الفتوحات المكية - طبعة بولاق الثالثة (القاهرة / الميمنية) |
||
الباب: | فى معرفة منازلة (وأن إلى ربك المنتهى) فاعتزوا بى تسعدوا |
والتقدم وكلما تمكن من التأثير في غيره فإنه يؤثر ويجد في نفسه طلب ذلك كله وحبه وذلك لأنه خلقه الله على صورته وله تعالى العزة والكبرياء والعظمة فسرت هذه الأحكام في العبد فإنها أحكام تتبع الصورة التي خلق عليها الإنسان وتستلزمها فرجال الله هم الذين لم يصرفهم خلقهم على الصورة عن الفقر والذلة والعبودية وإذا وجدوا هذا الأمر الذي اقتضاه خلقهم على الصورة ولا بد ظهروا به في المواطن التي عين الحق لهم أن يظهروا بذلك فيها كما فعل الحق الذي له هذه الصفة ذاتية نفسية فلا يظهر بها إلا في مواطن مخصوصة ويظهر بالنزول والتحبب إلى عباده حتى كأنه فقير إليهم في ذلك ويقيم نفسه مقامهم وإذا كان الحق بهذه الصفة أن ينزل إليكم في صوركم فأنتم أحق بهذا النعت أن لا تبرحوا فيه ولا تنظروا إلى ما تجدونه فيكم من قوة الصورة فذلك له لا لكم كما إن لكم ما نزل إليكم فيه لا له ولو لا إن أسماءه الحسنى قامت بكم واتصفتم بها ما تمكن لكم ذلك فردوا أسماءه على صورته لا عليكم وخذوا منه ما نزل لكم فيه فإن ذلك نعتكم وأسماؤكم فإنكم إذا فعلتم ذلك وصلتم إليه أي كنتم من أهل القربة فإن المقرب لا يبقى له القرب والجلوس مع الحق والتحدث معه تعالى اسما إلهيا من الأسماء المؤثرة في العالم ولا من أسماء التنزيه وإنما يدخل عليه بالذلة لشهود عزه وبالفقر لشهود غناه وبالتهيؤ لنفوذ قدرته فينخلع من كل الأسماء التي تعطيه أحكام الصورة التي خلق عليها هذا مذهب سادات أهل الطريق حتى قالوا في ذلك إن صادقين لا يصطحبان إنما يصطحب صادق وصديق ولهذا ما بعث رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم بعثا قط ولو كان اثنين إلا قدم أحدهما وجعل الآخر تبعا وإن لم يكن كذلك فسد الأمر والنظام وهو متبع في ذلك حكم الأصل فإنه لو كان مع الله إله آخر لفسد الأمر والنظام كما قال لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا الله لَفَسَدَتا فمن أراد صحبة الحق فليصحبه بحقيقته وجبلته من ذله وافتقاره ومن أراد صحبة الخلق فليصحبه بما شرع له ربه لا بنفسه ولا بصورة ربه بل كما قلنا بما شرع له فيعطي كل ذي حق حقه فيكون عبدا في صورة حق أو حقا في صورة عبد كيفما كان لا حرج عليه ولما كان هذا كله مذهب أهل الله كشف الله لنا من زيادة العلم التي امتن الله بها علينا مع مشاركتنا إياهم فيما ذهبوا إليه إن الله أطلعنا على أن جميع ما يتسمى به العبد ويحق له النعت به وإطلاق الاسم عليه لا فرق بينه وبين ما ينعت به من الأسماء الإلهية فالكل أسماء إلهية فهو في كل ما يظهر به مما ذكروه مما تقتضيه العبودية عندهم والصورة ليس له وإنما ذلك لله وما له من نفسه سوى عينه وعينه ما استفادت صفة الوجود إلا منه تعالى فما سماه باسم إلا وهو له تعالى فإذا خرج العبد من جميع أسمائه كلها التي تقتضيها جبلته والصورة التي خلق عليها حتى لا يبقى منه سوى عينه بلا صفة ولا اسم سوى عينه حينئذ يكون عند الله من المقربين ووافقنا على هذا القول شيخنا أبو يزيد البسطامي حيث قال وأنا الآن لا صفة لي يعني لما أقامه الله في هذا المقام فصفات العبد كلها معارة من عند الله فهي لله حقيقة ونعتنا بها فقبلناها أدبا على علم أنها له لا لنا إذ من حقيقتنا عدم الاعتراض إنما هو التسليم الذاتي المحض لا التسليم الذي هو صفة له فإن ذلك له فإذا كان العبد ما عنده من ذاته سوى عينه بالضرورة يكون الحق جميع صفاته ويقول له أنت عبدي حقا فما سمع سامع في نفس الأمر إلا بالحق ولا أبصر إلا به ولا علم إلا به ولا حي ولا قدر ولا تحرك ولا سكن ولا أراد ولا قهر ولا أعطى ولا منع ولا ظهر عليه وعنه أمر ما هو عينه إلا وهو الحق لا العبد فما للعبد سوى عينه سواء علم ذلك أو جهله وما فاز العلماء إلا بعلمهم بهذا القدر في حق كل ما سوى الله لا أنهم صاروا كذا بعد أن لم يكونوا ف لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ وفي مثل هذا فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ والله يَقُولُ الْحَقَّ وهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ «الباب العاشر وأربعمائة في معرفة منازلة وأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى فاعتزوا بي تسعدوا»وليس وراء الله مرمى لرام *** هذا هو الحق الذي لا يرام هذا مقام الحق لا تعتدوا *** يحرم في هذا المقام المقام إذا وصلتم إخوتي فارجعوا *** هذا وجود ما لديه انصرام رجوعكم منه إليكم فما *** ثم سوى عين الورى والإمام كونوا أعزاء به تسعدوا *** فليس عز غير عز الإمام لما رأوا أعراضهم لم تقم *** ولم يروا أحوالهم في دوام قالوا أنام الحق عن كوننا *** لذاك سموا في اللسان الأنام [ليس وراء الله وجود]قال الله تعالى يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وقال تعالى وأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى وقال صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم ليس وراء الله مرمى وقال والله من وَرائِهِمْ مُحِيطٌ وما ثم إلا الله ونحن وهو من ورائنا محيط فليس وراء الله مرمى إلا العدم المحض الذي ما فيه حق ولا خلق فهو تعالى المحيط بنا فالوراء منا له من كل وجهة فلا نراه أبدا من هذه الآية لأن وجوهنا إنما هي مقبلة مصروفة إلى نقطة المحيط لأنا منها خرجنا فلم يتمكن لنا أن نستقبل بوجوهنا إلا هي فهي قبلتنا وهي إمامنا ومن كان هذا نعته والأمر كرى فبالضرورة يكون الوراء منا للمحيط بنا فإذا نظرنا إلى قوله وأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى فإنما يريد بظهورنا لا بوجوهنا فإن مشينا إلى المحيط القهقري فهو من ورائنا محيط لأنه الوجود فلو لم يكن من ورائنا لكان انتهاؤنا إلى العدم ولو وقعنا في العدم ما ظهر لنا عين فمن المحال وقوعنا في العدم لأن الله وهو الوجود المحض من ورائنا محيط بنا إليه ننتهي فيحول وجوده وإحاطته بيننا وبين العدم فليس بين قوله وأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى وبين قوله والله من وَرائِهِمْ مُحِيطٌ تقابل لا يمكن معه الجمع بينهما بل الجمع بينهما معلوم فالعالم بين النقطة والمحيط فالنقطة الأول والمحيط الآخر فالحفظ الإلهي يصحبنا حيثما كنا فيصرفنا منه إليه والأمر دائرة ما لها طرف يشهد فيوقف عنده فلهذا قيل للمحمدي الذي له مثل هذا الكشف لا مُقامَ لَكُمْ لكون الأمر دوريا فارجعوا فلا يزال العالم سابحا في فلك الوجود دائما إلى غير نهاية إذ لا نهاية هناك ولا يزال وجه العالم أبدا إلى الاسم الأول الذي أوجده ناظرا ولا يزال ظهر العالم إلى الاسم الآخر المحيط الذي ينتهي إليه بورائه ناظرا فإن العالم يرى من خلفه كما يرى من أمامه ولكن يختلف إدراكه باختلاف الحال عليه ولو لا الاختلاف ما تميز عين ولا كان فرقان إن الوجود رحى علي تدور *** وأنا لها قطب فلست أبور لو زلت ما دارت ولا كانت رحى *** فالفقر نعت الكون فهو فقير يا جاهلا بالأمر وهو مشاهد *** اعلم بأنك بالأمور خبير الجمع يحجب فرقه عن عينه *** وهو الدليل عليه فهو بصير قيل لطائفة ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فقيل لهم حق لأن الله من وَرائِهِمْ مُحِيطٌ وهو النور فلو لم يضرب بالسور بينه وبينهم لوجدوا النور الذي التمسوه حين قيل لهم فَالْتَمِسُوا نُوراً فإن الحياة الدنيا محل اكتساب الأنوار بالتكاليف وأنها دار عمل مشروع فهي دار ارتقاء واكتساب فلما أقبلوا على الآخرة صارت الدنيا وراءهم فقيل لهم ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً أي لا يكون لأحد نور إلا من حياته الدنيا فحال سور المنع بينهم وبين الحياة الدنيا فالسور دائرة بين النقطة والمحيط فأهل الجنان بين السور والمحيط فالنور من ورائهم وباطن السور إليهم الذي فيه الرحمة ووجه السور الذي هو ظاهره ينظر إلى نقطة المحيط وأهل النار بين النقطة وظاهر السور وظاهِرُهُ من قِبَلِهِ الْعَذابُ إلى الأجل المسمى فهو حائل بين الدارين لا بين الصفتين فإن السور في نفسه رحمة وعينه عين الفصل بين الدارين لأن العذاب من قبله ما هو فيه والرحمة فيه فلو كان فيه العذاب لتسرمد العذاب على أهل النار كما تتسرمد الرحمة على أهل الجنة فالسور لا يرتفع وكونه رحمة لا يرتفع ولا بد أن يظهر ما في الباطن على الظاهر فلا بد من شمول الرحمة لمن هو قبل ظاهر السور ولهذا قيل لهم فَالْتَمِسُوا نُوراً فلو قيل لهم التمسوا رحمة لوجدوها من حينهم بوجود السور فإذا أراد أهل الجنة أن يتنعموا برؤية أهل النار يصعدون على ذلك السور فينغمسون في الرحمة فيطلعون على أهل النار فيجدون من لذة النجاة منها ما لا يجدونه من نعيم الجنة لأن الأمن الوارد على الخائف أعظم لذة عنده من الأمن المستصحب له وينظرن أهل النار إليهم بعد شمول الرحمة فيجدون من اللذة بما هم في النار ويحمدون الله تعالى حيث لم يكونوا في الجنة وذلك لما يقتضيه مزاجهم في تلك الحالة فلو دخلوا الجنة بذلك المزاج لأدركهم الألم |