The Meccan Revelations: al-Futuhat al-Makkiyya

Brwose Headings Section I: on Knowledge (Maarif) Section II: on Interactions (Muamalat) Section IV: on Abodes (Manazil)
Introductions Section V: on Controversies (Munazalat) Section III: on States (Ahwal) Section VI: on Stations (Maqamat of the Pole)
Part One Part Two Part Three Part Four

الفتوحات المكية - طبعة بولاق الثالثة (القاهرة / الميمنية)

الباب:
فى معرفة منزل المزيد وسرّ وسرّين من أسرار الوجود والتبدّل وهو من الحضرة المحمدية

قول النبي صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم لا أحصي ثناء عليك أنت كما ثنيت على نفسك‏

ولكن عند من عند نفسك أو عند خلقك فانظر فيما نبهتك عليه فإنه ينفعك إن قبلت مقالتي وأصغيت إلى نصيحتي وهذا وصل الكلام فيه يطول جدا فإنه يحوي على أسرار وأنوار ومزج واختلاط وتخليص وتمييز وما يردي وما ينجي ويكتفى بهذا القدر من هذا الباب والله يَقُولُ الْحَقَّ وهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ‏

«الباب السبعون وثلاثمائة في معرفة منزل المزيد وسر وسرين من أسرار الوجود والتبدل وهو من الحضرة المحمدية»

إن الزيادة في الأعمال صورتها *** مثل الزيادة في الإنعام يا رجل‏

وليس يعرفها إلا رجال حجى *** وليس يحصرها عد ولا أجل‏

لله في طيها مكر لذي نظر *** محقق ولنا في مكره أمل‏

فإنه صادر من سر حضرته *** وليس يعصم إلا العلم والعمل‏

إن الفروع لها أصل يبينها *** للناظرين به قد جاءنا المثل‏

[أن الحكمة في الأشياء كلها]

اعلم أن الحكمة في الأشياء كلها والأمور أجمعها إنما هو للمراتب لا للاعيان وأعظم المراتب الألوهية وأنزل المراتب العبودية فما ثم إلا مرتبتان فما ثم إلا رب وعبد لكن للالوهة أحكام كل حكم منها يقتضي رتبة فأما يقوم ذلك الحكم بالإله فيكون هو الذي حكم

على نفسه وهو حكم المرتبة في المعنى ولا يحكم بذلك الحكم إلا صاحب المرتبة لأن المرتبة ليست وجود عين وإنما هي أمر معقول ونسبة معلومة محكوم بها ولها الأحكام وهذا من أعجب الأمور تأثير المعدوم وأما أن يقوم ذلك الحكم بغيره في الموجود إما أمرا وجوديا وإما نسبة فلا تؤثر إلا المراتب وكذلك للعبودة أحكام كل حكم منها رتبة فأما يقوم ذلك الحكم بنفس العبد فما حكم عليه سوى نفسه فكأنه نائب عن المرتبة التي أوجبت له هذا الحكم أو يحكم على مثله أو على غيره وما ثم إلا مثل أو غير في حق العبد وأما في الإله فما ثم إلا غير لا مثل فإنه لا مثل له فأما الأحكام التي تعود عليه من أحكام الرتبة وجوب وجوده لذاته والحكم بغنائه عن العالم وإيجابه على نفسه بنصر المؤمنين بالرحمة ونعوت الجلال كلها التي تقتضي التنزيه ونفي المماثلة وأما الأحكام التي تقتضي بذاتها طلب الغير فمثل نعوت الخلق كلها وهي نعوت الكرم والإفضال والجود والإيجاد فلا بد فيمن وعلى من فلا بد من الغير وليس إلا العبد وما منها أثر يطلب العبد إلا ولا بد أن يكون له أصل في الإله أوجبته المرتبة لا بد من ذلك ويختص تعالى بأحكام من هذه المرتبة لا تطلب الخلق كما قررنا ومرتبة العبد تطلب من كونه عبدا أحكاما لا تقوم إلا بالعبد من كونه عبدا خاصا فهي عامة في كل عبد لذاته ثم لها أحكام تطلب تلك الأحكام وجود الأمثال ووجود الحق فمنها إذا كان العبد نائبا وخليفة عن الحق أو خليفة عن عبد مثله فلا بد أن يخلع عليه من استخلفه من صفاته ما تطلبه مرتبة الخلافة لأنه إن لم يظهر بصورة من استخلفه وإلا فلا يتمشى له حكم في أمثاله وليس ظهوره بصورة من استخلفه سوى ما تعطيه مرتبة السيادة فأعطته رتبة العبودة ورتبة الخلافة أحكاما لا يمكن أن يصرفها إلا في سيده والذي استخلفه كما أن له أحكاما لا يصرفها إلا فيمن استخلف عليه والخلافة صغرى وكبرى فأكبرها التي لا أكبر منها الإمامة الكبرى على العالم وأصغرها خلافته على نفسه وما بينهما ينطلق عليها صغرى بالنسبة إلى ما فوقها وهي بعينها كبرى بالنظر إلى ما تحتها فأما تأثير رتبة العبد في سيده فهو قيام السيد بمصالح عبده ليبقى عليه حكم السيادة ومن لم يقم بمصالح عبده فقد عزلته المرتبة فإن المراتب لها حكم التولية والعزل بالذات لا بالجعل كانت لمن كانت وأما التأثير الذي يكون للعبد من كونه خليفة فيمن استخلفه كان المستخلف ما كان إن يبقى له عين من استخلفه عليه لينفذ حكمه فيه وإن لم يكن كذلك فليس بخليفة ولا يصدق إذا لم يكن ثم على من ولا فيمن لأن الخليفة لا بد له من مكان يكون فيه حتى يقصد بالحاجات أ لا ترى من لا يقبل المكان كيف اقتضت المرتبة له أن يخلق سماء جعله عرشا ثم ذكر أنه استوى عليه حتى يقصد بالدعاء وطلب الحوائج ولا يبقى العبد حائرا لا يدري أين يتوجه لأن العبد خلقه الله ذا جهة فنسب الحق الفوقية لنفسه من سماء وعرش وإحاطة بالجهات كلها بقوله فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ الله وبقوله ينزل ربنا إلى السماء الدنيا فيقول هل من تائب هل من داع هل من مستغفر

ويقول عنه رسوله‏

إن الله في قبلة المصلي‏

هذا كله حكم المراتب إن عقلت فلو زالت المراتب من العالم لم يكن للاعيان وجود أصلا فافهم فإذا أراد الأعلى أن يعرفه الأدنى لأن الأدنى لا قدم له في العلو والأعلى له الإحاطة بالأدنى فلا بد أن يتعرف الأعلى إلى الأدنى ولا يمكن ذلك إلا بأن يتنزل إليه الأعلى لأن الأدنى لا يمكن أن يترقى إليه لأنه تنعدم عينه إذ لا قدم له في العلو فالأدنى أبدا لا يزال في رتبته ثابتا والأعلى له النزول وله الثبوت في رتبته ومن ثبوته في رتبته حكم على نفسه بالنزول فهو ثابت في مرتبته العالية في عين نزوله لأن النزول من أحكامها وكذلك فعل الله تعالى في سفرائه الذين هم رسله إلى خلقه من خلقه فما أرسل رسولا إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فإذا أرسله عامة كانت العامة قومه فأعطاه جوامع الكلم وهو فصل الخطاب وما كمل إلا آدم بالأسماء وكمال محمد صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم بجوامع الكلم فنزل إليهم برسالة ربهم بلسانهم ولحنهم فما دعاهم إلا بهم ثم إنه ما شرع لهم من الأحكام إلا ما كانوا عليه فما زادهم في ذلك إلا كونها من عند الله فيحكمون بها على طريق القربة إلى الله لتورثهم السعادة عند الله وإنما قلنا ما شرع لهم من الأحكام إلا ما كانوا عليه لأنه لم تخل أمة من الأمم على ناموس تكون عليه لمصالح أحوالها وليست إلا خمسة فلا بد من واجب أوجبه إمامهم وواضع ناموسهم عليهم وهو الواجب والفرض عندنا وكذلك المندوب والمحظور والمكروه والمباح لأنه لا بد لهم من حدود في الأحكام يقفون عندها عليها وما جاءهم الشرع من عند الله إلا بهذا الذي كانوا عليه من حكم نظرهم فيما يزعمون وهو في نفس الأمر من جعل الله ذلك في نفوسهم من حيث لا يشعرون ولذلك كان لهم بذلك أجر من الله من حيث لا يعلمون لكن إذا انقلبوا إليه وجدوا ذلك عنده فلما رأينا أنه ما أرسل رسولا إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ علمنا أنه ما تعرف إلينا حين أراد منا أن نعرفه إلا بما نحن عليه لا بما تقتضيه ذاته وإن كان تعرفه إلينا بنا مما تقتضيه ذاته ولكن يختلف اقتضاء ذاته بين ما يتميز به عنا وبين ما يتعرف به إلينا ولما كان الخلق على مراتب كثيرة وكان أكمل مرتبة فيه الإنسان كان كل صنف من العالم جزءا بالنظر إلى كمال الإنسان حتى الإنسان الحيوان جزء من الإنسان الكامل فكل معرفة لجزء من العالم بالله معرفة جزئية إلا الإنسان فإن معرفته بالله معرفة العالم كله بالله فعلمه بالله علم كلي لا علم كل إذ لو كان علما كلا لم يؤمر أن يقول رَبِّ زِدْنِي عِلْماً أ ترى ذلك علما بغير الله لا والله بل بالله فخلق الإنسان الكامل على صورته ومكنه بالصورة من إطلاق جميع أسمائه عليه فردا فردا وبعضا بعضا لا ينطلق عليه مجموع الأسماء معا في الكلمة الواحدة ليتميز الرب من العبد الكامل فما من اسم من الأسماء الحسنى وكل أسماء الله حسني إلا وللعبد الكامل أن يدعي بها كما له أن يدعو سيده بها ومن هذه الأسماء الإلهية ما يدعوه الحق تعالى بها على طريق الثناء على العبد بها وهي أسماء الرحمة واللطف والحنان ومنها ما يدعوه بها على طريق المذمة مثل قوله تعالى ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ وكذلك كان في قومه يدعى بهذا الاسم ودعاه الحق به هنا سخرية به على جهة الذم قال تعالى فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ فلما أوجد الكامل منا على الصورة عرفه الكامل من نفسه بما أعطاه من الكمال وكان العبد الكامل حقا كله وفنى عن عينه في نفسه لأنه قابلة بذاته وقد جعل الله له مثالا في باب المحبة فعشق إليه ما عشق من العالم من أي شي‏ء كان من فرس أو دار أو دينار أو درهم فما قابلة به إلا بالجزء المناسب ففني منه ذلك الجزء المناسب لعشقه في ذلك وبقي سائره صاحيا لا حكم له فيه إلا إذا عشق شخصا مثله من جارية أو غلام فإنه يقابله بذاته كلها وبجميع أجزائه فإذا شاهده فنى فيه بكله لا بجزء منه فيغشى عليه وذلك لكونه قابلة بكله كذلك العبد إذا رأى الحق أو تخيله فنى فيه عند مشاهدته لأنه على صورته فيقابله بذاته فما بقي فيه جزء يصحو حتى يعقل به ما فنى منه فيه وهكذا كل‏

جزء من العالم مع الحق إذا تجلى له خشع له وفنى فيه لأن كل ما هو عليه شي‏ء من العالم هو صورة الحق لما أعطاه منه إذ لا يصح أن يكون شي‏ء من العالم له وجود ليس هو صورة الحق فلا بد أن يفنى العالم في الحق إذا تجلى له ولا يفنى الحق في الخلق لأن الخلق من الحق ما هو الحق من الخلق فنسبة الحق إلى الخلق نسبة الإنسان إلى كل صنف من العالم ما عدا نوع الإنسان فتفطن لما ذكرته لك من فناء كل شي‏ء من العالم عن نفسه عند تجليه سبحانه له ولا يفنى الحق بمشاهدة الخلق وقد جاء الشرع بتدكدك الجبل وصعق موسى عليه السلام عند التجلي الرباني فما عرفنا من‏

الحق إلا ما نحن عليه وفينا الكامل والأكمل فإن الله أعطى كل شي‏ء خلقه فلما قرر الله هذه النعم على عبده وهداه السبيل إليها قال إِمَّا شاكِراً فيزيده منها لأنا قلنا إنه ما أعطاه إلا منه ما أعطاه مطلقا وإِمَّا كَفُوراً بنعمه فيسلبها عنه ويعذبه على ذلك فليحترز الإنسان لنفسه في أي طريق يمشي فما بعد بيان الله بيان وقال موسى عليه السلام لبني إسرائيل إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ ومن في الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ الله لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ ينبه أن الله تعالى ما أوجد العالم إلا للعالم وما تعبده بما تعبده به إلا ليعرفه بنفسه فإنه إذا عرف نفسه عرف ربه فيكون جزاؤه على علمه بربه أعظم الجزاء ولذلك قال إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ولا يعبدونه حتى يعرفوه فإذا عرفوه عبدوه عبادة ذاتية فإذا أمرهم عبدوه عبادة خاصة مع بقاء العبادة العامة الذاتية فجازاهم على ذلك فما خلقهم إلا لهم ولهذا قال تعالى عن نفسه إنه غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ وما ذكر موسى الأرض إلا لكمالها بوجود كل شي‏ء فيها وهو الإنسان الجامع حقائق العالم فقوله في الأرض لأنها الذلول فهي الحافظة مقام العبودة فكأنه قال إن تكفروا أنتم وكل عبد لله فإن الله غني عن العالمين ولذلك جعل الله الأرض محل الخلافة ومنزلها فكأنه كنى أي إني جاعل في الأرض خليفة منهم لا يزول عن مقام عبوديته في نفسه أي لا يحجبه مرتبة الخلافة بالصفات التي أمره بها عن رتبته ولهذا جعلناه خليفة ولم نذكره بالإمامة لأن الخليفة يطلب بحكم هذا الاسم عليه من استخلفه فيعلم أنه مقهور محكوم عليه فما سماه إلا بما له فيه تذكرة لأنه مفطور على النسيان والسهو والغفلة فيذكره اسم الخليفة لمن استخلفه فلو جعله إماما من غير أن يسميه خليفة مع الإمامة ربما اشتغل بإمامته عمن جعله إماما بخلاف خلافته لأن الإمامة ليست لها قوة التذكير في الخلافة فقال في الجماعة الكمل جَعَلَكُمْ خَلائِفَ في الْأَرْضِ فوقع هذا في مسموعهم فتصرفوا في العالم بحكم الخلافة وقال لإبراهيم عليه السلام بعد أن أسمعه خلافة آدم ومن شاء الله من عباده إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً لما علم إن الخلافة قد أشربها فلا يبالي بعد ذلك أن يسميه بأي اسم شاء كما سمي يحيى بسيد ولما عرفه العارفون به تميزوا عمن عرفه بنظره فكان لهم الإطلاق ولغيرهم التقييد فيشهده العارفون به في كل شي‏ء أو عين كل شي‏ء ويشهده من عرفه بنظره منعزلا عنه ببعد اقتضاه له تنزيهه فجعل نفسه في جانب والحق في جانب فيناديه من مكان بعيد ولما كانت الخلافة تطلب الظهور بصورة من استخلفه والذي جعله خليفة عنه ذكر عن نفسه أنه عَلى‏ صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ فلا بد أن يكون هذا الخليفة على صراط فنظر في الطرق فوجدها كثيرة منها صِراطِ الله ومنها صِراطِ الْعَزِيزِ ومنها صراط الرب ومنها صراط محمد صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم ومنها صراط النعم وهو صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ وهو قوله لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً ومِنْهاجاً فاختار هذا الإمام المحمدي سبيل محمد صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم وترك سائر السبل مع تقريرها وإيمانه بها ولكن ما تعبد نفسه إلا بصراط محمد صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم ولا تعبد رعاياه إلا به ورد جميع الأوصاف التي لكل صراط إليه لأن شريعته عامة فانتقل حكم الشرائع كلها إلى شرعه فشرعه يتضمنها ولا تتضمنه فمنها صِراطِ الله وهو الصراط العام الذي عليه تمشي جميع الأمور فيوصلها إلى الله فيدخل فيه كل شرع إلهي وموضوع عقلي فهو يوصل إلى الله فيعم الشقي والسعيد ثم إنه لا يخلو الماشي عليه إما أن يكون صاحب شهود إلهي أو محجوبا فإن كان صاحب شهود إلهي فإنه يشهد أنه مسلوك به فهو سالك بحكم الجبر ويرى أن السالك به هو ربه تعالى وربه عَلى‏ صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ كذا تلاه علينا سبحانه وتعالى إن هودا عليه السلام قاله وهو رسول من رسل الله فلهذا كان مآله إلى الرحمة وإذا أدركه في الطريق النصب فتلك أعراض عرضت له من الشئون التي الحق فيها كل يوم وذلك قوله تعالى كُلَّ يَوْمٍ هُوَ في شَأْنٍ ولا يمكن أن يكون الأمر إلا هكذا وما أحد أكشف للأمور وأشهد للحقائق وأعلم بالطرق إلى الله من الرسل عليهم الصلاة والسلام ومع هذا فما سلموا من الشئون الإلهية فعرضت لهم الأمور المؤلمة النفسية من رد الدعوة في وجهه وما يسمعه في الحق تعالى مما نزه جلاله عنه وفي‏

الحق الذي جاء به من عند الله وكذلك الأمور المؤلمة المحسوسة من الأمراض والجراحات والضرب في هذه الدار وهذا أمر عام له ولغيره وقد تساوى في هذه الآلام السعيد والشقي وكُلٌّ يَجْرِي فيه إِلى‏ أَجَلٍ مُسَمًّى عند الله فمنهم من يمتد أجله إلى حين موته ويحصل في الراحة الدائمة والرحمة العامة الشاملة وهم الذين لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ ولا يخافون على أنفسهم ولا على أممهم لأنهم كانوا مجهولين في الدنيا والآخرة

وهم الذين تغبطهم الرسل في ذلك لما هم فيه من الراحة لأن الرسل عليه السلام يخافون يوم الفزع الأكبر على أممهم وأتباعهم لا على أنفسهم ومنهم من يمتد أجله إلى دخول الجنة من العرض ومنهم من يمتد أجله في الآلام إلى أن يشفع فيه بالخروج من النار إلى الجنة ومنهم من يمتد أجله في الآلام إلى أن يخرجه الله بنفسه لا بشفاعة شافع وهم الموحدون بطريق النظر الذين ما آمنوا ولا كفروا ولا عملوا خير القول الشارع قط فإنهم لم يكونوا مؤمنين ولكنهم وحدوا الله جل جلاله وماتوا على ذلك ومن كان له علم بالله منهم ومات عليه جنى ثمرة علمه فإن قدحت له فيه شبهة حيرته أو صرفته عن اعتقاد ما كان يظن أنه علم وهو علم في نفس الأمر ثم بدا له ما حيره فيه أو صرفه عنه فعلم يوم القيامة أن ذلك حق في نفس الأمر وهو ممن أخرجه الله إلى الجنة من النار عاد عليه ثمرة ذلك العلم ونال درجته ومنهم من يمتد أجله في الآلام ممن ليس بخارج من النار وهو من أهلها القاطنين فيها ومدته معلومة عندنا ثم تعمه رحمة الله وهو في جهنم فيجعل الله له فيها نعيما بحيث إنه يتألم بنظره إلى الجنة كما يتألم أهل الجنة بنظرهم إلى النار فهؤلاء إن كان لهم علم بوجود الله وقد دخلهم شبهة في توحيد الله أو في علم مما يتعلق بجناب الله حيرته أو صرفته إلى نقيض ما كان يعتقده فإنه يوم القيامة إذا تبين له أن ذلك كان علما في نفس الأمر لا ينفعه ذلك التبين كما لم ينفع الايمان في الدنيا عند رؤية البأس فذلك العلم هو الذي يخلع على المؤمن الذي لم يكن له علم بإله له من الموحدين المؤمنين ويؤخذ جهل ذلك المؤمن الموحد ويلقي على هذا الذي هو من أهل النار فيتنعم في النار بذلك الجهل كما كان يتنعم به المؤمن الجاهل في الدنيا ويتنعم المؤمن بذلك العلم الذي خلع عليه الذي كان لهذا العالم بوجود الله لا بتوحيده وإنه لما وحده قدحت له شبهة في توحيده وعلمه بالله حيرته وصرفته وهذا آخر المدد لأصحاب الآلام في النار وبعد انقضاء هذا الأجل فنعيم بكل وجه أينما تولى ولا فرق بينه وبين عمار جهنم من الخزنة والحيوانات فهي تلدغه لما للحية والعقرب في ذلك اللدغ من النعيم والراحة والملدوغ يجد لذلك اللدغ لذة واسترقادا في الأعضاء وخدرا في الجوارح يلتذ بذلك التذاذا هكذا دائما أبدا فإن الرحمة سبقت الغضب فما دام الحق منعوتا بالغضب فالآلام باقية على أهل جهنم الذين هم أهلها فإذا زال الغضب الإلهي كما قدمنا وامتلأ به النار ارتفعت الآلام وانتشر ذلك الغضب فيما في النار من الحيوانات المضرة فهي تقصد راحتها بما يكون منها في حق أهل النار ويجد أهل النار من اللذة ما تجده تلك الحية من الانتقام لله لأجل ذلك الغضب الإلهي الذي في النار وكذلك النار ولا تعلم النار ولا من فيها إن أهلها يجدون لذة لذلك لأنهم لا يعلمون متى أعقبتهم الراحة وحكمت فيهم الرحمة وهذا الصراط الذي تكلمنا فيه هو الذي يقول فيه أهل الله إن الطرق إلى الله على عدد أنفاس الخلائق وكل نفس إنما يخرج من القلب بما هو عليه القلب من الاعتقاد في الله فالاعتقاد العام وجوده فمن جعله الدهر فوصوله إلى الله من اسمه الدهر فإن الله هو الجامع للأسماء المتقابلة وغير المتقابلة وقد قدمنا إنه سبحانه تسمى بكل اسم يفتقر إليه في قوله عز وجل في الكتاب العزيز يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى الله والله هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ وإن أنكر ذلك فما أنكره الله ولا الحال وكذلك من اعتقد أنه الطبيعة فإنه يتجلى له في الطبيعة ومن اعتقد أنه كذا كان ما كان فإنه يتجلى له في صورة اعتقاده وتجري الأحكام كما ذكرنا من غير مزيد فافهم‏

[صراط العزة]

وأما صراط العزة وهو قوله تعالى إِلى‏ صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ فاعلم أن هذا صراط التنزيه فلا يناله ذوقا إلا من نزه نفسه أن يكون ربا أو سيدا من وجه ما أو من كل وجه وهذا عزيز فإن الإنسان يغفل ويسهو وينسى ويقول أنا ويرى لنفسه مرتبة سيادة في وقت غفلته على غيره من العباد فإذ ولا بد من هذا فليجتهد أن يكون عند الموت عبدا محضا ليس فيه شي‏ء من السيادة على أحد من المخلوقين ويرى نفسه فقيرة إلى كل شي‏ء من العالم من حيث إنه عين الحق من خلف حجاب الاسم الذي قال الله فيه لمن لا علم له بالأمر قُلْ سَمُّوهُمْ ولما كان الإنسان فقيرا بالذات احتجب الله له بالأسباب وجعل نظر هذا العبد إليها وهو من ورائها فأثبتها عينا ونفاها حكما مثل قوله تعالى لمحمد صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم وما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ ولكِنَّ الله رَمى‏ ثم أعقب هذه الآية بقوله ولِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً فجعل ذلك بلاء أي اختبارا وهذا الصراط العزيز الذي ليس لمخلوق قدم في العلم به فإنه صراط الله الذي عليه ينزل إلى خلقنا وعليه يكون معنا أينما كنا وعليه نزل من العرش إلى السماء الدنيا وإلى الأرض وهو قوله‏

وهُوَ الله في السَّماواتِ وفي الْأَرْضِ وعليه يقرب من عبده أضعاف ما يتقرب إليه عبده إذا سعى إليه بالطريق التي شرع له فهو يهرول إليه إذا رآه مقبلا ليستقبله تهمما بعبده وإكراما له ولكن على صراط العزة وهو صراط نزول لا عروج لمخلوق فيه ولو كان لمخلوق فيه سلوك ما كان عزيزا وما نزل إلينا إلا بنا فالصفة لنا لا له فنحن عين ذلك الصراط ولذلك نعته بالحميد أي بالحامد المحمود لأن فعيل إذا ورد يطلب اسم الفاعل والمفعول فأما إن يعطي الأمرين معا مثل هذا وإما أن يعطي الأمر الواحد لقرينة حال وقد أثنى على نفسه فهو الحامد المحمود وأعظم ثناء أثنى به على نفسه عندنا كونه خلق آدم على صورته وسماه بأمهات الأسماء التي يدخل كل اسم تحت إحاطتها ولذلك‏

قال صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم أنت كما أثنيت على نفسك‏

فأضاف النفس الكاملة إليه إضافة ملك وتشريف لما

قال من عرف نفسه عرف ربه‏

فكل ثناء أثنى الله به على الإنسان الكامل الذي هو نفسه لكونه أوجده على صورته كان ذلك الثناء عين الثناء على الله بشهادة رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم وتعريفه إيانا في‏

قوله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم أنت كما أثنيت على نفسك‏

أي كل ما أثنيت به على من خلقته على صورتك هو ثناؤك عليك ولما كان الإنسان الكامل صراط العزيز الحميد لم يكن للصراط أن يسلك فيه ولا يتصف الصراط بالسلوك فلهذا سماه بالعزيز أي ذلك ممنوع لنفسه فالحق سبحانه يختص بالنزول فيه كما أخبر عن نفسه من النزول والهرولة والعبد العارف على الحقيقة ما يسلك إلا في الله فالله صراطه وذلك شرعه‏

به رباطي وبنا رباطه *** فهو صراطي وأنا صراطه‏

فانظر مقالي فهو قول صادق *** محكم محقق مناطه‏

فهو حبيبي وأنا به فقد *** حواه قلبي فإنا فسطاطه‏

عز فما تدركه أبصارنا *** لقربه فقد طوى بساطه‏

فبعده لقربه ليس سوى *** هذا وما قد قلته استنباطه‏

فهو على صراط عزيز لأنه الخالق فلا قدم لمخلوق فيه أروني ما ذا خلق الذين من دونه لا يجدونه أصلا لا علما ولا عينا بَلِ الظَّالِمُونَ في ضَلالٍ مُبِينٍ لأنه كل ما علم فقد بان والله تعالى أخرجنا من ظلمة العدم إلى نور الوجود فكنا نورا بإذن ربنا إِلى‏ صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ فنقلنا من النور إلى ظلمة الحيرة ولهذا إذا سمعناه يثني على نفسه فنرى ذلك في نفوسنا وإذا أثنى علينا فنرى ما أثنى به علينا هو ثناؤه على نفسه ثم ميزنا عنه وميز نفسه عنا ب لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ‏ءٌ وبما علم وجهلناه وبما نحن عليه من الذلة ويتعالى عن هذا الوصف في نفسه فنقول نحن هو ما نحن هو بعد ما قلنا إذ أخرجنا من الظلمات إلى النور هو هو ونحن نحن فتميزنا فلما جاء بالثناء بعد وجودنا ثناء منه على نفسه وعلينا وكلفنا بالثناء عليه أوقفنا في الحيرة فإن أثنينا عليه بنا فقد قيدناه وإن أطلقناه كما

قال لا أحصي ثناء عليك‏

فقد قيدناه بالإطلاق فميزناه ومن تقيد فلا يوصف بالغنى فإن التقييد يربطه إذ قد أدرك المحدث إطلاقه تعالى وقد قال عن نفسه إنه غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ فحيرنا فلا ندري ما هو ولا ما نحن فما أظن والله أعلم أنه أمرنا بمعرفته وأحالنا على نفوسنا في تحصيلها إلا لعلمه أنا لا ندرك ولا نعلم حقيقة نفوسنا ونعجز عن معرفتنا بنا فنعلم أنا به أعجز فيكون ذلك معرفة به لا معرفة

وغير هذا فلا يكون *** فإنه ظاهر مبين‏

فاصغ إلى قولنا تجده *** علما وقد جاءك اليقين‏

فالجهل صفة ذاتية للعبد والعالم كله عبد والعلم صفة ذاتية لله فخذ مجموع ما أشرت إليه في هذا تجده الصراط العزيز

[صراط الرب‏]

وأما صراط ربك فقد أشار إليه تعالى بقوله فَمَنْ يُرِدِ الله أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ ومن يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ في السَّماءِ يقول

كأنما يخرج عن طبعه والشي‏ء لا يخرج عن حقيقته كَذلِكَ يَجْعَلُ الله الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ وهذا فأشار إلى ما تقدم ذكره صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً وما ذكر إلا إرادته للشرح والضيق فلا بد منهما في العالم لأنه ما يكون إلا ما يريد وقد وجد ثم وصف نفسه يعني بالغضب والرضاء والتردد والكراهة ثم أوجب فقال ومع الكراهة فلا بد له من لقائي فهذا عين قوله كَأَنَّما يَصَّعَّدُ في السَّماءِ فهو كالجبر في الاختيار فمن ارتفع عنه أحد الوصفين من عباد الله فليس بكامل أصلا ولذا قال في حق الكامل ولَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ فَاصْبِرْ

وهو الصبور على أذى خلقه وسمي هذا الصراط صراط الرب لاستدعائه المربوب وجعله مستقيما فمن خرج عنه فقد انحرف وخرج عن الاستقامة ولهذا شرع لنا الود في الله والبغض في الله وجعل ذلك من العمل المختص له ليس للعبد فيه حظ إلا ما يعطيه الله من الجزاء عليه وهو أن يعادي الله من عادى أولياءه ويوالي من والاهم فالسالك على صراط الرب هو القائم بالصفتين ولكن بالحق المشروع له لله لا لنفسه فإن الله لا يقوم لأحد من عباده إلا لمن قام له ولهذا قال ولا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ وحق الله أحق بالقضاء من حق المخلوق إذا اجتمعا فإنه ليس لمخلوق حق إلا بجعل الله فإذا تعين الحقان في وقت ما بدأ العبد الموفق بقضاء حق الله الذي هو له ثم أخذ في أداء حق المخلوق الذي أوجبه الله وهذا خلاف ما عليه اليوم الفقهاء في الوصية والدين فإن الله تعالى قدم الوصية على الدين والوصية حق الله وقال صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم حق الله أحق أن يقضى‏

فمن سامح في حق الله عاد عليه عمله فيسامح في حقه فإن تكلم قيل له كذلك فعلت فأجن ثمرة غرسك وصراط الرب لا يكون إلا مع التكليف فإذا ارتفع التكليف لم يبق لهذا الصراط عين وجودية ولهذا يكون المال إلى الرحمة وأزاله حكم الغضب الإلهي في العاصين وقول هود عليه السلام إِنَّ رَبِّي عَلى‏ صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ يعني فيما شرع مع كونه تعالى آخذا بنواصي عباده إلى ما أراد وقوعه منهم وعقوبته إياهم مع هذا الجبر فاجعل بالك وتأدب واسلك سواء السبيل‏

[صراط المنعم‏]

وأما صراط المنعم وهو صراط الذين أنعم الله عليهم وهو قوله تعالى شَرَعَ لَكُمْ من الدِّينِ ما وَصَّى به نُوحاً والَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وما وَصَّيْنا به إِبْراهِيمَ ومُوسى‏ وعِيسى‏ وذكر الأنبياء والرسل ثم قال أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى الله فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ وهذا هو الصراط الجامع لكل نبي ورسول وهو إقامة الدين وأن لا يتفرق فيه وأن يجتمع عليه وهو الذي بوب عليه البخاري باب ما جاء أن الأنبياء دينهم واحد وجاء بالألف واللام في الدين للتعريف لأنه كله من عند الله وإن اختلفت بعض أحكامه فالكل مأمور بإقامته والاجتماع عليه وهو المنهاج الذي اتفقوا عليه وما اختلفوا فيه من الأحكام فهو الشرعة التي جعل الله لكل واحد من الرسل قال تعالى لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً ومِنْهاجاً ولَوْ شاءَ الله لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً فلم تختلف شرائعكم كما لم يختلف منها ما أمرتم بالاجتماع فيه وإقامته فلما كان الاختلاف منه وهو أهل العدل والإحسان وكان في الناس الدعوى في نسبة أفعالهم إليهم واختيارهم فيما اختاروه ولم يسندوا الأمر إلى أهله وإلى من يستحقه نزل الحكم الإلهي على الرسل بكون هذا سيئا وهذا حسنا وهذا طاعة وهذا معصية ونزل الحكم الإلهي على العقول بأن هذا في حق من لا يلائم طبعه ومزاجه أو يوافق غرضه حسن وهذا الذي لا يوافق غرضه ولا يلائم طبعه ومزاجه ليس بحسن ولم يسندوا الأمر إلى عين واحدة فجوزوا بما جوزوا لهذا الأمر فعدل فيما حكم به من الجزاء بالسوء وأحسن بعد الحكم ونفوذه بما آل إليه عباده من الرحمة ورفع الأمور الشاقة عليهم وهي الآلام فعمت رحمته كل شي‏ء

[الصراط الخاص وهو صراط النبي ص‏]

وأما الصراط الخاص وهو صراط النبي صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم الذي اختص به دون الجماعة وهو القرآن حبل الله المتين وشرعه الجامع وهو قوله وأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ ولا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ يعني هذا الصراط المضاف إليه وذلك أن محمدا صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم كان نبيا وآدم بين الماء والطين وهو سيد الناس يوم القيامة بإخباره إيانا بالوحي الذي أوحى به إليه وبعثته العامة إشعارا بأن جميع ما تقدمه من الشرائع بالزمان إنما هو من شرعه فنسخ ببعثته منها ما نسخ وأبقى منها ما أبقى كما نسخ ما قد كان أثبته حكما ومن ذلك كونه أوتي جوامع الكلم والعالم كلمات الله فقد آتاه الله الحكم في كلماته وعم وختم به الرسالة والنبوة كما بدأ به باطنا ختم به ظاهرا فله الأمر النبوي من قبل ومن بعد فورثته الذين لهم الاجتهاد في نصب الأحكام بمنزلة الرسل الذين كانوا قبله بالزمان فمن ورث محمدا صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم في جمعيته فكان له من الله تعريف بالحكم وهو مقام أعلى من الاجتهاد وهو أن يعطيه الله بالتعريف الإلهي أن حكم الله الذي جاء به رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم في هذه المسألة هو كذا فيكون في ذلك الحكم بمنزلة من سمعه من رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم وإذا جاءه الحديث عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم رجع إلى الله فيه فيعرف صحة الحديث من سقمه سواء كان الحديث عند أهل النقل من الصحيح أو مما تكلم فيه فإذا عرف فقد أخذ حكمه من الأصل وقد أخبر أبو يزيد بهذا المقام أعني الأخذ عن الله عن نفسه أنه ناله فقال فيما روينا عنه يخاطب علماء زمانه أخذتم علمكم ميتا

عن ميت وأخذنا علمنا عن الحي الذي لا يموت ولنا بحمد الله في هذا المقام ذوق شريف فيما تعبدنا به الشرع من الأحكام وهذا مما بقي لهذه الأمة من الوحي وهو التعريف لا التشريع وأما أهل الاجتهاد فأحكامهم تشريع الشرع إذا أخطئوا فإن رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم هو المقرر لذلك الحكم فما هو تشريع لهم وإنما هو تشريع رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم وإذا أصاب المجتهد فهو صاحب نقل شرع كل ذلك في نفس الأمر فإن المخطئ من المجتهدين والمصيب واحد لا بعينه لكن المصيب في نفس الأمر ناقل والمخطئ في نفس الأمر مقرر حكم مجهول لم يعلم إلا عند نظر هذا المجتهد فهو معلوم عند الله قبل كونه فما قرر الشارع وهو الرسول إلا الحكم المعين المعلوم عند الله وما هو عنده بمعلوم على التفصيل والتعيين فكان حكم المجتهد المخطئ تشريعا للتشريع وأهل الله ما لهم حكم في الشرع إلا ما هو المحكوم به على التعيين عند رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم وهم الورثة على الحقيقة فإن الوارث لا يرث إلا ما كان ملكا للموروث عنه إذا مات عنه وحكم المجتهد المخطئ ما هو ملك له عينه حتى يورث عنه فليس بوارث لأن ما عنده سوى تقرير ما أداه إليه نظره ذلك أباحه له رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم فهو كالعصبة لا نصيب لهم في الميراث على التعيين إنما لهم ما بقي بعد إلحاق الفرائض بأهلها وكتوريث أولي الأرحام والمسلمين بعد أخذ الفرائض فإن مات عن غير صاحب فريضة كرسول ونبي مات وما اتبعه واحد فيحشر مفردا فقد يرثه في خلقه أو في حاله لا في حكمه من هذه الأمة من صادف ذلك الحال أو الحكم وأما الايمان به وقد آمن به كل من آمن بمحمد صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم فأمة محمد صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم المؤمنون به أتباع كل نبي وكل كتاب وكل صحيفة جاء أو نزل من عند الله في الايمان به لا بالعمل بالحكم فما بقي نبي إلا وقد أومن به فالنبي محمد صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم له الإمامة والتقدم وجميع الرسل والأنبياء خلفه في صف ونحن خلف الرسل وخلف محمد ومن الرسل من يكون له صورتان في الحشر صورة معنا وصورة مع الرسل كعيسى وجميع الأمم خلفنا غير إن لنا صورتين صورة في صف الرسل عليه السلام وليست إلا لعلماء هذه الأمة وصورة خلف الرسل من حيث الايمان بهم وكذلك سائر الأمم لهم صورتان صورة يكونون بها خلفنا وصورة يكونون بها خلف رسلهم فوقتا يقع نظر الناظر على صورهم خلفنا ووقتا خلف رسلهم ووقتا على المجموع فهذه أحوال العلماء في الآخرة في حشرهم وأما ورثة الأفعال فهم الذين اتبعوا رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم في كل فعل كان عليه وهيأة مما أبيح لنا اتباعه حتى في عدد نكاحه وفي أكله وشربه وجميع ما ينسب إليه من الأفعال التي أقامه الله فيها من أوراد وتسبيح وصلاة لا ينقص من ذلك فإن زاد عليها بعد تحصيلها فما زاد عليها إلا من حكم قوله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم فهذه وراثة أفعاله وأما وراثة أحواله فهو ذوق ما كان يجده في نفسه في مثل الوحي بالملك فيجد الوارث ذلك في اللمة الملكية ومن الملك الذي يسدده ومن الوجه الخاص الإلهي بارتفاع الوسائط وأن يكون الحق عين قوله وأن يقرأ القرآن منزلا عليه يجد لذة الإنزال ذوقا على قلبه عند قراءته فإن للقرآن عند قراءة كل قارئ في نفسه أو بلسانه تنزلا إلهيا لا بد منه فهو محدث التنزل والإتيان عند قراءة كل قارئ أي قارئ كان غير إن الوارث بالحال يحس بالإنزال ويلتذ به التذاذا خاصا لا يجده إلا أمثاله فذلك صاحب ميراث الحال وقد ذقناه حالا بحمد الله وهو الذي قال فيه أبو يزيد لم أمت حتى استظهرت القرآن وهو وجود لذة الإنزال من الغيب على القلوب وما عدا هؤلاء فإنما يقرءون القرآن من خيالهم فهم يتخيلون صور حروفه المرقومة إن كان حفظ القرآن من المصاحف والألواح أو يتخيلون صور حروف ما تلقونه من معلمهم هذا إذا كانوا عاملين به وأما إذا قرءوه من غير إخلاص فيه فلا يتجاوز حناجرهم أي لا يقبل الله منه شيئا فيبقى في محل تلاوته وهو مخرج الصوت فلا يقرأ القرآن من قلبه إلا صاحب التنزل وهو الذوق الميراثي فمن وجد ذلك فهو صاحبه يعرف ذلك عند وجوده إياه فلا يحتاج فيه إلى معرف فإنه‏

يفرق عند ذلك بين قراءته من خياله وبين قراءته عن تنزيل ربه مشاهدة وما ثم أمر آخر لنبي أو رسول يقع فيه ميراث إنما هو قول أو فعل أو حال فالوارث الكامل من جمع والوارث الناقص من اقتصر على بعض هذه المراتب واعلم أن هذا المنزل هو منزل من اتصف بالخلة من الأنبياء عليه السلام فمن حصل له حصر له نصيب من الخلة الإلهية وضرب له فيها بسهم

والكلام فيها طويل لا يفي الوقت بتفصيله‏

فلنذكر ما فيه من العلوم كسائر المنازل فنقول فيه علم رحمة الخلان والفرق بينها وبين رحمة المحبوبين والأبناء والآباء والمستلذات كلها وفيه علم حلاوة التنزل وأين يحس بها من نفسه من ينزل عليه القرآن جديدا عند تلاوته وفيه علم الأغيار والأسرار والأنوار والهداية وأنواع المحامد والمراتب الخاصة بكل نفس مما لا يقع لأحد معه فيها اشتراك وذلك إنا نعلم أنه لكل نفس صفة أو حقيقة تختص بها وتتميز بها عن كل شي‏ء في العالم لا بد من ذلك فإذا جاءها الأمر الإلهي من طريق تلك الحقيقة الخاصة فإن ذوقه ذلك مقصور عليها وهذا أدنى حظ النفس من مقام العزة الإلهية فإنه لكل نفس وإن لم تشعر به وهو كفعل الأمور الطبيعية بالخاصية كالمغناطيس وأشباهه غير أن الخاصية في الأمور الطبيعية على نوعين بالإفراد وبالمجموع وفي المزاج الخاص فإن الخواص الطبيعية ما تسري في كل مزاج ولا في كل صورة وخاصية أهل الله إذا وقفوا عليها ذوقا من أنفسهم سرى حكمها في كل ما في العالم وفيه علم الملكوت والمشاهدة ورؤية المعدوم في حال عدمه من غير تخيل ولا تمثل ولا بإدراك خيال بل بالبصر الحسي وفيه علم أسباب التحير والحيرة وفيه علم ما يعلم الإنسان إلا ما يعطيه استعداده إذا استعمله أو فجأه لا يقبل فوق ذلك فإنه ليست له قوة القبول وفيه علم الرسل والرسالة وفيه علم إن الإنسان عالم بالذات إلا أنه ينسى فكل علم يحصل له إنما هو تذكر ولا يشعر به أنه تذكر إلا أهل الله وفيه علم البلايا والنعم وفيه علم الفرقان في التعريف بين التقرير والتوبيخ وما يكون على طريق المنة أو المطالبة وفيه علم صفات التنزيه في الأفعال وأن كل طلب في العالم أو من كل طالب إنما هو طلب ذاتي ما ثم طلب عارض لا يكون بالذات هذا لا يكون وإنما يعرض للشخص أمر ما لم يكن عنده فهذا الأمر الذي حصل عنده هو الذي يكون له الطلب الذاتي للمطلوب وانحجب الناس بمن قام به ذلك الأمر العارض وهو الذي يسمونه طالبا وليس الطالب إلا ذلك الأمر فالطلب له ذاتي والشخص الذي قام به هذا الأمر مستخدم له إذ قد كان موجودا وهو فاقد لهذا الطلب فعلمنا أنه طلب مستخدم في أمر ما أوجب عليه هذا الأمر الذي حل به فالطلب ذاتي لذلك الأمر وقد استخدم في تحصيله هذا الشخص الذي نزل به ولا شعور للناس بذلك وفيه علم النظر والتفكر والاعتبار وأن العالم بعضه لبعض عبرة وفيه علم ما يختص به الله من العلوم المتفرقة في العالم وذلك جمعيتها لا يعلم ذلك إلا الله هذا فيما دخل في الوجود منه مع علمه بما لم يدخل في الوجود ولا اتصف بالعلم به مخلوق فله من علم الدنيا علم الجمعية بما أضيف إليه من علم الأخرى ولا بد من ذلك وفيه علم الاستدلال بالمحدث على القديم وما يحصل في النفس من ذلك فإن القديم لا يحصل في النفس وإن حصل المحدث فما هو المطلوب وكل ما حصل محدث وفيه علم ما يكون التوكل فيه شكر الله تعالى وفيه علم من قام به معنى أوجب له اسما يستحقه ومن هنا تعرف أسماء الله الحسنى من أسمائه فإن أسماء الله في الكون عن آثار هذه النفوس وأسماء الكون عن المعاني القائمة به فالحق منزه في أسمائه واحد العين والكون متكثر بأسمائه لقيام المعاني به التي أوجبت له الأسماء وفيه علم أسباب الميراث وفيه علم من ظفر ومن خاب والكل طالب وفيه علم مشاهدة الموت مع كونه نسبة عدمية وفيمن يحكم وأنه لا حكم للموت فيمن لا تركيب فيه وكل مركب بالوضع فإنه يقبل الموت فإن لم يمت فذلك لأمر آخر اقتضته المشيئة الإلهية وقد يجعل له سببا ظاهرا أو معلوما وقد لا يكون إلا حكم عين المشيئة خاصة وفيه علم الحكم على الله بما يقتضيه من حيث ما هو ممكن لا بما هو الله عليه وقد ورد في القرآن من ذلك كثير ولكن لا يعلم معنى ذلك إلا العلماء بما تعطيه حقائق الموجودات والعالمون بماهية الأشياء وفيه علم يوم القيامة والحشر والنشر وما يختص به ذلك اليوم من الحكم ومن هو الحاكم فيه ومراتب المتصرفين فيه وفيه علم الأمر المقتضي في ذلك اليوم ما هو وفيه علم تشبيه الإنسان بالنبات من حيث ما هو شجر لا من حيث ما هو نجم ومن هنا نهى أن يقرب الشجرة آدم فهو تنبيه على نهيه أن يقرب أغراض نفسه وهواها وهو قوله ونَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى‏ وهو إرادة النفس ما لم يشرع لها العمل به أو تركه وفيه علم التمكين والثبات على علم ما تعطيه الحقائق في القول والفعل وفيه علم ما يحمد من التبديل والتلوين وما يذم وفيه علم الإمهال والإهمال المقصود وفيه علم حكمة التسخير الكوني والإلهي وفيه علم أفراد ذات الحق بالألوهة وفيه علم الاقتداء وبمن ينبغي أن يقتدي وفيه علم تقييد الثناء بالحال‏



Please note that some contents are translated from Arabic Semi-Automatically!