما حملت عليه الآية وأصح ولا يلتفت إلى ما سواه .

وروى ابن جرير بإسناده من طريق العوفي ، عن ابن عباس ، في قوله : ( وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت ) يقول : لم ينزل الله السحر . وبإسناده ، عن الربيع بن أنس ، في قوله : ( وما أنزل على الملكين ) قال : ما أنزل الله عليهما السحر .

قال ابن جرير : فتأويل الآية على هذا : واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان من السحر ، وما كفر سليمان ، ولا أنزل الله السحر على الملكين ، ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ببابل ، هاروت وماروت . فيكون قوله : ( ببابل هاروت [ وماروت ] ) من المؤخر الذي معناه المقدم . قال : فإن قال لنا قائل : وكيف وجه تقديم ذلك ؟ قيل : وجه تقديمه أن يقال : ( واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان ) " من السحر " ( وما كفر سليمان ) وما أنزل الله " السحر " على الملكين ، ( ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ) ببابل وهاروت وماروت فيكون معنيا بالملكين : جبريل وميكائيل ، عليهما السلام ; لأن سحرة اليهود فيما ذكر كانت تزعم أن الله أنزل السحر على لسان جبريل وميكائيل إلى سليمان بن داود ، فأكذبهم الله بذلك ، وأخبر نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم أن جبريل وميكائيل لم ينزلا بسحر ، وبرأ سليمان ، عليه السلام ، مما نحلوه من السحر ، وأخبرهم أن السحر من عمل الشياطين ، وأنها تعلم الناس ذلك ببابل ، وأن الذين يعلمونهم ذلك رجلان ، اسم أحدهما هاروت ، واسم الآخر ماروت ، فيكون هاروت وماروت على هذا التأويل ترجمة عن الناس ، وردا عليهم .

هذا لفظه بحروفه .

وقد قال ابن أبي حاتم : حدثت عن عبيد الله بن موسى ، أخبرنا فضيل بن مرزوق ، عن عطية ( وما أنزل على الملكين ) قال : ما أنزل الله على جبريل وميكائيل السحر .

حدثنا الفضل بن شاذان ، حدثنا محمد بن عيسى ، حدثنا يعلى يعني ابن أسد حدثنا بكر يعني ابن مصعب حدثنا الحسن بن أبي جعفر : أن عبد الرحمن بن أبزى كان يقرؤها : " وما أنزل على الملكين داود وسليمان " .

وقال أبو العالية : لم ينزل عليهما السحر ، يقول : علما الإيمان والكفر ، فالسحر من الكفر ، فهما ينهيان عنه أشد النهي . رواه ابن أبي حاتم .

ثم شرع ابن جرير في رد هذا القول ، وأن " ما " بمعنى الذي ، وأطال القول في ذلك ، وادعى أن هاروت وماروت ملكان أنزلهما الله إلى الأرض ، وأذن لهما في تعليم السحر اختبارا لعباده وامتحانا ، بعد أن بين لعباده أن ذلك مما ينهى عنه على ألسنة الرسل ، وادعى أن هاروت وماروت مطيعان في تعليم ذلك ; لأنهما امتثلا ما أمرا به .

وهذا الذي سلكه غريب جدا ! وأغرب منه قول من زعم أن هاروت وماروت قبيلان من الجن [ كما زعمه ابن حزم ] !

وروى ابن أبي حاتم بإسناده . عن الضحاك بن مزاحم : أنه كان يقرؤها : ( وما أنزل على الملكين ) ويقول : هما علجان من أهل بابل .

ووجه أصحاب هذا القول الإنزال بمعنى الخلق ، لا بمعنى الإيحاء ، في قوله : ( وما أنزل على الملكين ) كما قال تعالى : ( وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج ) [ الزمر : 6 ] ، ( وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ) [ الحديد : 25 ] ، ( وينزل لكم من السماء رزقا ) [ غافر : 13 ] . وفي الحديث : " ما أنزل الله داء إلا أنزل له دواء " . وكما يقال : أنزل الله الخير والشر .

[ وحكى القرطبي عن ابن عباس وابن أبزى والضحاك والحسن البصري : أنهم قرءوا : " وما أنزل على الملكين " بكسر اللام . قال ابن أبزى : وهما داود وسليمان . قال القرطبي : فعلى هذا تكون " ما " نافية أيضا ] .

وذهب آخرون إلى الوقف على قوله : ( يعلمون الناس السحر ) [ و " ما " نافية ] قال ابن جرير : حدثني يونس ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرنا الليث ، عن يحيى بن سعيد ، عن القاسم بن محمد ، وسأله رجل عن قول الله تعالى : ( يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت ) قال الرجل : يعلمان الناس السحر ، ما أنزل عليهما أو يعلمان الناس ما لم ينزل عليهما ؟ فقال القاسم : ما أبالي أيتهما كانت .

ثم روي عن يونس ، عن أنس بن عياض ، عن بعض أصحابه : أن القاسم قال في هذه القصة : لا أبالي أي ذلك كان ، إني آمنت به .

وذهب كثير من السلف إلى أنهما كانا ملكين من السماء ، وأنهما أنزلا إلى الأرض ، فكان من أمرهما ما كان . وقد ورد في ذلك حديث مرفوع رواه الإمام أحمد في مسنده كما سنورده إن شاء الله تعالى . وعلى هذا فيكون الجمع بين هذا وبين ما ثبت من الدلائل على عصمة الملائكة أن هذين سبق في علم الله لهما هذا ، فيكون تخصيصا لهما ، فلا تعارض حينئذ ، كما سبق في علمه من أمر إبليس ما سبق ، وفي قول : إنه كان من الملائكة ، لقوله تعالى : ( وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى ) [ طه : 116 ] ، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على ذلك . مع أن شأن هاروت وماروت على ما ذكر أخف مما وقع من إبليس لعنه الله .

[ وقد حكاه القرطبي عن علي ، وابن مسعود ، وابن عباس ، وابن عمر ، وكعب الأحبار ، والسدي ، والكلبي ] .

ذكر الحديث الوارد في ذلك إن صح سنده ورفعه وبيان الكلام عليه :

قال الإمام أحمد بن حنبل ، رحمه الله ، في مسنده : حدثنا يحيى بن [ أبي ] بكير ، حدثنا زهير بن محمد ، عن موسى بن جبير ، عن نافع ، عن عبد الله بن عمر : أنه سمع نبي الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن آدم عليه السلام لما أهبطه الله إلى الأرض قالت الملائكة : أي رب ( أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون ) [ البقرة : 30 ] ، قالوا : ربنا ، نحن أطوع لك من بني آدم . قال الله تعالى للملائكة : هلموا ملكين من الملائكة حتى نهبطهما إلى الأرض ، فننظر كيف يعملان ؟ قالوا : بربنا ، هاروت وماروت . فأهبطا إلى الأرض ومثلت لهما الزهرة امرأة من أحسن البشر ، فجاءتهما ، فسألاها نفسها . فقالت : لا والله حتى تتكلما بهذه الكلمة من الإشراك . فقالا : والله لا نشرك بالله شيئا أبدا . فذهبت عنهما ثم رجعت بصبي تحمله ، فسألاها نفسها . فقالت : لا والله حتى تقتلا هذا الصبي . فقالا لا والله لا نقتله أبدا . ثم ذهبت فرجعت بقدح خمر تحمله ، فسألاها نفسها . فقالت : لا والله حتى تشربا هذا الخمر . فشربا فسكرا ، فوقعا عليها ، وقتلا الصبي . فلما أفاقا قالت المرأة : والله ما تركتما شيئا أبيتماه علي إلا قد فعلتماه حين سكرتما . فخيرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة ، فاختارا عذاب الدنيا " .

وهكذا رواه أبو حاتم بن حبان في صحيحه ، عن الحسن عن سفيان ، عن أبي بكر بن أبي شيبة ، عن يحيى بن بكير ، به .

وهذا حديث غريب من هذا الوجه ، ورجاله كلهم ثقات من رجال الصحيحين ، إلا موسى بن جبير هذا ، وهو الأنصاري السلمي مولاهم المديني الحذاء ، روى عن ابن عباس وأبي أمامة بن سهل بن حنيف ، ونافع ، وعبد الله بن كعب بن مالك . وروى عنه ابنه عبد السلام ، وبكر بن مضر ، وزهير بن محمد ، وسعيد بن سلمة ، وعبد الله بن لهيعة ، وعمرو بن الحارث ، ويحيى بن أيوب . وروى له أبو داود ، وابن ماجه ، وذكره ابن أبي حاتم في كتاب الجرح والتعديل ، ولم يحك فيه شيئا من هذا ولا هذا ، فهو مستور الحال وقد تفرد به عن نافع مولى ابن عمر ، عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم . وروي له متابع من وجه آخر عن نافع ، كما قال ابن مردويه : حدثنا دعلج بن أحمد ، حدثنا هشام [ بن علي بن هشام ] حدثنا عبد الله بن رجاء ، حدثنا سعيد بن سلمة ، حدثنا موسى بن سرجس ، عن نافع ، عن ابن عمر : سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول . فذكره بطوله .

وقال أبو جعفر بن جرير : حدثنا القاسم ، حدثنا الحسين وهو سنيد بن داود صاحب التفسير حدثنا الفرج بن فضالة ، عن معاوية بن صالح ، عن نافع ، قال : سافرت مع ابن عمر ، فلما كان من آخر الليل قال : يا نافع ، انظر ، طلعت الحمراء ؟ قلت : لا مرتين أو ثلاثا ثم قلت : قد طلعت . قال : لا مرحبا بها ولا أهلا ؟ قلت : سبحان الله ! نجم مسخر سامع مطيع . قال : ما قلت لك إلا ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم أو قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الملائكة قالت : يا رب ، كيف صبرك على بني آدم في الخطايا والذنوب ؟ قال : إني ابتليتهم وعافيتكم . قالوا : لو كنا مكانهم ما عصيناك . قال : فاختاروا ملكين منكم . قال : فلم يألوا جهدا أن يختاروا ، فاختاروا هاروت وماروت " .

وهذان أيضا غريبان جدا . وأقرب ما في هذا أنه من رواية عبد الله بن عمر ، عن كعب الأحبار ، لا عن النبي صلى الله عليه وسلم ، كما قال عبد الرزاق في تفسيره ، عن الثوري ، عن موسى بن عقبة ، عن سالم ، عن ابن عمر ، عن كعب ، قال ذكرت الملائكة أعمال بني آدم ، وما يأتون من الذنوب ، فقيل لهم : اختاروا منكم اثنين ، فاختاروا هاروت وماروت . فقال لهما : إني أرسل إلى بني آدم رسلا وليس بيني وبينكم رسول ، انزلا لا تشركا بي شيئا ولا تزنيا ولا تشربا الخمر . قال كعب : فوالله ما أمسيا من يومهما الذي أهبطا فيه حتى استكملا جميع ما نهيا عنه .

ورواه ابن جرير من طريقين ، عن عبد الرزاق ، به .

ورواه ابن أبي حاتم ، عن أحمد بن عصام ، عن مؤمل ، عن سفيان الثوري ، به .

ورواه ابن جرير أيضا : حدثني المثنى ، حدثنا المعلى وهو ابن أسد حدثنا عبد العزيز بن المختار ، عن موسى بن عقبة ، حدثني سالم أنه سمع عبد الله يحدث ، عن كعب الأحبار ، فذكره .

فهذا أصح وأثبت إلى عبد الله بن عمر من الإسنادين المتقدمين ، وسالم أثبت في أبيه من مولاه نافع . فدار الحديث ورجع إلى نقل كعب الأحبار ، عن كتب بني إسرائيل ، والله أعلم .

ذكر الآثار الواردة في ذلك عن الصحابة والتابعين رضي الله عنهم أجمعين :

قال ابن جرير : حدثني المثنى ، حدثنا الحجاج حدثنا حماد ، عن خالد الحذاء ، عن عمير بن سعيد ، قال : سمعت عليا ، رضي الله عنه ، يقول : كانت الزهرة امرأة جميلة من أهل فارس ، وإنها خاصمت إلى الملكين هاروت وماروت ، فراوداها عن نفسها ، فأبت عليهما إلا أن يعلماها الكلام الذي إذا تكلم [ المتكلم ] به يعرج به إلى السماء . فعلماها فتكلمت به فعرجت إلى السماء . فمسخت كوكبا !

وهذا الإسناد [ جيد و ] رجاله ثقات ، وهو غريب جدا .

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا الفضل بن شاذان ، حدثنا محمد بن عيسى ، حدثنا إبراهيم بن موسى ، حدثنا أبو معاوية ، عن [ ابن أبي ] خالد ، عن عمير بن سعيد ، عن علي قال : هما ملكان من ملائكة السماء . يعني : ( وما أنزل على الملكين ) .

ورواه الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسيره بسنده ، عن مغيث ، عن مولاه جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن جده ، عن علي مرفوعا . وهذا لا يثبت من هذا الوجه .

ثم رواه من طريقين آخرين ، عن جابر ، عن أبي الطفيل ، عن علي ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لعن الله الزهرة ، فإنها هي التي فتنت الملكين هاروت وماروت " . وهذا أيضا لا يصح وهو منكر جدا . والله أعلم .

وقال ابن جرير : حدثني المثنى بن إبراهيم ، حدثنا الحجاج بن منهال ، حدثنا حماد ، عن علي بن زيد ، عن أبي عثمان النهدي ، عن ابن مسعود وابن عباس أنهما قالا جميعا : لما كثر بنو آدم وعصوا ، دعت الملائكة عليهم والأرض والجبال ربنا لا تهلكهم ، فأوحى الله إلى الملائكة : إني أزلت الشهوة والشيطان من قلوبكم ، ولو نزلتم لفعلتم أيضا . قال : فحدثوا أنفسهم أن لو ابتلوا اعتصموا ، فأوحى الله إليهم أن اختاروا ملكين من أفضلكم . فاختاروا هاروت وماروت . فأهبطا إلى الأرض ، وأنزلت الزهرة إليهما في صورة امرأة من أهل فارس يسمونها بيذخت . قال : فوقعا بالخطية . فكانت الملائكة يستغفرون للذين آمنوا : ( ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما ) [ غافر : 7 ]

فلما وقعا بالخطيئة استغفروا لمن في الأرض ألا إن الله هو الغفور الرحيم . فخيرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة ، فاختارا عذاب الدنيا .

وقال : ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عبد الله بن جعفر الرقي ، أخبرنا عبيد الله يعني ابن عمرو عن زيد بن أبي أنيسة ، عن المنهال بن عمرو ويونس بن خباب ، عن مجاهد ، قال : كنت نازلا على عبد الله بن عمر في سفر ، فلما كان ذات ليلة قال لغلامه : انظر ، هل طلعت الحمراء ، لا مرحبا بها ولا أهلا ولا حياها الله هي صاحبة الملكين . قالت الملائكة : يا رب ، كيف تدع عصاة بني آدم وهم يسفكون الدم الحرام وينتهكون محارمك ويفسدون في الأرض ! قال : إني ابتليتهم ، فعل إن ابتليتكم بمثل الذي ابتليتهم به فعلتم كالذي يفعلون . قالوا : لا . قال : فاختاروا من خياركم اثنين . فاختاروا هاروت وماروت . فقال لهما : إني مهبطكما إلى الأرض ، وعاهد إليكما ألا تشركا ولا تزنيا ولا تخونا . فأهبطا إلى الأرض وألقي عليهما الشبق ، وأهبطت لهما الزهرة في أحسن صورة امرأة ، فتعرضت لهما ، فراوداها عن نفسها . فقالت : إني على دين لا يصح لأحد أن يأتيني إلا من كان على مثله . قالا وما دينك ؟ قالت : المجوسية . قالا : الشرك ! هذا شيء لا نقر به . فمكثت عنهما ما شاء الله . ثم تعرضت لهما فأراداها عن نفسها . فقالت : ما شئتما ، غير أن لي زوجا ، وأنا أكره أن يطلع على هذا مني فأفتضح ، فإن أقررتما لي بديني ، وشرطتما لي أن تصعدا بي إلى السماء فعلت . فأقرا لها بدينها وأتياها فيما يريان ، ثم صعدا بها إلى السماء . فلما انتهيا بها إلى السماء اختطفت منهما ، وقطعت أجنحتهما فوقعا خائفين نادمين يبكيان ، وفي الأرض نبي يدعو بين الجمعتين ، فإذا كان يوم الجمعة أجيب . فقالا : لو أتينا فلانا فسألناه فطلب لنا التوبة فأتياه ، فقال : رحمكما الله ، كيف يطلب التوبة أهل الأرض لأهل السماء ! قالا : إنا قد ابتلينا . قال : ائتياني يوم الجمعة . فأتياه ، فقال : ما أجبت فيكما بشيء ، ائتياني في الجمعة الثانية . فأتياه ، فقال : اختارا ، فقد خيرتما ، إن أحببتما معافاة الدنيا وعذاب الآخرة ، وإن أحببتما فعذاب الدنيا وأنتما يوم القيامة على حكم الله . فقال أحدهما : إن الدنيا لم يمض منها إلا القليل . وقال الآخر : ويحك ؟ إني قد أطعتك في الأمر الأول فأطعني الآن ، إن عذابا يفنى ليس كعذاب يبقى . وإننا يوم القيامة على حكم الله ، فأخاف أن يعذبنا . قال : لا إني أرجو إن علم الله أنا قد اخترنا عذاب الدنيا مخافة عذاب الآخرة لا يجمعهما علينا . قال : فاختارا عذاب الدنيا ، فجعلا في بكرات من حديد في قليب مملوءة من نار ، عاليهما سافلهما .

وهذا إسناد جيد إلى عبد الله بن عمر . وقد تقدم في رواية ابن جرير من حديث معاوية بن صالح ، عن نافع ، عنه رفعه . وهذا أثبت وأصح إسنادا . ثم هو والله أعلم من رواية ابن عمر عن كعب ، كما تقدم بيانه من رواية سالم عن أبيه . وقوله : إن الزهرة نزلت في صورة امرأة حسناء ، وكذا في المروي عن علي ، فيه غرابة جدا .

وأقرب ما ورد في ذلك ما قال ابن أبي حاتم : حدثنا عصام بن رواد ، حدثنا آدم ، حدثنا أبو جعفر ، حدثنا الربيع بن أنس ، عن قيس بن عباد ، عن ابن عباس ، رضي الله عنهما قال : لما وقع الناس من بعد آدم ، عليه السلام ، فيما وقعوا فيه من المعاصي والكفر بالله ، قالت الملائكة في السماء : يا رب ، هذا العالم الذي إنما خلقتهم لعبادتك وطاعتك ، قد وقعوا فيما وقعوا فيه وركبوا الكفر وقتل النفس وأكل المال الحرام ، والزنا والسرقة وشرب الخمر . فجعلوا يدعون عليهم ، ولا يعذرونهم ، فقيل : إنهم في غيب . فلم يعذروهم . فقيل لهم : اختاروا منكم من أفضلكم ملكين ، آمرهما وأنهاهما . فاختاروا هاروت وماروت . فأهبطا إلى الأرض ، وجعل لهما شهوات بني آدم ، وأمرهما الله أن يعبداه ولا يشركا به شيئا ، ونهيا عن قتل النفس الحرام وأكل المال الحرام ، وعن الزنا والسرقة وشرب الخمر . فلبثا في الأرض زمانا يحكمان بين الناس بالحق وذلك في زمان إدريس عليه السلام . وفي ذلك الزمان امرأة حسنها في النساء كحسن الزهرة في سائر الكواكب ، وأنهما أتيا عليها فخضعا لها في القول وأراداها على نفسها فأبت إلا أن يكونا على أمرها وعلى دينها ، فسألاها عن دينها ، فأخرجت لهما صنما فقالت : هذا أعبده . فقالا : لا حاجة لنا في عبادة هذا . فذهبا فغبرا ما شاء الله . ثم أتيا عليها فأراداها على نفسها ، ففعلت مثل ذلك . فذهبا ، ثم أتيا عليها فراوداها على نفسها ، فلما رأت أنهما قد أبيا أن يعبدا الصنم قالت لهما : اختارا إحدى الخلال الثلاث : إما أن تعبدا هذا الصنم ، وإما أن تقتلا هذه النفس ، وإما أن تشربا هذا الخمر . فقالا : كل هذا لا ينبغي ، وأهون هذا شرب الخمر . فشربا الخمر فأخذت فيهما فواقعا المرأة ، فخشيا أن يخبر الإنسان عنهما فقتلاه فلما ذهب عنهما السكر وعلما ما وقعا فيه من الخطيئة أرادا أن يصعدا إلى السماء ، فلم يستطيعا ، وحيل بينهما وبين ذلك ، وكشف الغطاء فيما بينهما وبين أهل السماء ، فنظرت الملائكة إلى ما وقعا فيه ، فعجبوا كل العجب ، وعرفوا أنه من كان في غيب فهو أقل خشية ، فجعلوا بعد ذلك يستغفرون لمن في الأرض ، فنزل في ذلك : ( والملائكة يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون لمن في الأرض ) [ الشورى : 5 ] فقيل لهما : اختارا عذاب الدنيا أو عذاب الآخرة فقالا : أما عذاب الدنيا فإنه ينقطع ويذهب ، وأما عذاب الآخرة فلا انقطاع له . فاختارا عذاب الدنيا ، فجعلا ببابل ، فهما يعذبان .

وقد رواه الحاكم في مستدركه مطولا عن أبي زكريا العنبري ، عن محمد بن عبد السلام ، عن إسحاق ابن راهويه ، عن حكام بن سلم الرازي ، وكان ثقة ، عن أبي جعفر الرازي ، به . ثم قال : صحيح الإسناد ، ولم يخرجاه . فهذا أقرب ما روي في شأن الزهرة ، والله أعلم .

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا مسلم ، حدثنا القاسم بن الفضل الحداني حدثنا يزيد يعني الفارسي عن ابن عباس [ قال ] أن أهل سماء الدنيا أشرفوا على أهل الأرض فرأوهم يعملون المعاصي فقالوا : يا رب أهل الأرض كانوا يعملون بالمعاصي ! فقال الله : أنتم معي ، وهم غيب عني . فقيل لهم : اختاروا منكم ثلاثة ، فاختاروا منهم ثلاثة على أن يهبطوا إلى الأرض ، على أن يحكموا بين أهل الأرض ، وجعل فيهم شهوة الآدميين ، فأمروا ألا يشربوا خمرا ولا يقتلوا نفسا ، ولا يزنوا ، ولا يسجدوا لوثن . فاستقال منهم واحد ، فأقيل . فأهبط اثنان إلى الأرض ، فأتتهما امرأة من أحسن الناس يقال لها : مناهية . فهوياها جميعا ، ثم أتيا منزلها فاجتمعا عندها ، فأراداها فقالت لهما : لا حتى تشربا خمري ، وتقتلا ابن جاري ، وتسجدا لوثني . فقالا لا نسجد . ثم شربا من الخمر ، ثم قتلا ثم سجدا . فأشرف أهل السماء عليهما . فقالت لهما : أخبراني بالكلمة التي إذا قلتماها طرتما . فأخبراها فطارت فمسخت جمرة . وهي هذه الزهرة . وأما هما فأرسل إليهما سليمان بن داود فخيرهما بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة . فاختارا عذاب الدنيا . فهما مناطان بين السماء والأرض .

وهذا السياق فيه زيادات كثيرة وإغراب ونكارة ، والله أعلم بالصواب .

وقال عبد الرزاق : قال معمر : قال قتادة والزهري ، عن عبيد الله بن عبد الله : ( وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت ) كانا ملكين من الملائكة ، فأهبطا ليحكما بين الناس . وذلك أن الملائكة سخروا من حكام بني آدم ، فحاكمت إليهما امرأة ، فحافا لها . ثم ذهبا يصعدان فحيل بينهما وبين ذلك ، ثم خيرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة ، فاختارا عذاب الدنيا . وقال معمر : قال قتادة : فكانا يعلمان الناس السحر ، فأخذ عليهما ألا يعلما أحدا حتى يقولا ( إنما نحن فتنة فلا تكفر ) .

وقال أسباط عن السدي أنه قال : كان من أمر هاروت وماروت أنهما طعنا على أهل الأرض في أحكامهم ، فقيل لهما : إني أعطيت بني آدم عشرا من الشهوات ، فبها يعصونني . قال هاروت وماروت : ربنا ، لو أعطيتنا تلك الشهوات ثم نزلنا لحكمنا بالعدل . فقال لهما : انزلا فقد أعطيتكما تلك الشهوات العشر ، فاحكما بين الناس . فنزلا ببابل دنباوند ، فكانا يحكمان ، حتى إذا أمسيا عرجا ، فإذا أصبحا هبطا ، فلم يزالا كذلك حتى أتتهما امرأة تخاصم زوجها ، فأعجبهما حسنها واسمها بالعربية " الزهرة " ، وبالنبطية " بيذخت " وبالفارسية " أناهيد " فقال أحدهما لصاحبه : إنها لتعجبني . قال الآخر : قد أردت أن أذكر لك فاستحييت منك . فقال الآخر : هل لك أن أذكرها لنفسها ؟ قال : نعم ، ولكن كيف لنا بعذاب الله ؟ قال الآخر : إنا لنرجو رحمة الله . فلما جاءت تخاصم زوجها ذكرا إليها نفسها ، فقالت : لا حتى تقضيا لي على زوجي . فقضيا لها على زوجها ، ثم واعدتهما خربة من الخرب يأتيانها فيها ، فأتياها لذلك . فلما أراد الذي يواقعها قالت : ما أنا بالذي أفعل حتى تخبراني بأي كلام تصعدان إلى السماء ، وبأي كلام تنزلان منها ؟ فأخبراها ، فتكلمت فصعدت ، فأنساها الله ما تنزل به ، فبقيت مكانها ، وجعلها الله كوكبا . فكان عبد الله بن عمر كلما رآها لعنها ، فقال : هذه التي فتنت هاروت وماروت ، فلما كان الليل أرادا أن يصعدا فلم يطيقا ، فعرفا الهلكة ، فخيرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة ، فاختارا عذاب الدنيا ، فعلقا ببابل ، وجعلا يكلمان الناس كلامهما وهو السحر .

وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد : أما شأن هاروت وماروت ، فإن الملائكة عجبت من ظلم بني آدم ، وقد جاءتهم الرسل والكتب والبينات ، فقال لهم ربهم تعالى : اختاروا منكم ملكين أنزلهما يحكمان في الأرض بين بني آدم فاختاروا فلم يألوا [ إلا ] هاروت وماروت ، فقال لهما حين أنزلهما : أعجبتما من بني آدم من ظلمهم ومن معصيتهم ، وإنما تأتيهم الرسل والكتب [ والبينات ] من وراء وراء ، وأنتما ليس بيني وبينكما رسول ، فافعلا كذا وكذا ، ودعا كذا وكذا ، فأمرهما بأمر ونهاهما ، ثم نزلا على ذلك ليس أحد أطوع لله منهما ، فحكما فعدلا . فكانا يحكمان في النهار بين بني آدم ، فإذا أمسيا عرجا فكانا مع الملائكة ، وينزلان حين يصبحان فيحكمان فيعدلان ، حتى أنزلت عليهما الزهرة في أحسن صورة امرأة تخاصم ، فقضيا عليها . فلما قامت وجد كل واحد منهما في نفسه ، فقال أحدهما لصاحبه : وجدت مثل الذي وجدت ؟ قال : نعم . فبعثا إليها أن ائتيانا نقض لك . فلما رجعت قالا وقضيا لها ، فأتتهما فتكشفا لها عن عورتيهما ، وإنما كانت شهوتهما في أنفسهما ، ولم يكونا كبني آدم في شهوة النساء ولذتها . فلما بلغا ذلك واستحلا افتتنا ، فطارت الزهرة فرجعت حيث كانت . فلما أمسيا عرجا فزجرا فلم يؤذن لهما ، ولم تحملهما أجنحتهما . فاستغاثا برجل من بني آدم فأتياه ، فقالا ادع لنا ربك . فقال : كيف يشفع أهل الأرض لأهل السماء ؟ قالا : سمعنا ربك يذكرك بخير في السماء . فوعدهما يوما ، وغدا يدعو لهما ، فدعا لهما ، فاستجيب له ، فخيرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة ، فنظر أحدهما إلى صاحبه ، فقال : ألا تعلم أن أفواج عذاب الله في الآخرة كذا وكذا في الخلد ، وفي الدنيا تسع مرات مثلها ؟ فأمرا أن ينزلا ببابل ، فثم عذابهما . وزعم أنهما معلقان في الحديد مطويان ، يصفقان بأجنحتهما .

وقد روى في قصة هاروت وماروت عن جماعة من التابعين ، كمجاهد والسدي والحسن [ البصري ] وقتادة وأبي العالية والزهري والربيع بن أنس ومقاتل بن حيان وغيرهم ، وقصها خلق من المفسرين من المتقدمين والمتأخرين ، وحاصلها راجع في تفصيلها إلى أخبار بني إسرائيل ، إذ ليس فيها حديث مرفوع صحيح متصل الإسناد إلى الصادق المصدوق المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى ، وظاهر سياق القرآن إجمال القصة من غير بسط ولا إطناب فيها ، فنحن نؤمن بما ورد في القرآن على ما أراده الله تعالى ، والله أعلم بحقيقة الحال .

وقد ورد في ذلك أثر غريب وسياق عجيب في ذلك أحببنا أن ننبه عليه ، قال : الإمام أبو جعفر بن جرير ، رحمه الله : حدثنا الربيع بن سليمان ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرني ابن أبي الزناد ، حدثني هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم [ رضي الله عنها وعن أبيها ] أنها قالت : قدمت امرأة علي من أهل دومة الجندل ، جاءت تبتغي رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد موته حداثة ذلك ، تسأله عن شيء دخلت فيه من أمر السحر ، ولم تعمل به . قالت عائشة ، رضي الله عنها ، لعروة : يا ابن أختي ، فرأيتها تبكي حين لم تجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيشفيها كانت تبكي حتى إني لأرحمها ، وتقول : إني أخاف أن أكون قد هلكت . كان لي زوج فغاب عني ، فدخلت على عجوز فشكوت ذلك إليها ، فقالت : إن فعلت ما آمرك به فأجعله يأتيك . فلما كان الليل جاءتني بكلبين أسودين ، فركبت أحدهما وركبت الآخر ، فلم يكن كشيء حتى وقفنا ببابل ، وإذا برجلين معلقين بأرجلهما . فقالا : ما جاء بك ؟ فقلت : أتعلم السحر . فقالا : إنما نحن فتنة فلا تكفري ، فارجعي . فأبيت وقلت : لا . قالا : فاذهبي إلى ذلك التنور ، فبولي فيه . فذهبت ففزعت ولم أفعل ، فرجعت إليهما ، فقالا : أفعلت ؟ فقلت : نعم . فقالا : هل رأيت شيئا ؟ فقلت : لم أر شيئا . فقالا : لم تفعلي ، ارجعي إلى بلادك ولا تكفري [ فإنك على رأس أمرك ] . فأرببت وأبيت . فقالا : اذهبي إلى ذلك التنور فبولي فيه . فذهبت فاقشعررت [ وخفت ] ثم رجعت إليهما فقلت : قد فعلت . فقالا : فما رأيت ؟ فقلت : لم أر شيئا . فقالا : كذبت ، لم تفعلي ، ارجعي إلى بلادك ولا تكفري ; فإنك على رأس أمرك . فأرببت وأبيت . فقالا اذهبي إلى ذلك التنور ، فبولي فيه . فذهبت إليه فبلت فيه ، فرأيت فارسا مقنعا بحديد خرج مني ، فذهب في السماء وغاب [ عني ] حتى ما أراه ، فجئتهما فقلت : قد فعلت . فقالا : فما رأيت ؟ قلت : رأيت فارسا مقنعا خرج مني فذهب في السماء ، حتى ما أراه . فقالا : صدقت ، ذلك إيمانك خرج منك ، اذهبي . فقلت للمرأة : والله ما أعلم شيئا وما قالا لي شيئا . فقالت : بلى ، لم تريدي شيئا إلا كان ، خذي هذا القمح فابذري ، فبذرت ، وقلت : أطلعي فأطلعت وقلت : أحقلي فأحقلت ثم قلت : أفركي فأفركت . ثم قلت : أيبسي فأيبست . ثم قلت : أطحني فأطحنت . ثم قلت : أخبزي فأخبزت . فلما رأيت أني لا أريد شيئا إلا كان ، سقط في يدي وندمت والله يا أم المؤمنين ، والله ما فعلت شيئا قط ولا أفعله أبدا .

ورواه ابن أبي حاتم عن الربيع بن سليمان ، به مطولا كما تقدم . وزاد بعد قولها : ولا أفعله أبدا : فسألت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حداثة وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهم يومئذ متوافرون ، فما دروا ما يقولون لها ، وكلهم هاب وخاف أن يفتيها بما لا يعلمه ، إلا أنه قد قال لها ابن عباس أو بعض من كان عنده : لو كان أبواك حيين أو أحدهما [ لكان يكفيانك ] .

قال هشام : فلو جاءتنا أفتيناها بالضمان [ قال ] : قال ابن أبي الزناد : وكان هشام يقول : إنهم كانوا أهل الورع والخشية من الله . ثم يقول هشام : لو جاءتنا مثلها اليوم لوجدت نوكى أهل حمق وتكلف بغير علم .

فهذا إسناد جيد إلى عائشة ، رضي الله عنها .

وقد استدل بهذا الأثر من ذهب إلى أن الساحر له تمكن في قلب الأعيان ; لأن هذه المرأة بذرت واستغلت في الحال .

وقال آخرون : بل ليس له قدرة إلا على التخييل ، كما قال [ الله ] تعالى : ( سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاءوا بسحر عظيم ) [ الأعراف : 116 ] وقال تعالى : ( يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى ) [ طه : 66 ]

واستدل به على أن بابل المذكورة في القرآن هي بابل العراق ، لا بابل دنباوند كما قاله السدي وغيره . ثم الدليل على أنها بابل العراق ما قال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا أحمد بن صالح ، حدثني ابن وهب ، حدثني ابن لهيعة ويحيى بن أزهر ، عن عمار بن سعد المرادي ، عن أبي صالح الغفاري أن علي بن أبي طالب ، رضي الله عنه [ مر ببابل وهو يسير ، فجاء المؤذن يؤذنه بصلاة العصر ، فلما برز منها أمر المؤذن فأقام الصلاة ، فلما فرغ ] قال : إن حبيبي صلى الله عليه وسلم نهاني أن أصلي [ بأرض المقبرة ، ونهاني أن أصلي ] ببابل فإنها ملعونة .

وقال أبو داود : حدثنا سليمان بن داود ، حدثنا ابن وهب ، حدثني ابن لهيعة ويحيى بن أزهر ، عن عمار بن سعد المرادي ، عن أبي صالح الغفاري : أن عليا مر ببابل ، وهو يسير ، فجاءه المؤذن يؤذنه بصلاة العصر ، فلما برز منها أمر المؤذن فأقام الصلاة فلما فرغ قال : إن حبيبي صلى الله عليه وسلم نهاني أن أصلي في المقبرة ، ونهاني أن أصلي بأرض بابل ، فإنها ملعونة .

حدثنا أحمد بن صالح : حدثنا ابن وهب ، أخبرني يحيى بن أزهر وابن لهيعة ، عن الحجاج بن شداد ، عن أبي صالح الغفاري ، عن علي ، بمعنى حديث سليمان بن داود ، قال : فلما " خرج " مكان " برز " .

وهذا الحديث حسن عند الإمام أبي داود ، لأنه رواه وسكت عنه ; ففيه من الفقه كراهية الصلاة بأرض بابل ، كما تكره بديار ثمود الذين نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الدخول إلى منازلهم ، إلا أن يكونوا باكين .

قال أصحاب الهيئة : وبعد ما بين بابل ، وهي من إقليم العراق ، عن البحر المحيط الغربي ، ويقال له : أوقيانوس سبعون درجة ، ويسمون هذا طولا وأما عرضها وهو بعد ما بينها وبين وسط الأرض من ناحية الجنوب ، وهو المسامت لخط الاستواء ، اثنان وثلاثون درجة ، والله أعلم .

وقوله تعالى : ( وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر ) قال أبو جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، عن قيس بن عباد ، عن ابن عباس ، قال : فإذا أتاهما الآتي يريد السحر نهياه أشد النهي ، وقالا له : إنما نحن فتنة فلا تكفر ، وذلك أنهما علما الخير والشر والكفر والإيمان ، فعرفا أن السحر من الكفر . [ قال ] فإذا أبى عليهما أمراه أن يأتي مكان كذا وكذا ، فإذا أتاه عاين الشيطان فعلمه ، فإذا تعلم خرج منه النور ، فنظر إليه ساطعا في السماء ، فيقول : يا حسرتاه !

يا ويله ! ماذا أصنع ؟ .

وعن الحسن البصري أنه قال في تفسير هذه الآية : نعم ، أنزل الملكان بالسحر ، ليعلما الناس البلاء الذي أراد الله أن يبتلي به الناس ، فأخذ عليهما الميثاق أن لا يعلما أحدا حتى يقولا ( إنما نحن فتنة فلا تكفر ) رواه ابن أبي حاتم ، وقال قتادة : كان أخذ عليهما ألا يعلما أحدا حتى يقولا ( إنما نحن فتنة فلا تكفر ) أي : بلاء ابتلينا به ( فلا تكفر )

وقال [ قتادة و ] السدي : إذا أتاهما إنسان يريد السحر ، وعظاه ، وقالا له : لا تكفر ، إنما نحن فتنة . فإذا أبى قالا له : ائت هذا الرماد ، فبل عليه . فإذا بال عليه خرج منه نور فسطع حتى يدخل السماء ، وذلك الإيمان . وأقبل شيء أسود كهيئة الدخان حتى يدخل في مسامعه وكل شيء [ منه ] . وذلك غضب الله . فإذا أخبرهما بذلك علماه السحر ، فذلك قول الله تعالى : ( وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر ) الآية .

وقال سنيد ، عن حجاج ، عن ابن جريج في هذه الآية : لا يجترئ على السحر إلا كافر .

وأما الفتنة فهي المحنة والاختبار ، ومنه قول الشاعر :

وقد فتن الناس في دينهم وخلى ابن عفان شرا طويلا

وكذلك قوله تعالى إخبارا عن موسى ، عليه السلام ، حيث قال : ( إن هي إلا فتنتك ) أي : ابتلاؤك واختبارك وامتحانك ( تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء ) [ الأعراف : 155 ] .

وقد استدل بعضهم بهذه الآية على تكفير من تعلم السحر ، ويستشهد له بالحديث الذي رواه الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا محمد بن المثنى ، حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن همام ، عن عبد الله ، قال : من أتى كاهنا أو ساحرا فصدقه بما يقول ، فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم .

وهذا إسناد جيد وله شواهد أخر .

وقوله تعالى : ( فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه ) أي : فيتعلم الناس من هاروت وماروت من علم السحر ما يتصرفون به فيما يتصرفون فيه من الأفاعيل المذمومة ، ما إنهم ليفرقون به بين الزوجين مع ما بينهما من الخلطة والائتلاف . وهذا من صنيع الشياطين ، كما رواه مسلم في صحيحه ، من حديث الأعمش ، عن أبي سفيان طلحة بن نافع ، عن جابر بن عبد الله ، رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : " إن الشيطان ليضع عرشه على الماء ، ثم يبعث سراياه في الناس ، فأقربهم عنده منزلة أعظمهم عنده فتنة ، يجيء أحدهم فيقول : ما زلت بفلان حتى تركته وهو يقول كذا وكذا . فيقول إبليس : لا والله ما صنعت شيئا . ويجيء أحدهم فيقول : ما تركته حتى فرقت بينه وبين أهله قال : فيقربه ويدنيه ويلتزمه ، ويقول : نعم أنت " .

وسبب التفرق بين الزوجين بالسحر : ما يخيل إلى الرجل أو المرأة من الآخر من سوء منظر ، أو خلق أو نحو ذلك أو عقد أو بغضه ، أو نحو ذلك من الأسباب المقتضية للفرقة .

والمرء عبارة عن الرجل ، وتأنيثه امرأة ، ويثنى كل منهما ولا يجمعان ، والله أعلم .

وقوله تعالى : ( وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله ) قال سفيان الثوري : إلا بقضاء الله . وقال محمد بن إسحاق إلا بتخلية الله بينه وبين ما أراد . وقال الحسن البصري : ( وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله ) قال : نعم ، من شاء الله سلطهم عليه ، ومن لم يشأ الله لم يسلط ، ولا يستطيعون ضر أحد إلا بإذن الله ، كما قال الله تعالى ، وفي رواية عن الحسن أنه قال : لا يضر هذا السحر إلا من دخل فيه .

وقوله تعالى : ( ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ) أي : يضرهم في دينهم ، وليس له نفع يوازي ضرره .

( ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلا


تفسير الطبري :

فيه أربع وعشرون مسألة: الأولى: قوله تعالى{واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان} هذا إخبار من الله تعالى عن الطائفة الذين نبذوا الكتاب بأنهم اتبعوا السحر أيضا، وهم اليهود. وقال السدي : عارضت اليهود محمدا صلى الله عليه وسلم بالتوراة فاتفقت التوراة والقرآن فنبذوا التوراة وأخذوا بكتاب آصف وبسحر هاروت وماروت. وقال محمد بن إسحاق : لما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم سليمان في المرسلين قال بعض أحبارهم : يزعم محمد أن ابن داود كان نبيا! والله ما كان إلا ساحرا، فأنزل الله عز وجل{وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا} أي ألقت إلى بني آدم أن ما فعله سليمان من ركوب البحر واستسخار الطير والشياطين كان سحرا. وقال الكلبي : كتبت الشياطين السحر والنيرنجيات على لسان آصف كاتب سليمان، ودفنوه تحت مصلاه حين انتزع الله ملكه ولم يشعر بذلك سليمان، فلما مات سليمان استخرجوه وقالوا للناس : إنما ملككم بهذا فتعلموه، فأما علماء بني إسرائيل فقالوا : معاذ الله أن يكون هذا علم سليمان! وأما السفلة فقالوا : هذا علم سليمان، وأقبلوا على تعليمه ورفضوا كتب أنبيائهم حتى بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله عز وجل على نبيه عذر سليمان وأظهر براءته مما رمي به فقال{واتبعوا ما تتلوا الشياطين}. قال عطاء{تتلو} تقرأ من التلاوة. وقال ابن عباس{تتلو} تتبع، كما تقول : جاء القوم يتلو بعضهم بعضا. وقال الطبري{اتبعوا} بمعنى فضلوا. قلت : لأن كل من اتبع شيئا وجعله أمامه فقد فضله على غيره، ومعنى {تتلو} يعني تلت، فهو بمعنى المضي، قال الشاعر : وإذا مررت بقبره فاعقر به ** كوم الهجان وكل طرف سابح وانضح جوانب قبره بدمائها ** فلقد يكون أخادم وذبائح أي فلقد كان. و{ما} مفعول بـ {اتبعوا} أي اتبعوا ما تقولته الشياطين على سليمان وتلته. وقيل{ما} نفي، وليس بشيء لا في نظام الكلام ولا في صحته، قال ابن العربي. {على ملك سليمان} أي على شرعه ونبوته. قال الزجاج : قال الفراء على عهد ملك سليمان. وقيل : المعنى في ملك سليمان، يعني في قصصه وصفاته وأخباره. قال الفراء : تصلح على وفي، في مثل هذا الموضع. وقال {على} ولم يقل بعد لقوله تعالى{وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته}[الحج : 52] أي في تلاوته. وقد تقدم معنى الشيطان واشتقاقه، فلا معنى لإعادته. والشياطين هنا قيل : هم شياطين الجن، وهو المفهوم من هذا الاسم. وقيل : المراد شياطين الإنس المتمردون في الضلال، كقول جرير : أيام يدعونني الشيطان من غزلي ** وكن يهوينني إذ كنت شيطانا الثانية: قوله تعالى{وما كفر سليمان} تبرئة من الله لسليمان ولم يتقدم في الآية أن أحدا نسبه إلى الكفر، ولكن اليهود نسبته إلى السحر، ولكن لما كان السحر كفرا صار بمنزلة من نسبه إلى الكفر. {ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر} فأثبت كفرهم بتعليم السحر. و{يعلمون} في موضع نصب على الحال، ويجوز أن يكون في موضع رفع على أنه خبر ثان. وقرأ الكوفيون سوى عاصم {ولكن الشياطين} بتخفيف {لكن}، ورفع النون من {الشياطين}، وكذلك في الأنفال {ولكن الله رمى} [الأنفال:17] ووافقهم ابن عامر. الباقون بالتشديد والنصب. و{لكن} كلمة لها معنيان : نفي الخبر الماضي، وإثبات الخبر المستقبل، وهي مبنية من ثلاث كلمات : لا، ك، إن. {لا} نفي، و{الكاف} خطاب، و{إن} إثبات وتحقيق، فذهبت الهمزة استثقالا، وهي تثقل وتخفف، فإذا ثقلت نصبت كإن الثقيلة، وإذا خففت رفعت بها كما ترفع بإن الخفيفة. الثالثة:السحر، قيل : السحر أصله التمويه والتخاييل، وهو أن يفعل الساحر أشياء ومعاني، فيخيل للمسحور أنها بخلاف ما هي به، كالذي يرى السراب من بعيد فيخيل إليه أنه ماء، وكراكب السفينة السائرة سيرا حثيثا يخيل إليه أن ما يرى من الأشجار والجبال سائرة معه. وقيل : هو مشتق من سحرت الصبي إذا خدعته، وكذلك إذا عللته، والتسحير مثله، قال لبيد : فإن تسألينا فيم نحن فإننا ** عصافير من هذا الأنام المسحر آخر : أرانا موضعين لأمر غيب ** ونسحر بالطعام وبالشراب عصافير وذبان ودود ** وأجرأ من مجلحة الذئاب وقوله تعالى{إنما أنت من المسحرين} [الشعراء:153] يقال : المسحر الذي خلق ذا سحر، ويقال من المعللين، أي ممن يأكل الطعام ويشرب الشراب. وقيل : أصله الخفاء، فإن الساحر يفعله في خفية. وقيل : أصله الصرف، يقال : ما سحرك عن كذا، أي ما صرفك عنه، فالسحر مصروف عن جهته. وقيل : أصله الاستمالة، وكل من استمالك فقد سحرك. وقيل في قوله تعالى{بل نحن قوم مسحورون} [الحجر:15] أي سحرنا فأزلنا بالتخييل عن معرفتنا. وقال الجوهري : السحر الأخذة، وكل ما لطف مأخذه ودق فهو سحر، وقد سحره يسحره سحرا. والساحر : العالم، وسحره أيضا بمعنى خدعه، وقد ذكرناه. وقال ابن مسعود : كنا نسمي السحر في الجاهلية العضه. والعضه عند العرب : شدة البهت وتمويه الكذب، قال الشاعر : أعوذ بربي من النافثات ** في عضه العاضه المعضه واختلف هل له حقيقة أم لا، فذكر الغزنوي الحنفي في عيون المعاني له : أن السحر عند المعتزلة خدع لا أصل له، وعند الشافعي وسوسة وأمراض. قال : وعندنا أصله طلسم يبنى على تأثير خصائص الكواكب، كتأثير الشمس في زئبق عصي فرعون، أو تعظيم الشياطين ليسهلوا له ما عسر. قلت : وعندنا أنه حق وله حقيقة يخلق الله عنده ما شاء، على ما يأتي. ثم من السحر ما يكون بخفة اليد كالشعوذة. والشعوذي : البريد لخفة سيره. قال ابن فارس في المجمل : الشعوذة ليست من كلام أهل البادية، وهي خفة في اليدين وأخذة كالسحر، ومنه ما يكون كلاما يحفظ، ورقى من أسماء الله تعالى. وقد يكون من عهود الشياطين، ويكون أدوية وأدخنة وغير ذلك. الخامسة: سمى رسول الله صلى الله عليه وسلم الفصاحة في الكلام واللسانة فيه سحرا، فقال : (إن من البيان لسحرا) أخرجه مالك وغيره. وذلك لأن فيه تصويب الباطل حتى يتوهم السامع أنه حق، فعلى هذا يكون قوله عليه السلام : (إن من البيان لسحرا) خرج مخرج الذم للبلاغة والفصاحة، إذ شبهها بالسحر. وقيل : خرج مخرج المدح للبلاغة والتفضيل للبيان، قاله جماعة من أهل العلم. والأول أصح، والدليل عليه قوله عليه السلام : (فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض)، وقوله : (إن أبغضكم إلي الثرثارون المتفيهقون). الثرثرة : كثرة الكلام وترديده، يقال : ثرثر الرجل فهو ثرثار مهذار. والمتفيهق نحوه. قال ابن دريد. فلان يتفيهق في كلامه إذا توسع فيه وتنطع، قال : وأصله الفهق وهو الامتلاء، كأنه ملأ به فمه. قلت : وبهذا المعنى الذي ذكرناه فسره عامر الشعبي راوي الحديث وصعصعة بن صوحان فقالا : أما قوله صلى الله عليه وسلم : (إن من البيان لسحرا) فالرجل يكون عليه الحق وهو ألحن بالحجج من صاحب الحق فيسحر القوم ببيانه فيذهب بالحق وهو عليه، وإنما يحمد العلماء البلاغة واللسانة ما لم تخرج إلى حد الإسهاب والإطناب، وتصوير الباطل في صورة الحق. وهذا بين، والحمد لله. السادسة: من السحر ما يكون كفرا من فاعله، مثل ما يدعون من تغيير صور الناس، وإخراجهم في هيئة بهيمة، وقطع مسافة شهر في ليلة، والطيران في الهواء، فكل من فعل هذا ليوهم الناس أنه محق فذلك كفر منه، قاله أبو نصر عبدالرحيم القشيري. قال أبو عمرو : من زعم أن الساحر يقلب الحيوان من صورة إلى صورة، فيجعل الإنسان حمارا أو نحوه، ويقدر على نقل الأجساد وهلاكها وتبديلها، فهذا يرى قتل الساحر لأنه كافر بالأنبياء، يدعي مثل آياتهم ومعجزاتهم، ولا يتهيأ مع هذا علم صحة النبوة إذ قد يحصل مثلها بالحيلة. وأما من زعم أن السحر خدع ومخاريق وتمويهات وتخييلات فلم يجب على أصله قتل الساحر، إلا أن يقتل بفعله أحدا فيقتل به. السابعة: ذهب أهل السنة إلى أن السحر ثابت وله حقيقة. وذهب عامة المعتزلة وأبو إسحاق الإسترابادي من أصحاب الشافعي إلى أن السحر لا حقيقة له، وإنما هو تمويه وتخييل وإيهام لكون الشيء على غير ما هو به، وأنه ضرب من الخفة والشعوذة، كما قال تعالى{يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى} [طه:66] ولم يقل تسعى على الحقيقة، ولكن قال {يخيل إليه}. وقال أيضا{سحروا أعين الناس } [الأعراف:116]. وهذا لا حجة فيه، لأنا لا ننكر أن يكون التخييل وغيره من جملة السحر، ولكن ثبت وراء ذلك أمور جوزها العقل وورد بها السمع، فمن ذلك ما جاء في هذه الآية من ذكر السحر وتعليمه، ولو لم يكن له حقيقة لم يمكن تعليمه، ولا أخبر تعالى أنهم يعلمونه الناس، فدل على أن له حقيقة. وقوله تعالى في قصة سحرة فرعون{وجاؤوا بسحر عظيم} وسورة الفلق، مع اتفاق المفسرين على أن سبب نزولها ما كان من سحر لبيد بن الأعصم، وهو مما خرجه البخاري ومسلم وغيرهما عن عائشة رضي الله عنها قالت : سحر رسول الله صلى الله عليه وسلم يهودي من يهود بني زريق يقال له لبيد بن الأعصم، الحديث. وفيه : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لما حل السحر{إن الله شفاني}. والشفاء إنما يكون برفع العلة وزوال المرض، فدل على أن له حقا وحقيقة، فهو مقطوع به بإخبار الله تعالى ورسوله على وجوده ووقوعه. وعلى هذا أهل الحل والعقد الذين ينعقد بهم الإجماع، ولا عبرة مع اتفاقهم بحثالة المعتزلة ومخالفتهم أهل الحق. ولقد شاع السحر وذاع في سابق الزمان وتكلم الناس فيه، ولم يبد من الصحابة ولا من التابعين إنكار لأصله. و روى سفيان عن أبي الأعور عن عكرمة عن ابن عباس قال : علم السحر في قرية من قرى مصر يقال لها : الفرما، فمن كذب به فهو كافر، مكذب لله ورسوله، منكر لما علم مشاهدة وعيانا. الثامنة: قال علماؤنا : لا ينكر أن يظهر على يد الساحر خرق العادات مما ليس في مقدور البشر من مرض وتفريق وزوال عقل وتعويج عضو إلى غير ذلك مما قام الدليل على استحالة كونه من مقدورات العباد. قالوا : ولا يبعد في السحر أن يستدق جسم الساحر حتى يتولج في الكوات والخوخات والانتصاب على رأس قصبة، والجري على خيط مستدق، والطيران في الهواء والمشي على الماء وركوب كلب وغير ذلك. ومع ذلك فلا يكون السحر موجبا لذلك، ولا علة لوقوعه ولا سببا مولدا، ولا يكون الساحر مستقلا به، وإنما يخلق الله تعالى هذه الأشياء ويحدثها عند وجود السحر، كما يخلق الشبع عند الأكل، والري عند شرب الماء. روى سفيان عن عمار الذهبي أن ساحرا كان عند الوليد بن عقبة يمشي على الحبل، ويدخل في أست الحمار ويخرج من فيه، فاشتمل له جندب على السيف فقتله جندب - هذا هو جندب بن كعب الأزدي ويقال البجلي - وهو الذي قال في حقه النبي صلى الله عليه وسلم : (يكون في أمتي رجل يقال له جندب يضرب ضربة بالسيف يفرق بين الحق والباطل). فكانوا يرونه جندبا هذا قاتل الساحر. قال علي بن المديني : روى عنه حارثة بن مضرب. التاسعة: أجمع المسلمون على أنه ليس في السحر ما يفعل الله عنده إنزال الجراد والقمل والضفادع وفلق البحر وقلب العصا وإحياء الموتى وإنطاق العجماء، وأمثال ذلك من عظيم آيات الرسل عليهم السلام. فهذا ونحوه مما يجب القطع بأنه لا يكون ولا يفعله الله عند إرادة الساحر. قال القاضي أبو بكر بن الطيب : وإنما منعنا ذلك بالإجماع ولولاه لأجزناه. العاشرة: في الفرق بين السحر والمعجزة، قال علماؤنا : السحر يوجد من الساحر وغيره، وقد يكون جماعة يعرفونه ويمكنهم الإتيان به في وقت واحد. والمعجزة لا يمكن الله أحدا أن يأتي بمثلها وبمعارضتها، ثم الساحر لم يدع النبوة فالذي يصدر منه متميز عن المعجزة، فإن المعجزة شرطها اقتران دعوى النبوة والتحدي بها، كما تقدم في مقدمة الكتاب. الحاديةعشرة: واختلف الفقهاء في حكم الساحر المسلم والذمي، فذهب مالك إلى أن المسلم إذا سحر بنفسه بكلام يكون كفرا يقتل ولا يستتاب ولا تقبل توبته، لأنه أمر يستسر به كالزنديق والزاني، ولأن الله تعالى سمى السحر كفرا بقوله{وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر} وهو قول أحمد بن حنبل وأبي ثور وإسحاق والشافعي وأبي حنيفة. وروي قتل الساحر عن عمر وعثمان وابن عمر وحفصة وأبي موسى وقيس بن سعد وعن سبعة من التابعين. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم : (حد الساحر ضربه بالسيف) خرجه الترمذي وليس بالقوي، انفرد به إسماعيل بن مسلم وهو ضعيف عندهم، رواه ابن المنذر : وقد روينا عن عائشة أنها باعت ساحرة كانت سحرتها وجعلت ثمنها في الرقاب. قال ابن المنذر : وإذا أقر الرجل أنه سحر بكلام يكون كفرا وجب قتله إن لم يتب، وكذلك لو ثبتت به عليه بينة ووصفت البينة كلاما يكون كفرا. وإن كان الكلام الذي ذكر أنه سحر به ليس بكفر لم يجز قتله، فإن كان أحدث في المسحور جناية توجب القصاص اقتص منه إن كان عمد ذلك، وإن كان مما لا قصاص فيه ففيه دية ذلك. قال ابن المنذر : وإذا اختلف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسألة وجب اتباع أشبههم بالكتاب والسنة، وقد يجوز أن يكون السحر الذي أمر من أمر منهم بقتل الساحر سحرا يكون كفرا فيكون ذلك موافقا لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويحتمل أن تكون عائشة رضي الله عنها أمرت ببيع ساحرة لم يكن سحرها كفرا. فإن احتج محتج بحديث جندب عن النبي صلى الله عليه وسلم : (حد الساحر ضربه بالسيف) فلو صح لاحتمل أن يكون أمر بقتل الساحر الذي يكون سحره كفرا، فيكون ذلك موافقا للأخبار التي جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث) قلت : وهذا صحيح، ودماء المسلمين محظورة لا تستباح إلا بيقين ولا يقين مع الاختلاف. والله تعالى اعلم. وقال بعض العلماء : إن قال أهل الصناعة أن السحر لا يتم إلا مع الكفر والاستكبار، أو تعظيم الشيطان فالسحر إذا دال على الكفر على هذا التقدير، والله تعالى أعلم. وروي عن الشافعي : لا يقتل الساحر إلا أن يقتل بسحره ويقول تعمدت القتل، وإن قال لم أتعمده لم يقتل، وكانت فيه الدية كقتل الخطأ، وإن أضر به أدب على قدر الضرر. قال ابن العربي : وهذا باطل من وجهين، أحدهما : أنه لم يعلم السحر، وحقيقته أنه كلام مؤلف يعظم به غير الله تعالى، وتنسب إليه المقادير والكائنات. الثاني : أن الله سبحانه قد صرح في كتابه بأنه كفر فقال{وما كفر سليمان} بقول السحر {ولكن الشياطين كفروا} به وبتعليمه، وهاروت وماروت يقولان{إنما نحن فتنة فلا تكفر} وهذا تأكيد للبيان. احتج أصحاب مالك بأنه لا تقبل توبته، لأن السحر باطن لا يظهره صاحبه فلا تعرف توبته كالزنديق، وإنما يستتاب من أظهر الكفر مرتدا، قال مالك : فإن جاء الساحر أو الزنديق تائبا قبل أن يشهد عليهما قبلت توبتهما، والحجة لذلك قوله تعالى{فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا} [غافر:85] فدل على أنه كان ينفعهم إيمانهم قبل نزول العذاب، فكذلك هذان. الثانيةعشرة: وأما ساحر الذمة، فقيل يقتل. وقال مالك : لا يقتل إلا أن يقتل بسحره ويضمن ما جنى، ويقتل إن جاء منه ما لم يعاهد عليه. وقال ابن خويز منداد : فأما إذا كان ذميا فقد اختلفت الرواية عن مالك، فقال مرة : يستتاب وتوبته الإسلام. وقال مرة : يقتل وإن أسلم. وأما الحربي فلا يقتل إذا تاب، وكذلك قال مالك في ذمي سب النبي صلى الله عليه وسلم : يستتاب وتوبته الإسلام. وقال مرة : يقتل ولا يستتاب كالمسلم. وقال مالك أيضا في الذمي إذا سحر : يعاقب، إلا أن يكون قتل بسحره، أو أحدث حدثا فيؤخذ منه بقدره. وقال غيره : يقتل، لأنه قد نقض العهد. ولا يرث الساحر ورثته، لأنه كافر إلا أن يكون سحره لا يسمى كفرا. وقال مالك في المرأة تعقد زوجها عن نفسها أو عن غيرها : تنكل ولا تقتل. الثالثةعشرة: واختلفوا هل يسأل الساحر حل السحر عن المسحور، فأجازه سعيد بن المسيب على ما ذكره البخاري، وإليه مال المزني وكرهه الحسن البصري. وقال الشعبي : لا بأس بالنشرة. قال ابن بطال : وفي كتاب وهب بن منبه أن يأخذ سبع ورقات من سدر أخضر فيدقه بين حجرين ثم يضربه بالماء ويقرأ عليه آية الكرسي، ثم يحسو منه ثلاث حسوات ويغتسل به، فإنه يذهب عنه كل ما به، إن شاء الله تعالى، وهو جيد للرجل إذا حبس عن أهله. الرابعةعشرة: أنكر معظم المعتزلة الشياطين والجن، ودل إنكارهم على قلة مبالاتهم وركاكة دياناتهم، وليس في إثباتهم مستحيل عقلي، وقد دلت نصوص الكتاب والسنة على إثباتهم، وحق على اللبيب المعتصم بحبل الله أن يثبت ما قضى العقل بجوازه، ونص الشرع على ثبوته، قال الله تعالى{ولكن الشياطين كفروا }وقال{ومن الشياطين من يغوصون له} [الأنبياء:82] إلى غير ذلك من الآي، وسورة الجن تقضي بذلك، وقال عليه السلام : (إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم). وقد أنكر هذا الخبر كثير من الناس، وأحالوا روحين في جسد، والعقل لا يحيل سلوكهم في الإنس إذا كانت أجسامهم رقيقة بسيطة على ما يقوله بعض الناس بل أكثرهم، ولو كانوا كثافا لصح ذلك أيضا منهم، كما يصح دخول الطعام والشراب في الفراغ من الجسم، وكذلك الديدان قد تكون في بني آدم وهي أحياء. الخامسةعشرة: قوله تعالى{وما أنزل على الملكين} {ما} نفي، والواو للعطف على قوله{وما كفر سليمان} وذلك أن اليهود قالوا : إن الله أنزل جبريل وميكائيل بالسحر، فنفى الله ذلك. وفي الكلام تقديم وتأخير، التقدير وما كفر سليمان، وما أنزل على الملكين، ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ببابل هاروت وماروت، فهاروت وماروت بدل من الشياطين في قوله{ولكن الشياطين كفروا}. هذا أولى ما حملت عليه الآية من التأويل، وأصح ما قيل فيها ولا يلتفت إلى سواه، فالسحر من استخراج الشياطين للطافة جوهرهم، ودقة أفهامهم، وأكثر ما يتعاطاه من الإنس النساء وخاصة في حال طمثهن، قال الله تعالى{ومن شر النفاثات في العقد} [الفلق:4]. وقال الشاعر : أعوذ بربي من النافثا ** ت.................. السادسةعشرة: إن قال قائل : كيف يكون اثنان بدلا من جمع والبدل إنما يكون على حد المبدل، فالجواب من وجوه ثلاثة : الأول : أن الاثنين قد يطلق عليهما اسم الجمع، كما قال تعالى{فإن كان له إخوة فلأمه السدس} [النساء:11] ولا يحجبها عن الثلث إلى السدس إلا اثنان من الإخوة فصاعدا، على ما يأتي بيانه في النساء. الثاني : أنهما لما كانا الرأس في التعليم نص عليهما دون اتباعهما، كما قال تعالى{عليها تسعة عشر}[المدثر:30]. الثالث : إنما خصا بالذكر من بينهم لتمردهما، كما قال تعالى{فيهما فاكهة ونخل ورمان} [الرحمن:68] وقوله{وجبريل وميكال}. وهذا كثير في القرآن وفي كلام العرب، فقد ينص بالذكر على بعض أشخاص العموم إما لشرفه وإما لفضله، كقوله تعالى{إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي} [آل عمران:68] وقوله{وجبريل وميكال} [البقرة:98]، وإما لطيبه كقوله{فاكهة ونخل ورمان} [الرحمن:68]، وإما لأكثريته، كقوله صلى الله عليه وسلم : (جعلت لي الأرض مسجدا وتربتها طهورا)، وإما لتمرده وعتوه كما في هذه الآية، والله تعالى أعلم. وقد قيل : إن {ما} عطف على السحر وهي مفعولة، فعلى هذا يكون {ما} بمعنى الذي، ويكون السحر منزلا على الملكين فتنة للناس وامتحانا، ولله أن يمتحن عباده بما شاء، كما امتحن بنهر طالوت، ولهذا يقول الملكان : إنما نحن فتنة، أي محنة من الله، نخبرك أن عمل الساحر كفر فإن أطعتنا نجوت، وإن عصيتنا هلكت. وقد روي عن علي وابن مسعود وابن عباس وابن عمر وكعب الأحبار والسدي والكلبي ما معناه : أنه لما كثر الفساد من أولاد آدم عليه السلام - وذلك في زمن إدريس عليه السلام - عيرتهم الملائكة، فقال الله تعالى : أما إنكم لو كنتم مكانهم، وركبت فيكم ما ركبت فيهم لعملتم مثل أعمالهم، فقالوا : سبحانك! ما كان ينبغي لنا ذلك، قال : فاختاروا ملكين من خياركم، فاختاروا هاروت وماروت، فأنزلهما إلى الأرض فركب فيهما الشهوة، فما مر بهما شهر حتى فتنا بامرأة اسمها بالنبطية {بيدخت} وبالفارسية {ناهيل} وبالعربية {الزهرة} اختصمت إليهما، وراوداها عن نفسها فأبت إلا أن يدخلا في دينها ويشربا الخمر ويقتلا النفس التي حرم الله، فأجاباها وشربا الخمر وألما بها، فرآهما رجل فقتلاه، وسألتهما عن الاسم الذي يصعدان به إلى السماء فعلماها فتكلمت به فعرجت فمسخت كوكبا. وقال سالم عن أبيه عن عبدالله : فحدثني كعب الحبر أنهما لم يستكملا يومهما حتى عملا بما حرم الله عليهما. وفي غير هذا الحديث : فخيرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة فاختارا عذاب الدنيا، فهما يعذبان ببابل في سرب من الأرض. قيل : بابل العراق. وقيل : بابل نهاوند، وكان ابن عمر فيما يروى عن عطاء أنه كان إذا رأى الزهرة وسهيلا سبهما وشتمهما، ويقول : إن سهيلا كان عشارا باليمن يظلم الناس، وإن الزهرة كانت صاحبة هاروت وماروت. قلنا : هذا كله ضعيف وبعيد عن ابن عمر وغيره، لا يصح منه شيء، فإنه قول تدفعه الأصول في الملائكة الذين هم أمناء الله على وحيه، وسفراؤه إلى رسله {لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون}[التحريم:6]. {بل عباد مكرمون. لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون} [الأنبياء:26 ، 27]. {يسبحون الليل والنهار لا يفترون}[الأنبياء : 20]. وأما العقل فلا ينكر وقوع المعصية من الملائكة ويوجد منهم خلاف ما كلفوه، ويخلق فيهم الشهوات، إذ في قدرة الله تعالى كل موهوم، ومن هذا خوف الأنبياء والأولياء الفضلاء العلماء، لكن وقوع هذا الجائز لا يدرك إلا بالسمع ولم يصح. ومما يدل على عدم صحته أن الله تعالى خلق النجوم وهذه الكواكب حين خلق السماء، ففي الخبر : (أن السماء لما خلقت خلق فيها سبعة دوارة زحل والمشتري وبهرام وعطارد والزهرة والشمس والقمر) وهذا معنى قول الله تعالى{وكل في فلك يسبحون} [الأنبياء : 33]. فثبت بهذا أن الزهرة وسهيلا قد كانا قبل خلق آدم، ثم إن قول الملائكة{ما كان ينبغي لنا } عورة : لا تقدر على فتنتنا، وهذا كفر نعوذ بالله منه ومن نسبته إلى الملائكة الكرام صلوات الله عليهم أجمعين، وقد نزهناهم وهم المنزهون عن كل ما ذكره ونقله المفسرون، سبحان ربك رب العزة عما يصفون. السابعةعشرة: قرأ ابن عباس وابن أبزى والضحاك والحسن{الملكين} بكسر اللام. قال ابن أبزى : هما داود وسليمان. {فما} على هذا القول أيضا نافية، وضعف هذا القول ابن العربي. وقال الحسن : هما علجان كانا ببابل ملكين، فـ {ما} على هذا القول مفعولة غير نافية.. الثامنةعشرة: قوله تعالى{ببابل} بابل لا ينصرف للتأنيث والتعريف والعجمة، وهي قطر من الأرض، قيل : العراق وما والاه. وقال ابن مسعود لأهل الكوفة : أنتم بين الحيرة وبابل. وقال قتادة : هي من نصيبين إلى رأس العين. وقال قوم : هي بالمغرب. قال ابن عطية : وهذا ضعيف. وقال قوم : هو جبل نهاوند، فالله تعالى اعلم. واختلف في تسميته ببابل، فقيل : سمي بذلك لتبلبل الألسن بها حين سقط صرح نمروذ. وقيل : سمي به لأن الله تعالى لما أراد أن يخالف بين ألسنة بني آدم بعث ريحا فحشرتهم من الآفاق إلى بابل، فبلبل الله ألسنتهم بها، ثم فرقتهم تلك الريح في البلاد. والبلبلة : التفريق، قال معناه الخليل. وقال أبو عمر بن عبدالبر : من أخصر ما قيل في البلبلة وأحسنه ما رواه داود بن أبي هند عن علباء بن أحمر عن عكرمة عن ابن عباس أن نوحا عليه السلام لما هبط إلى أسفل الجودي ابتنى قرية وسماها ثمانين، فأصبح ذات يوم وقد تبلبلت ألسنتهم على ثمانين لغة، إحداها اللسان العربي، وكان لا يفهم بعضهم عن بعض. التاسعةعشرة: روى عبدالله بن بشر المازني قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (اتقوا الدنيا فوالذي نفسي بيده إنها لأسحر من هاروت وماروت). قال علماؤنا : إنما كانت الدنيا أسحر منهما لأنها تسحرك بخدعها، وتكتمك فتنتها، فتدعوك إلى التحارص عليها والتنافس فيها، والجمع لها والمنع، حتى تفرق بينك وبين طاعة الله تعالى، وتفرق بينك وبين رؤية الحق ورعايته، فالدنيا أسحر منهما، تأخذ بقلبك عن الله، وعن القيام بحقوقه، وعن وعده ووعيده. وسحر الدنيا محبتها وتلذذك بشهواتها، وتمنيك بأمانيها الكاذبة حتى تأخذ بقلبك، ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (حبك الشيء يعمي ويصم). الموفية عشرين: قوله تعالى{هاروت وماروت} لا ينصرف {هاروت} ، لأنه أعجمي معرفة، وكذا {ماروت}، ويجمع هواريت ومواريت، مثل طواغيت، ويقال : هوارتة وهوار، وموارتة وموار، ومثله جالوت وطالوت، فاعلم. وقد تقدم هل هما ملكان أو غيرهما؟ خلاف. قال الزجاج : وروي عن علي رضى الله عنه أنه قال : أي والذي أنزل على الملكين، وأن الملكين يعلمان الناس تعليم إنذار من السحر لا تعليم دعاء إليه. قال الزجاج : وهذا القول الذي عليه أكثر أهل اللغة والنظر، ومعناه أنهما يعلمان الناس على النهي فيقولان لهم : لا تفعلوا كذا، ولا تحتالوا بكذا لتفرقوا بين المرء وزوجه. والذي أنزل عليهما هو النهي، كأنه قولا للناس : لا تعملوا كذا، فـ {يعلمان} بمعنى يعلمان، كما قال{ولقد كرمنا بني آدم} أي أكرمنا. الحادية والعشرون: قوله تعالى{وما يعلمان من أحد} {من} زائدة للتوكيد، والتقدير : وما يعلمان أحدا. {حتى يقولا} نصب بحتى فلذلك حذفت منه النون ؛ ولغة هذيل وثقيف عتى بالعين المعجمة . والضمير في {يعلمان} لهاروت وماروت. وفي {يعلمان} قولان، أحدهما : أنه على بابه من التعليم. الثاني : أنه من الإعلام لا من التعليم، فـ {يعلمان} بمعنى يُعْلِمان، وقد جاء في كلام العرب تعلم بمعنى أعلم، ذكره ابن الأعرابي وابن الأنباري. قال كعب بن مالك. تعلم رسول الله أنك مدركي ** وأن وعيدا منك كالأخذ باليد وقال القطامي : تعلم أن بعد الغي رشدا ** وأن لذلك الغي انقشاعا وقال زهير : تعلمن ها لعمر الله ذا قسما ** فاقدر بذرعك وانظر أين تنسلك وقال آخر : تعلم أنه لا طير إلا ** على متطير وهو الثبور {إنما نحن فتنة} لما أنبأ بفتنتهما كانت الدنيا أسحر منهما حين كتمت فتنتها. {فلا تكفر} قالت فرقة بتعليم السحر، وقالت فرقة باستعماله. وحكى المهدوي أنه استهزاء، لأنهما إنما يقولانه لمن قد تحققا ضلال. الثانية والعشرون: قوله تعالى{فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه} قال سيبويه : التقدير فهم يتعلمون، قال ومثله {كن فيكون}. وقيل : هو معطوف على موضع {ما يعلمان}، لأن قوله{وما يعلمان} وإن دخلت عليه ما النافية فمضمنه الإيجاب في التعليم. وقال الفراء : هي مردودة على قوله{يعلمون الناس السحر} فيتعلمون، ويكون {فيتعلمون} متصلة بقول {إنما نحن فتنة} فيأتون فيتعلمون. قال السدي : كانا يقولان لمن جاءهما : إنما نحن فتنة فلا تكفر، فإن أبى أن يرجع قالا له : ائت هذا الرماد فبل فيه، فإذا بال فيه خرج منه نور يسطع إلى السماء، وهو الإيمان، ثم يخرج منه دخان أسود فيدخل في أذنيه وهو الكفر، فإذا أخبرهما بما رآه من ذلك علماه ما يفرقون به بين المرء وزوجه. ذهبت طائفة من العلماء إلى أن الساحر ليس يقدر على أكثر مما أخبر الله عنه من التفرقة، لأن الله ذكر ذلك في معرض الذم للسحر والغاية في تعليمه، فلو كان يقدر على أكثر من ذلك لذكره. وقالت طائفة : ذلك خرج على الأغلب، ولا ينكر أن السحر له تأثير في القلوب، بالحب والبغض وبإلقاء الشرور حتى يفرق الساحر بين المرء وزوجه، ويحول بين المرء وقلبه، وذلك بإدخال الآلام وعظيم الأسقام، وكل ذلك مدرك بالمشاهدة وإنكاره معاندة، وقد تقدم هذا، والحمد الله. الثالثة والعشرون:قوله تعالى{وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله} {ما هم}، إشارة إلى السحرة. وقيل إلى اليهود، وقيل إلى الشياطين. {بضارين به} أي بالسحر. {من أحد} أي أحدا، ومن زائدة. {إلا بإذن الله} بإرادته وقضائه لا بأمره، لأنه تعالى لا يأمر بالفحشاء ويقضي على الخلق بها. وقال الزجاج{إلا بإذن الله} إلا بعلم الله. قال النحاس : وقول أبي إسحاق {إلا بإذن الله} إلا بعلم الله غلط، لأنه إنما يقال في العلم أذن، وقد أذنت أذنا. ولكن لما لم يحل فيما بينهم وبينه وظلوا يفعلونه كان كأنه أباحه مجازا. الرابعة والعشرون:قوله تعالى{ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم} يريد في الآخرة وإن أخذوا بها نفعا قليلا في الدنيا. وقيل : يضرهم في الدنيا، لأن ضرر السحر والتفريق يعود على الساحر في الدنيا إذا عثر عليه، لأنه يؤدب ويزجر، ويلحقه شؤم السحر. وباقي الآي بين لتقدم معانيها. {ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق }اللام في {ولقد علموا} لام توكيد. {لمن اشتراه} لام يمين، وهي للتوكيد أيضا. وموضع {من} رفع بالابتداء، لأنه لا يعمل ما قبل اللام فيعمل بعدها. و{من} بمعنى الذي. وقال الفراء. هي للمجازاة. وقال الزجاج : ليس هذا بموضع شرط، و{من} بمعنى الذي، كما تقول : لقد علمت، لمن جاءك ما له عقل. {من خلاق} {من} زائدة، والتقدير ما له في الآخرة خلاق، ولا تزاد في الواجب، هذا قول البصريين. وقال الكوفيون : تكون زائدة في الواجب، واستدلوا بقوله تعالى{يغفر لكم من ذنوبكم} [نوح:4] والخلاق : النصيب، قاله مجاهد. قال الزجاج : وكذلك هو عند أهل اللغة، إلا أنه لا يكاد يستعمل إلا للنصيب من الخير. وسئل عن قوله تعالى {ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق} فأخبر أنهم قد علموا. ثم قال: {ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون} فأخبر أنهم لا يعلمون، فالجواب وهو قول قطرب والأخفش : أن يكون الذين يعلمون الشياطين، والذين شروا أنفسهم - أي باعوها - هم الإنس الذين لا يعلمون. قال الزجاج وقال علي بن سليمان : الأجود عندي أن يكون {ولقد علموا} للملكين، لأنهما أولى بأن يعلموا. وقال{علموا} كما يقال : الزيدان قاموا. وقال الزجاج : الذين علموا علماء اليهود، ولكن قيل{لو كانوا يعلمون} أي فدخلوا في محل من يقال له : لست بعالم، لأنهم تركوا العمل بعلمهم واسترشدوا من الذين عملوا بالسحر.

التفسير الميسّر:

واتبع اليهود ما تُحَدِّث الشياطينُ به السحرةَ على عهد ملك سليمان بن داود. وما كفر سليمان وما تَعَلَّم السِّحر، ولكنَّ الشياطين هم الذين كفروا بالله حين علَّموا الناس السحر؛ إفسادًا لدينهم. وكذلك اتبع اليهود السِّحر الذي أُنزل على الملَكَين هاروت وماروت، بأرض "بابل" في "العراق"؛ امتحانًا وابتلاء من الله لعباده، وما يعلِّم الملكان من أحد حتى ينصحاه ويحذِّراه من تعلم السحر، ويقولا له: لا تكفر بتعلم السِّحر وطاعة الشياطين. فيتعلم الناس من الملكين ما يُحْدِثون به الكراهية بين الزوجين حتى يتفرقا. ولا يستطيع السحرة أن يضروا به أحدًا إلا بإذن الله وقضائه. وما يتعلم السحرة إلا شرًا يضرهم ولا ينفعهم، وقد نقلته الشياطين إلى اليهود، فشاع فيهم حتى فضَّلوه على كتاب الله. ولقد علم اليهود أن من اختار السِّحر وترك الحق ما له في الآخرة من نصيب في الخير. ولبئس ما باعوا به أنفسهم من السحر والكفر عوضًا عن الإيمان ومتابعة الرسول، لو كان لهم عِلْمٌ يثمر العمل بما وُعِظوا به.

تفسير السعدي

ولما كان من العوائد القدرية والحكمة الإلهية أن من ترك ما ينفعه، وأمكنه الانتفاع به فلم ينتفع, ابتلي بالاشتغال بما يضره, فمن ترك عبادة الرحمن, ابتلي بعبادة الأوثان, ومن ترك محبة الله وخوفه ورجاءه, ابتلي بمحبة غير الله وخوفه ورجائه, ومن لم ينفق ماله في طاعة الله أنفقه في طاعة الشيطان, ومن ترك الذل لربه, ابتلي بالذل للعبيد، ومن ترك الحق ابتلي بالباطل. كذلك هؤلاء اليهود لما نبذوا كتاب الله اتبعوا ما تتلوا الشياطين وتختلق من السحر على ملك سليمان حيث أخرجت الشياطين للناس السحر، وزعموا أن سليمان عليه السلام كان يستعمله وبه حصل له الملك العظيم. وهم كذبة في ذلك، فلم يستعمله سليمان، بل نزهه الصادق في قيله: { وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ } أي: بتعلم السحر, فلم يتعلمه، { وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا } بذلك. { يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ } من إضلالهم وحرصهم على إغواء بني آدم، وكذلك اتبع اليهود السحر الذي أنزل على الملكين الكائنين بأرض بابل من أرض العراق، أنزل عليهما السحر امتحانا وابتلاء من الله لعباده فيعلمانهم السحر. { وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى } ينصحاه, و { يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ } أي: لا تتعلم السحر فإنه كفر، فينهيانه عن السحر، ويخبرانه عن مرتبته, فتعليم الشياطين للسحر على وجه التدليس والإضلال، ونسبته وترويجه إلى من برأه الله منه وهو سليمان عليه السلام، وتعليم الملكين امتحانا مع نصحهما لئلا يكون لهم حجة. فهؤلاء اليهود يتبعون السحر الذي تعلمه الشياطين, والسحر الذي يعلمه الملكان, فتركوا علم الأنبياء والمرسلين وأقبلوا على علم الشياطين, وكل يصبو إلى ما يناسبه. ثم ذكر مفاسد السحر فقال: { فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ } مع أن محبة الزوجين لا تقاس بمحبة غيرهما, لأن الله قال في حقهما: { وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً } وفي هذا دليل على أن السحر له حقيقة، وأنه يضر بإذن الله، أي: بإرادة الله، والإذن نوعان: إذن قدري، وهو المتعلق بمشيئة الله, كما في هذه الآية، وإذن شرعي كما في قوله تعالى في الآية السابقة: { فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ } وفي هذه الآية وما أشبهها أن الأسباب مهما بلغت في قوة التأثير، فإنها تابعة للقضاء والقدر ليست مستقلة في التأثير, ولم يخالف في هذا الأصل من فرق الأمة غير القدرية في أفعال العباد، زعموا أنها مستقلة غير تابعة للمشيئة, فأخرجوها عن قدرة الله، فخالفوا كتاب الله وسنة رسوله وإجماع الصحابة والتابعين. ثم ذكر أن علم السحر مضرة محضة, ليس فيه منفعة لا دينية ولا دنيوية كما يوجد بعض المنافع الدنيوية في بعض المعاصي، كما قال تعالى في الخمر والميسر: { قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا } فهذا السحر مضرة محضة, فليس له داع أصلا, فالمنهيات كلها إما مضرة محضة, أو شرها أكبر من خيرها. كما أن المأمورات إما مصلحة محضة أو خيرها أكثر من شرها. { وَلَقَدْ عَلِمُوا } أي: اليهود { لَمَنِ اشْتَرَاهُ } أي: رغب في السحر رغبة المشتري في السلعة. { مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ } أي: نصيب, بل هو موجب للعقوبة, فلم يكن فعلهم إياه جهلا, ولكنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة. { وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ } علما يثمر العمل ما فعلوه.


تفسير البغوي

قوله تعالى : ( واتبعوا ) يعني اليهود ( ما تتلو الشياطين ) أي : ما تلت ، والعرب تضع المستقبل موضع الماضي ، والماضي موضع المستقبل ، وقيل : ما كنت تتلو أي تقرأ ، قال ابن عباس رضي الله عنه : تتبع وتعمل به ، وقال عطاء تحدث وتكلم به ( على ملك سليمان ) أي : في ملكه وعهده .

وقصة الآية أن الشياطين كتبوا السحر والنيرنجيات على لسان آصف بن برخيا هذا ما علم آصف بن برخيا سليمان الملك ، ثم دفنوها تحت مصلاه حتى نزع الله الملك عنه ولم يشعر بذلك سليمان فلما مات استخرجوها وقالوا للناس : إنما ملكهم سليمان بها فتعلموه فأما علماء بني إسرائيل وصلحاؤهم فقالوا : معاذ الله أن يكون هذا من علم الله وأما السفلة ، فقالوا : هذا علم سليمان ، وأقبلوا على تعلمه ، ورفضوا كتب أنبيائهم ، وفشت الملامة على سليمان فلم يزل هذا حالهم وفعلهم حتى بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم وأنزل عليه براءة سليمان ، هذا قول الكلبي .

وقال السدي : كانت الشياطين تصعد إلى السماء ، فيسمعون كلام الملائكة فيما يكون في الأرض من موت وغيره ، فيأتون الكهنة ويخلطون بما يسمعون في كل كلمة سبعين كذبة ويخبرونهم بها [ فكتب ذلك ] وفشا في بني إسرائيل أن الجن يعلمون الغيب ، فبعث سليمان في الناس وجمع تلك الكتب وجعلها في صندوق ودفنه تحت كرسيه وقال : لا أسمع أحدا يقول إن الشيطان يعلم الغيب إلا ضربت عنقه ، فلما مات سليمان وذهب العلماء الذين كانوا يعرفون أمر سليمان ودفنة الكتب ، وخلف من بعدهم خلف ، تمثل الشيطان على صورة إنسان فأتى نفرا من بني إسرائيل فقال : هل أدلكم على كنز لا تأكلونه أبدا قالوا : نعم فذهب معهم فأراهم المكان الذي تحت كرسيه ، فحفروا فأقام ناحية فقالوا له : ادن وقال : لا أحضر ، فإن لم تجدوه فاقتلوني ، وذلك أنه لم يكن أحد من الشياطين يدنو من الكرسي إلا احترق ، فحفروا وأخرجوا تلك الكتب ، فقال الشيطان لعنه الله : إن سليمان كان يضبط الجن والإنس والشياطين والطير بهذا ، ثم طار الشيطان عنهم ، وفشا في الناس أن سليمان كان ساحرا ، وأخذوا تلك الكتب ( واستعملوها ) فلذلك أكثر ما يوجد السحر في اليهود ، فلما جاء محمد صلى الله عليه وسلم برأ الله تعالى سليمان من ذلك ، وأنزل في عذر سليمان : ( وما كفر سليمان ) بالسحر ، وقيل : لم يكن سليمان كافرا بالسحر ويعمل به ( ولكن الشياطين كفروا ) قرأ ابن عباس رضي الله عنه والكسائي وحمزة ، " لكن " خفيفة النون " والشياطين " رفع ، وقرأ الآخرون ولكن مشددة النون " والشياطين " نصب وكذلك " ولكن الله قتلهم " ( 17 - الأنفال ) ومعنى لكن : نفي الخبر الماضي وإثبات المستقبل .

( يعلمون الناس ) قيل : معنى السحر العلم والحذق بالشيء قال الله تعالى " وقالوا يا أيها الساحر ادع لنا ربك ( 49 - الزخرف ) أي العالم ، والصحيح : أن السحر عبارة عن التمويه والتخييل ، والسحر وجوده حقيقة عند أهل السنة ، وعليه أكثر الأمم ، ولكن العمل به كفر ، حكي عن الشافعي رضي الله عنه أنه قال : السحر يخيل ويمرض وقد يقتل ، حتى أوجب القصاص على من قتل به فهو من عمل الشيطان ، يتلقاه الساحر منه بتعليمه إياه ، فإذا تلقاه منه استعمله في غيره ، وقيل : إنه يؤثر في قلب الأعيان فيجعل الآدمي على صورة الحمار ويجعل الحمار على صورة الكلب ، والأصح أن ذلك تخييل قال الله تعالى : " يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى ( 66 - طه ) لكنه يؤثر في الأبدان بالأمراض والموت والجنون ، وللكلام تأثير في الطباع والنفوس وقد يسمع الإنسان ما يكره فيحمى ويغضب وربما يحم منه ، وقد مات قوم بكلام سمعوه فهو بمنزلة العوارض والعلل التي تؤثر في الأبدان .

قوله عز وجل ( وما أنزل على الملكين ببابل ) أي ويعلمون الذي أنزل على الملكين [ أي إلهاما وعلما ، فالإنزال بمعنى الإلهام والتعليم ، وقيل : واتبعوا ما أنزل على الملكين ] وقرأ ابن عباس والحسن الملكين بكسر اللام ، وقال ابن عباس : هما رجلان ساحران كانا ببابل ، وقال الحسن : علجان ؛ لأن الملائكة لا يعلمون السحر .

وبابل هي بابل العراق سميت بابل لتبلبل الألسنة بها عند سقوط صرح نمرود أي تفرقها ، قال ابن مسعود : بابل أرض الكوفة ، وقيل جبل دماوند ، والقراءة المعروفة على الملكين بالفتح . فإن قيل كيف يجوز تعليم السحر من الملائكة ؟ قيل : له تأويلان : أحدهما ، أنهما لا يتعمدان التعليم لكن يصفان السحر ويذكران بطلانه ويأمران باجتنابه ، والتعليم بمعنى الإعلام ، فالشقي يترك نصيحتهما ويتعلم السحر من صنعتهما .

والتأويل الثاني : وهو الأصح : أن الله تعالى امتحن الناس بالملكين في ذلك الوقت فمن شقي يتعلم السحر منهما ويأخذه عنهما ويعمل به فيكفر به ، ومن سعد يتركه فيبقى على الإيمان ، ويزداد المعلمان بالتعليم عذابا ، ففيه ابتلاء للمعلم [ والمتعلم ] ولله أن يمتحن عباده بما شاء ، فله الأمر والحكم .

قوله عز وجل ( هاروت وماروت ) اسمان سريانيان وهما في محل الخفض على تفسير الملكين إلا أنهما نصبا لعجمتهما ومعرفتهما ، وكانت قصتهما على ما ذكر ابن عباس والمفسرون أن الملائكة رأوا ما يصعد إلى السماء من أعمال بني آدم الخبيثة في زمن إدريس عليه السلام فعيروهم وقالوا : هؤلاء الذين جعلتهم في الأرض خليفة واخترتهم فهم يعصونك فقال الله تعالى : لو أنزلتكم إلى الأرض وركبت فيكم ما ركبت فيهم لركبتم مثل ما ركبوا فقالوا : سبحانك ما كان ينبغي لنا أن نعصيك قال لهم الله تعالى : فاختاروا ملكين من خياركم أهبطهما إلى الأرض ، فاختاروا هاروت وماروت وكانا من أصلح الملائكة وأعبدهم ، وقال الكلبي : قال الله تعالى لهم : اختاروا ثلاثة فاختاروا عزا وهو هاروت وعزايا وهو ماروت - غير اسمهما لما قارفا الذنب - وعزائيل ، فركب الله فيهم الشهوة وأهبطهم إلى الأرض وأمرهم أن يحكموا بين الناس بالحق ونهاهم عن الشرك والقتل بغير الحق والزنا وشرب الخمر ، فأما عزائيل فإنه لما وقعت الشهوة في قلبه استقبل ربه وسأله أن يرفعه إلى السماء ، فأقاله فسجد أربعين سنة لم يرفع رأسه ، ولم يزل بعد مطأطئا رأسه حياء من الله تعالى .

وأما الآخران : فإنهما ثبتا على ذلك وكانا يقضيان بين الناس يومهما ، فإذا أمسيا ذكرا اسم الله الأعظم وصعدا إلى السماء ، قال قتادة : فما مر عليهما شهر حتى افتتنا . قالوا جميعا إنه اختصمت إليهما ذات يوم الزهرة وكانت من أجمل النساء ، قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : وكانت من أهل فارس وكانت ملكة في بلدها فلما رأياها أخذت بقلوبهما فراوداها عن نفسها فأبت وانصرفت ثم عادت في اليوم الثاني ففعلا مثل ذلك فأبت وقالت : لا إلا أن تعبدا ما أعبد وتصليا لهذا الصنم وتقتلا النفس وتشربا الخمر فقالا لا سبيل إلى هذه الأشياء فإن الله تعالى قد نهانا عنها ، فانصرفت ثم عادت في اليوم الثالث ومعها قدح من خمر ، وفي أنفسهما من الميل إليها ما فيها فراوداها عن نفسها فعرضت عليهما ما قالت بالأمس فقالا : الصلاة لغير الله عظيم ، وقتل النفس عظيم ، وأهون الثلاثة شرب الخمر ، فشربا الخمر فانتشيا ووقعا بالمرأة ، فزنيا فلما فرغا رآهما إنسان فقتلاه ، قال الربيع بن أنس وسجدا للصنم فمسخ الله الزهرة كوكبا - وقال بعضهم : جاءتهما امرأة من أحسن الناس تخاصم زوجها فقال أحدهما للآخر : هل سقط في نفسك مثل الذي سقط في نفسي ( من حب هذه ) ؟ قال : نعم فقال : وهل لك أن تقضي لها على زوجها بما تقول ؟ فقال له صاحبه : أما تعلم ما عند الله من العقوبة والعذاب ؟ فقال له صاحبه : أما تعلم ما عند الله من العفو والرحمة فسألاها نفسها ، فقالت : لا إلا أن تقتلاه فقال أحدهما : أما تعلم ما عند الله من العقوبة والعذاب ؟ فقال صاحبه : أما تعلم ما عند الله من العفو والرحمة فقتلاه ثم سألاها نفسها ، فقالت : لا إن لي صنما أعبده ، إن أنتما صليتما معي له : فعلت ، فقال : أحدهما لصاحبه مثل القول الأول فقال صاحبه مثله ، فصليا معها له فمسخت شهابا .

قال ابن أبي طالب رضي الله عنه والكلبي والسدي : إنها قالت لهما حين سألاها نفسها : لن تدركاني حتى تخبراني بالذي تصعدان به إلى السماء فقالا باسم الله الأكبر ، قالت : فما أنتم تدركاني حتى تعلمانيه ، فقال أحدهما لصاحبه : علمها فقال : إني أخاف الله رب العالمين ، قال الآخر : فأين رحمة الله تعالى ؟ فعلماها ذلك فتكلمت ، فصعدت إلى السماء فمسخها الله كوكبا ، فذهب بعضهم إلى أنها الزهرة بعينها وأنكر الآخرون هذا وقالوا : إن الزهرة من الكواكب السبعة السيارة التي أقسم الله بها فقال " فلا أقسم بالخنس الجواري الكنس " ( 15 - التكوير ) والتي فتنت هاروت وماروت امرأة كانت تسمى الزهرة لجمالها فلما بغت مسخها الله تعالى شهابا ، قالوا : فلما أمسى هاروت وماروت بعدما قارفا الذنب هما بالصعود إلى السماء فلم تطاوعهما أجنحتهما ، فعلما ما حل بهما ( من الغضب ) فقصدا إدريس النبي عليه السلام ، فأخبراه بأمرهما وسألاه أن يشفع لهما إلى الله عز وجل وقالا له : إنا رأيناك يصعد لك من العبادات مثل ما يصعد لجميع أهل الأرض فاستشفع لنا إلى ربك ففعل ذلك إدريس عليه السلام فخيرهما الله بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة ، فاختارا عذاب الدنيا إذ علما أنه ينقطع فهما ببابل يعذبان .

واختلفوا في كيفية عذابهما فقال عبد الله بن مسعود : هما معلقان بشعورهما إلى قيام الساعة ، وقال عطاء بن أبي رباح : رءوسهما مصوبة تحت أجنحتهما ، وقال قتادة ( كبلا ) من أقدامهما إلى أصول أفخاذهما ، وقال مجاهد : جعلا في جب ملئت نارا ، وقال عمر بن سعد : منكوسان يضربان بسياط من الحديد .

وروي أن رجلا قصد هاروت وماروت لتعلم السحر فوجدهما معلقين بأرجلهما ، مزرقة أعينهما ، مسودة جلودهما ، ليس بين ألسنتهما وبين الماء إلا أربع أصابع وهما يعذبان بالعطش ، فلما رأى ذلك هاله مكانهما فقال : لا إله إلا الله ، فلما سمعا كلامه قالا له : من أنت ؟ قال : رجل من الناس ، قالا من أي أمة أنت ؟ قال : من أمة محمد صلى الله عليه وسلم قالا أوقد بعث محمد صلى الله عليه وسلم ؟ قال : نعم ، قالا : الحمد لله ، وأظهر الاستبشار فقال الرجل : ومم استبشاركما ؟ قالا إنه نبي الساعة وقد دنا انقضاء عذابنا .

قوله تعالى : ( وما يعلمان من أحد ) أي أحدا ، و " من " صلة ( حتى ) ينصحاه أولا و ( يقولا إنما نحن فتنة ) ابتلاء ومحنة ( فلا تكفر ) أي لا تتعلم السحر فتعمل به فتكفر ، وأصل الفتنة : الاختبار والامتحان ، من قولهم : فتنت الذهب والفضة إذا أذبتهما بالنار ، ليتميز الجيد من الرديء وإنما وحد الفتنة وهما اثنان ؛ لأن الفتنة مصدر ، والمصادر لا تثنى ولا تجمع ، وقيل : إنهما يقولان " إنما نحن فتنة فلا تكفر " سبع مرات .

قال عطاء والسدي : فإن أبى إلا التعلم قالا له : ائت هذا الرماد ( وأقبل عليه ) فيخرج منه نور ساطع في السماء فذلك نور المعرفة ، وينزل شيء أسود شبه الدخان حتى يدخل مسامعه وذلك غضب الله تعالى ، قال مجاهد : إن هاروت وماروت لا يصل إليهما أحد ويختلف فيما بينهما شيطان في كل مسألة اختلافة واحدة ، ( فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه ) أن ( يؤخذ ) كل واحد عن صاحبه ، ويبغض كل واحد إلى صاحبه قال الله تعالى : ( وما هم ) قيل أي السحرة وقيل : الشياطين ( بضارين به ) أي بالسحر ( من أحد ) أي أحدا ، ( إلا بإذن الله ) أي : بعلمه وتكوينه ، فالساحر يسحر والله يكون .

قال سفيان الثوري : معناه إلا بقضائه وقدرته ومشيئته ، ( ويتعلمون ما يضرهم ) يعني : أن السحر يضرهم ( ولا ينفعهم ولقد علموا ) يعني اليهود ( لمن اشتراه ) أي اختار السحر ( ما له في الآخرة من خلاق ) أي في الجنة من نصيب ( ولبئس ما شروا به ) باعوا به ( أنفسهم ) حظ أنفسهم ، حيث اختارواالسحر والكفر على الدين والحق ( لو كانوا يعلمون ) فإن قيل : أليس قد قال ولقد علموا لمن اشتراه فما معنى قوله تعالى " لو كانوا يعلمون " بعدما أخبر أنهم علموا قيل : أراد بقوله " ولقد علموا " يعني الشياطين . وقوله " لو كانوا يعلمون " يعني اليهود وقيل : كلاهما في اليهود يعني : لكنهم لما لم يعلموا بما علموا فكأنهم لم يعلموا


الإعراب:

(وَاتَّبَعُوا) الواو عاطفة، اتبعوا فعل ماض مبني على الضم والواو فاعل.

(ما) اسم موصول مفعول به والجملة معطوفة.

(تَتْلُوا) فعل مضارع مرفوع بالضمة المقدرة على الواو للثقل.

(الشَّياطِينُ) فاعل.

(عَلى مُلْكِ) جار ومجرور متعلقان بتتلو.

(سُلَيْمانَ) مضاف إليه مجرور بالفتحة نيابة عن الكسرة ممنوع من الصرف للعلمية وزيادة الألف والنون والجملة صلة الموصول والعائد محذوف تقديره ما تتلوه.

(وَما) الواو حالية، ما نافية.

(كَفَرَ سُلَيْمانُ) فعل ماض وفاعل والجملة حالية.

(وَلكِنَّ) حرف مشبه بالفعل يفيد الاستدراك.

(الشَّياطِينُ) اسمها.

(كَفَرُوا) فعل ماض والواو فاعل والجملة خبر لكن.

(يُعَلِّمُونَ) فعل مضارع مرفوع بثبوت النون والواو فاعل.

(النَّاسَ) مفعول به أول.

(السِّحْرَ) مفعول به ثان.

(وَما) الواو عاطفة ما موصولة معطوفة على السحر وجملة: (يعلمون) حالية وقيل خبر ثان.

(أُنْزِلَ) فعل ماض مبني للمجهول ونائب الفاعل هو.

(عَلَى الْمَلَكَيْنِ) متعلقان بالفعل أنزل.

(بِبابِلَ) بابل اسم مجرور بالفتحة بدل الكسرة ممنوع من الصرف للعلمية والعجمة والجار والمجرور متعلقان بالفعل أنزل أو بحال من الملكين.

(هارُوتَ وَمارُوتَ) بدل من الملكين مجرور بالفتحة نيابة عن الكسرة ممنوع من الصرف للعلمية والعجمة. وقيل عطف بيان لأنه أوضح منه.

(وَما) الواو استئنافية ما نافية.

(يُعَلِّمانِ) فعل مضارع مرفوع بثبوت النون لأنه من الأفعال الخمسة والألف فاعل.

(مِنْ أَحَدٍ) مفعول به ومن حرف جر زائد (حَتَّى) حرف غاية وجر.

(يَقُولا) فعل مضارع منصوب بأن المضمرة بعد حتى وعلامة نصبه حذف النون لأنه من الأفعال الخمسة والألف فاعل وأن المضمرة مع الفعل في تأويل مصدر في محل جر بحرف الجر. وهما متعلقان بالفعل يعلمان.

(إِنَّما) كافة ومكفوفة.

(نَحْنُ فِتْنَةٌ) مبتدأ وخبر. والجملة مقول القول.

(فَلا) الفاء الفصيحة لأنها أفصحت عن شرط والتقدير أما وقد علمناك فلا تكفر. ولا ناهية جازمة.

(تَكْفُرْ) فعل مضارع مجزوم والفاعل أنت والجملة لا محل لها جواب شرط مقدر.

(فَيَتَعَلَّمُونَ) الفاء استئنافية يتعلمون فعل مضارع مرفوع بثبوت النون والواو فاعل والجملة خبر لمبتدأ محذوف تقديره هم يتعلمون.

(مِنْهُما) متعلقان بالفعل قبلهما.

(ما) اسم موصول مفعول به.

(يُفَرِّقُونَ) فعل مضارع وفاعل.

(بِهِ) متعلقان بيفرقون.

(بَيْنَ) مفعول فيه ظرف مكان متعلق بالفعل.

(الْمَرْءِ) مضاف إليه.

(وَزَوْجِهِ) معطوف.

(وَما) الواو حالية، ما الحجازية تعمل عمل ليس.

(هُمْ) ضمير منفصل اسمها.

(بِضارِّينَ) الباء حرف جر زائد، ضارين اسم مجرور لفظا بالياء لأنه جمع مذكر سالم، منصوب محلا لأنه خبر ما. والجملة حالية.

(بِهِ) متعلقان بضارين.

(مِنْ أَحَدٍ) من حرف جر زائد، أحد اسم مجرور لفظا منصوب محلا على أنه مفعول به لاسم الفاعل ضارين.

(إِلَّا) أداة حصر.

(بِإِذْنِ) جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال من الضمير المستتر بضارين اسم الفاعل أو بمحذوف حال من المفعول به أحد.

(اللَّهِ) لفظ الجلالة مضاف إليه.

(وَيَتَعَلَّمُونَ) الجملة معطوفة.

(ما) اسم موصول مفعول به.

(يَضُرُّهُمْ) فعل مضارع ومفعول به والفاعل هو والجملة صلة الموصول وجملة (وَلا يَنْفَعُهُمْ) معطوفة عليها.

(وَلَقَدْ) الواو عاطفة اللام واقعة في جواب القسم قد حرف تحقيق.

(عَلِمُوا) فعل ماض مبني على الضم والواو فاعل والجملة جواب القسم لا محل لها.

(لَمَنِ) اللام لام الابتداء من اسم موصول مبني على السكون في محل رفع مبتدأ.

(اشْتَراهُ) فعل ماض مبني على الفتحة المقدرة والهاء مفعول به والفاعل هو والجملة لا محل لها صلة الموصول.

(ما) نافية وقيل حجازية.

(لَهُ) متعلقان بمحذوف خبر مقدم.

(فِي الْآخِرَةِ) متعلقان بمحذوف حال من خلاق لأنهما تقدما عليه.

(مِنْ) حرف جر زائد.

(خَلاقٍ) اسم مجرور لفظا مرفوع محلا على أنه مبتدأ مؤخر وجملة: (ما له) في محل رفع خبر المبتدأ وجملة (لَمَنِ اشْتَراهُ) سدت مسد مفعولي علموا المعلقة عن العمل بسبب لام الابتداء.

(وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ) الواو عاطفة اللام للقسم. بئس فعل ماض جامد لإنشاء الذم وسبق إعرابه ما يشبهها الآية 90.

(لَوْ) حرف شرط غير جازم.

(كانُوا) فعل ماض ناقص مبني على الضم والواو اسمها.

(يُعَلِّمُونَ) فعل مضارع مرفوع بثبوت النون، والواو فاعل. والجملة في محل نصب خبر كانوا وجواب لو محذوف وتقديره لو كانوا يعلمون ذلك لما عملوا السحر.

---

Traslation and Transliteration:

WaittabaAAoo ma tatloo alshshayateenu AAala mulki sulaymana wama kafara sulaymanu walakinna alshshayateena kafaroo yuAAallimoona alnnasa alssihra wama onzila AAala almalakayni bibabila haroota wamaroota wama yuAAallimani min ahadin hatta yaqoola innama nahnu fitnatun fala takfur fayataAAallamoona minhuma ma yufarriqoona bihi bayna almari wazawjihi wama hum bidarreena bihi min ahadin illa biithni Allahi wayataAAallamoona ma yadurruhum wala yanfaAAuhum walaqad AAalimoo lamani ishtarahu ma lahu fee alakhirati min khalaqin walabisa ma sharaw bihi anfusahum law kanoo yaAAlamoona

بيانات السورة

اسم السورة سورة البقرة (Al-Baqara - The Cow)
ترتيبها 2
عدد آياتها 286
عدد كلماتها 6144
عدد حروفها 25613
معنى اسمها (البَقَرَةُ) مِنْ أَصْنَافِ بَهِيمَةِ الأَنعَامِ، وهِيَ: (الإِبِلُ والبَقَرُ وَالغَنَمُ)
سبب تسميتها انفِرَادُ السُّورَةِ بذِكْرِ قِصَّةِ بَقَرَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَدِلَالَةُ هَذَا الاسْمِ عَلَى المَقصِدِ العَامِّ لِلسُّورَةِ وَمَوضُوعَاتِهَا
أسماؤها الأخرى اشتُهِرَتْ بِسُورَةِ (البَقَرَةِ)، وتُلقَّبُ بِـ(سَنَامِ القُرْآنِ)، و(فُسْطَاطِ القُرْآنِ)، وَ(الزَّهْرَاءِ)
مقاصدها الاسْتِجَابَةُ لِأَمْرِ اللهِ تَعَالَى وَالامْتِثَالُ الكَامِلُ لَهُ
أسباب نزولها سُورَةٌ مَدَنيَّةٌ، لَمْ يُنْقَل سَبَبٌ لِنـُزُوْلِهَا جُملَةً وَاحِدَةً، ولكِنْ صَحَّ لِبَعضِ آياتِها سَبَبُ نُزُولٍ
فضلها بَرَكَةٌ عَجِيبَةٌ لِقَارِئِهَا، قَالَ ﷺ: «اقْرَؤُوا البَقَرَةَ؛ فَإِنَّ أَخذَها بَرَكَةٌ، وَتَرْكَهَا حَسْرَةٌ». (رَوَاهُ مُسْلِم). عِلَاجٌ مِنَ السِّحْرِ وَالْعَينِ وَالحَسَدِ، قَالَ ﷺ: «وَلَا يَسْتَطِيعُهَا البَطَلَةُ؛ أَيِ: السَّحَرَةُ». (رَوَاهُ مُسْلِم). طَارِدَةٌ لِلشَّيَاطِينِ، قَالَ ﷺ: «وَإِنَّ البَيْتَ الَّذِي تُقرَأُ فِيهِ سُورَةُ البَقَرَةِ لَا يدخُلُهُ شَيطَانٌ». (رَوَاهُ مُسْلِم). هِيَ مِنَ السَّبعِ، قَالَ ﷺ: «مَن أخَذَ السَّبعَ الْأُوَلَ منَ القُرآنِ فَهُوَ حَبْرٌ» أَيْ: عَالِم. (حَدِيثٌ حَسَنٌ، رَوَاهُ أَحمَد)
مناسبتها مُنَاسَبَةُ أَوَّلِ سُورَةِ (البَقَرَةِ) بِآخِرِهَا: الحَدِيثُ عَنْ صِفَاتِ المُتَّقِينَ. فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ فِي فَاتِحَتِهَا: ﴿ٱلَّذِينَ يُؤۡمِنُونَ بِٱلۡغَيۡبِ﴾ ... الآيَاتِ، وقَالَ فِي خَاتِمَتِهَا: ﴿ءَامَنَ ٱلرَّسُولُ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيۡهِ مِن رَّبِّهِۦ وَٱلۡمُؤۡمِنُونَۚ﴾... الآيَاتِ.. مُنَاسَبَةُ سُورَةِ (البَقَرَةِ) لِمَا قَبلَهَا مِنْ سُورَةِ (الفَاتِحَةِ): لَمَّا قَالَ العَبْدُ فِي خِتَامِ (الفَاتِحَةِ): ﴿ٱهۡدِنَا ٱلصِّرَٰطَ ٱلۡمُسۡتَقِيمَ ٦﴾. قِيلَ لَهُ فِي فَاتِحَةِ (البَقَرَةِ): ﴿ذَٰلِكَ ٱلۡكِتَٰبُ لَا رَيۡبَۛ فِيهِۛ هُدٗى لِّلۡمُتَّقِينَ٢﴾ هُوَ مَطْلُوبُكَ وَفِيهِ حَاجَتُكَ.
اختر الًجزء:
1
2
3
4
5
6
7
8
9
10
11
12
13
14
15
16
17
18
19
20
21
22
23
24
25
26
27
28
29
30
اختر السورة:
1 - ﴿الفاتحة﴾
2 - ﴿البقرة﴾
3 - ﴿آل عمران﴾
4 - ﴿النساء﴾
5 - ﴿المائدة﴾
6 - ﴿الأنعام﴾
7 - ﴿الأعراف﴾
8 - ﴿الأنفال﴾
9 - ﴿التوبة﴾
10 - ﴿يونس﴾
11 - ﴿هود﴾
12 - ﴿يوسف﴾
13 - ﴿الرعد﴾
14 - ﴿إبراهيم﴾
15 - ﴿الحجر﴾
16 - ﴿النحل﴾
17 - ﴿الإسراء﴾
18 - ﴿الكهف﴾
19 - ﴿مريم﴾
20 - ﴿طه﴾
21 - ﴿الأنبياء﴾
22 - ﴿الحج﴾
23 - ﴿المؤمنون﴾
24 - ﴿النور﴾
25 - ﴿الفرقان﴾
26 - ﴿الشعراء﴾
27 - ﴿النمل﴾
28 - ﴿القصص﴾
29 - ﴿العنكبوت﴾
30 - ﴿الروم﴾
31 - ﴿لقمان﴾
32 - ﴿السجدة﴾
33 - ﴿الأحزاب﴾
34 - ﴿سبأ﴾
35 - ﴿فاطر﴾
36 - ﴿يس﴾
37 - ﴿الصافات﴾
38 - ﴿ص﴾
39 - ﴿الزمر﴾
40 - ﴿غافر﴾
41 - ﴿فصلت﴾
42 - ﴿الشورى﴾
43 - ﴿الزخرف﴾
44 - ﴿الدخان﴾
45 - ﴿الجاثية﴾
46 - ﴿الأحقاف﴾
47 - ﴿محمد﴾
48 - ﴿الفتح﴾
49 - ﴿الحجرات﴾
50 - ﴿ق﴾
51 - ﴿الذاريات﴾
52 - ﴿الطور﴾
53 - ﴿النجم﴾
54 - ﴿القمر﴾
55 - ﴿الرحمن﴾
56 - ﴿الواقعة﴾
57 - ﴿الحديد﴾
58 - ﴿المجادلة﴾
59 - ﴿الحشر﴾
60 - ﴿الممتحنة﴾
61 - ﴿الصف﴾
62 - ﴿الجمعة﴾
63 - ﴿المنافقون﴾
64 - ﴿التغابن﴾
65 - ﴿الطلاق﴾
66 - ﴿التحريم﴾
67 - ﴿الملك﴾
68 - ﴿القلم﴾
69 - ﴿الحاقة﴾
70 - ﴿المعارج﴾
71 - ﴿نوح﴾
72 - ﴿الجن﴾
73 - ﴿المزمل﴾
74 - ﴿المدثر﴾
75 - ﴿القيامة﴾
76 - ﴿الإنسان﴾
77 - ﴿المرسلات﴾
78 - ﴿النبأ﴾
79 - ﴿النازعات﴾
80 - ﴿عبس﴾
81 - ﴿التكوير﴾
82 - ﴿الانفطار﴾
83 - ﴿المطففين﴾
84 - ﴿الانشقاق﴾
85 - ﴿البروج﴾
86 - ﴿الطارق﴾
87 - ﴿الأعلى﴾
88 - ﴿الغاشية﴾
89 - ﴿الفجر﴾
90 - ﴿البلد﴾
91 - ﴿الشمس﴾
92 - ﴿الليل﴾
93 - ﴿الضحى﴾
94 - ﴿الشرح﴾
95 - ﴿التين﴾
96 - ﴿العلق﴾
97 - ﴿القدر﴾
98 - ﴿البينة﴾
99 - ﴿الزلزلة﴾
100 - ﴿العاديات﴾
101 - ﴿القارعة﴾
102 - ﴿التكاثر﴾
103 - ﴿العصر﴾
104 - ﴿الهمزة﴾
105 - ﴿الفيل﴾
106 - ﴿قريش﴾
107 - ﴿الماعون﴾
108 - ﴿الكوثر﴾
109 - ﴿الكافرون﴾
110 - ﴿النصر﴾
111 - ﴿المسد﴾
112 - ﴿الإخلاص﴾
113 - ﴿الفلق﴾
114 - ﴿الناس﴾
اختر الًصفحة:
1
2
3
4
5
6
7
8
9
10
11
12
13
14
15
16
17
18
19
20
21
22
23
24
25
26
27
28
29
30
31
32
33
34
35
36
37
38
39
40
41
42
43
44
45
46
47
48
49
50
51
52
53
54
55
56
57
58
59
60
61
62
63
64
65
66
67
68
69
70
71
72
73
74
75
76
77
78
79
80
81
82
83
84
85
86
87
88
89
90
91
92
93
94
95
96
97
98
99
100
101
102
103
104
105
106
107
108
109
110
111
112
113
114
115
116
117
118
119
120
121
122
123
124
125
126
127
128
129
130
131
132
133
134
135
136
137
138
139
140
141
142
143
144
145
146
147
148
149
150
151
152
153
154
155
156
157
158
159
160
161
162
163
164
165
166
167
168
169
170
171
172
173
174
175
176
177
178
179
180
181
182
183
184
185
186
187
188
189
190
191
192
193
194
195
196
197
198
199
200
201
202
203
204
205
206
207
208
209
210
211
212
213
214
215
216
217
218
219
220
221
222
223
224
225
226
227
228
229
230
231
232
233
234
235
236
237
238
239
240
241
242
243
244
245
246
247
248
249
250
251
252
253
254
255
256
257
258
259
260
261
262
263
264
265
266
267
268
269
270
271
272
273
274
275
276
277
278
279
280
281
282
283
284
285
286
287
288
289
290
291
292
293
294
295
296
297
298
299
300
301
302
303
304
305
306
307
308
309
310
311
312
313
314
315
316
317
318
319
320
321
322
323
324
325
326
327
328
329
330
331
332
333
334
335
336
337
338
339
340
341
342
343
344
345
346
347
348
349
350
351
352
353
354
355
356
357
358
359
360
361
362
363
364
365
366
367
368
369
370
371
372
373
374
375
376
377
378
379
380
381
382
383
384
385
386
387
388
389
390
391
392
393
394
395
396
397
398
399
400
401
402
403
404
405
406
407
408
409
410
411
412
413
414
415
416
417
418
419
420
421
422
423
424
425
426
427
428
429
430
431
432
433
434
435
436
437
438
439
440
441
442
443
444
445
446
447
448
449
450
451
452
453
454
455
456
457
458
459
460
461
462
463
464
465
466
467
468
469
470
471
472
473
474
475
476
477
478
479
480
481
482
483
484
485
486
487
488
489
490
491
492
493
494
495
496
497
498
499
500
501
502
503
504
505
506
507
508
509
510
511
512
513
514
515
516
517
518
519
520
521
522
523
524
525
526
527
528
529
530
531
532
533
534
535
536
537
538
539
540
541
542
543
544
545
546
547
548
549
550
551
552
553
554
555
556
557
558
559
560
561
562
563
564
565
566
567
568
569
570
571
572
573
574
575
576
577
578
579
580
581
582
583
584
585
586
587
588
589
590
591
592
593
594
595
596
597
598
599
600
601
602
603
604


يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!