الفتوحات المكية - طبعة بولاق الثالثة (القاهرة / الميمنية) |
||
الباب: | فى الذوق |
البرزخ ومنهم من يبقى على سكره في البرزخ إلى البعث [تقدم السكر الطبيعي أو العقلي على السكر الإلهي]واعلم أنه إن تقدم للعبد سكر طبيعي أو عقلي ثم أزالهما أو أحدهما السكر الإلهي فالسكر الإلهي صحو من هذا السكر الذي كان في المحل وإن لم يتقدم لصاحب السكر الإلهي في المحل سكر عقلي ولا طبيعي فليس سكره الإلهي بصحو بل هو حال سكر ورد عليه ومعنى الصحو أنه ينكشف له حق الله في الأمور التي استفادها في حال سكره فيعلم عند صحوه ما ينبغي أن يذاع منها في العموم والخصوص وما ينبغي أن يستر فإن كان قد أذاع منها في حال سكره شيئا فيعطيه الصحو أن يستغفر الله من ذلك وعذره مقبول وإنما يستغفر لأن السكران لا بد أن يبقى فيه من الإحساس ما يكون معه الطرب فلو لم يبق معه إحساس لكان مثل النائم يرتفع عنه القلم أي لا يلزمه الاستغفار وهذا الفرق بين السكران والمجنون وإن كان كل واحد منهما من أهل الإحساس فإن المجنون ارتفع عنه الحكم ولم يرتفع عن السكران ومن حاله الاستغفار مما ظهر منه ما هو مثل حال من لم يقع منه ما يوجب الاستغفار فإن الاستغفار عندنا في طريق الله يكون في مقامين المقام الواحد ما ذكرناه وهو أن يبدو منه ما ينبغي أن يكون مستورا فيجب عليه الاستغفار من ذلك وقد يقع الاستغفار ممن لم يبد منه شيء يوجب الاستغفار فيستغفر من هذا مقامه أي يطلب أن يستره الله في كنف عنايته أن يحكم عليه حال من شأنه إذا لم يستره الله في كنف عنايته أن يبدو منه بحكم ذلك الحال ما ينبغي أن يستر وهذا هو المقام الثاني الذي لأهل الاستغفار فيبتدءون بطلب الستر من الله عن حكم حال يوجب عليهم الاعتذار من وقوعه وهذا هو استغفار الأكابر من الرجال المعصومين ولذلك ما سمع من نبي قط في حال نزول الوحي عليه كلام حتى يسرى عنه فإذا صحا حينئذ يخبر بما يجب ولهذا ما نقل عن نبي قط أنه ندم على ما قاله مما أوحي إليه فيه وأما ما كان عن نظر من غير وارد وحي فقد يمكن أن يرجع عن ذلك ويندم على ما جرى منه في ذلك وقد وقع منه مثل هذا في أسارى بدر وسوق الهدى في حجة الوداع وغير ذلك ولما كان في الصحو انكشاف لمراتب الأمور قدمناه في الفضيلة على السكر أي صاحبه مقبول الحكم لمعرفته بالمواطن وإن كان السكران صاحب حق أ لا ترى الصحو في السماء إذا أصحت أي زال غيمها وانكشفت لتعطي الشمس من حرارتها لما يخرج من الأرض من النبات وتسخين العالم لأن لها أثرا في ذلك كما أعطى الغيم ما في قوته من الرطوبة في الأرض لأجل ذلك النبات فأفاد حال السكر وحال الصحو في الطبيعة فإذا لم تقع فائدة عند السكران في الطريق ولا عند الصاحي منه فما هو من أهل الطريق بل يكون كالصحو الذي معه القحط المسمى صيلما وهو الذي أشرنا إليه في الأبيات في أول هذا الباب فصحو السكر كله أدب وعلم والناس فيه متفاضلون تفاضلهم في السكر فكل سكر له احتكام *** وكل صحو له ثبات [الصاحين إما أن يصحو بربه وإما بنفسه]واعلم أن من الصاحين من يصحو بربه ومنهم من يصحو بنفسه والصاحي بربه لا يخاطب في صحوه إلا ربه ولا يسمع إلا منه فلا يقع له عين إلا على ربه في جميع الموجودات وهو على أحد مقامين إما أن يكون يرى الحق من وراء حجاب الأشياء بطريق الإحاطة مثل قوله والله من وَرائِهِمْ مُحِيطٌ وإما أن يرى الحق عين الأشياء وهنا ينقسم رجال الله على قسمين قسم يرى الحق عين الأشياء في الأحكام والصور وقسم يرى الحق عين الأشياء من حيث ما هو قابل لحكم الصور وأحكامها لا من حيث عين الصور فإن الصور من جملة أحكام الأعيان الثابتة فتختلف أحوال رجال الله في صحوهم بالله وأما من صحا بنفسه فإنه لا يرى إلا أشكاله وأمثاله ويقول لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ خاصة ولا يعطي مقامه ولا حاله أن يتم الآية ذوقا وإن تلاها وهو قوله وهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ وصاحب الذوق الأول يقول وهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ذوقا وتلاوة فيرى صاحب صحو النفس أن الحق في عزلة عنه كما يراه من جعله في قبلته إذا صلى ولا يراه أنه هو المصلي وهذا القدر من الإشارة في معرفة الصحو كاف والصحو والسكر من الألفاظ المحجورة المختصة بالأكوان فافهم والله يَقُولُ الْحَقَّ وهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ «الباب الثامن والأربعون ومائتان في الذوق»لكل مبدأ مجلى في تجليه *** ذوق ينبئ عن معنى تخلية إن التجلي بالأسماء يحكمها *** وذلك الحكم من أعلى توليه إذا تدلى إلى أمر يعن له *** كان الدنو إلينا في تدليه لما تلقاه قلبي في منازله *** كان الترقي به إلى تجليه [أن الذوق أول مبادي التجلي وهو حال يفجأ العبد في قلبه]اعلم أن الذوق عند القوم أول مبادي التجلي وهو حال يفجأ العبد في قلبه فإن أقام نفسين فصاعدا كان شربا وهل بعد هذا الشرب رى أم لا فذوقهم في ذلك مختلف فيه وقد ذكر عن بعضهم أنه شرب فارتوى نقل عنه ذلك ونقل عن أبي يزيد أن الري محال وكل نطق بحاله ولكل صاحب قول وجه عندنا صحيح في الطريق وعندنا في هذه المسألة تفصيل يرد إن شاء الله فيما بعد في باب الشرب أو الري أو في باب عدم الري إن ذكرنيه الله فابحث عليه في آخر هذه الأبواب من هذا الكتاب [أن لكل تجلى مبدأ]اعلم أن قولهم أول مبادئ التجلي إعلام أن لكل تجل مبدأ هو ذوق لذلك التجلي وهذا لا يكون إلا إذا كان التجلي الإلهي في الصور أو في الأسماء الإلهية أو الكونية ليس غير ذلك فإن كان التجلي في المعنى فعين مبدئه عينه ما له بعد المبدأ حكم يستفيده الإنسان بالتدريج كما يستفيد معاني تلك الصورة المتجلي فيها أو معاني الأسماء كلها كل اسم منها فيرى في المبدأ ما لا يراه من ذلك الاسم بعد ذلك وصاحب المعنى مبدأ كل شيء عينه فلا يستفيد منه بعد هذه الإفادة الكلية فله التفصيل في التعبير عن ذلك الأمر الواحد وهو المراد بقولنا في صدر هذا الكتاب حتى بدت للعين سبحة وجهه *** وإلى هلم لم تكن إلا هي فكان مبدؤها عينها وكل ما نأتي به بعد ذلك في جميع كلامنا إنما هو تفصيل لذلك الأمر الكلي تتضمنه تلك النظرة في تلك العين الواحدة وأكثر الناس على خلاف هذا الذوق ولهذا لا ينتظم كلامهم ويطلب الناظر فيه أصلا يرجع إليه جميع أقوالهم فلا يجد وكلامنا مرتبط بعضه بعضه لأنه عين واحدة وهذا تفصيلها ويعرف ما قلناه من يعرف مناسبة آي القرآن في نسق بعضها إلى بعض فيعرف الجامع بين الآيتين وإن كان بينهما بعد ظاهر فذلك صحيح ولكن لا بد من وجه جامع بين الأسين مناسب هو الذي أعطى أن تكون هذه الآية مناسبة لما جاورها من الآيات لأنه نظم إلهي وما رأينا أحدا ذهب إلى النظر في هذا إلا الرماني من النحويين فإن له تفسير للقرآن أخبرني من وقف عليه أنه نحا في القرآن هذا المنحى وما وقفت عليه لكني رأيت بمراكش ببلاد المغرب أبا العباس السبتي صاحب الصدقات يسلك هذا المسلك وفاوضته فيه وكان من أصحاب الموازين [إن الأذواق يختلف باختلاف التجلي]ثم اعلم أن الذوق يختلف باختلاف التجلي فإن كان التجلي في الصور فالذوق خيالي وإن كان في الأسماء الإلهية والكونية فالذوق عقلي فالذوق الخيالي أثره في النفس والذوق العقلي أثره في القلب فيعطي حكم أثر ذوق النفس المجاهدات البدنية من الجوع والعطش وقيام الليل وذكر اللسان والتلاوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله ورمى ما تملكه اليدان كان وحده لا تكون له عائلة ولا شيخ فإن كان بين يدي شيخ معتبر يربيه فيرمي ما بيده بين يدي ذلك الشيخ ويخرج عنه بالكلية ظاهرا وباطنا ولا يبقى له ملكا وإن كره ذاك بباطنه لضعفه أو أدركته فيه مشقة فلا ينظر بإخراج ذلك من يده الالتذاذ بذلك بل إذا أخرجه عن مشقة أخرجه بنظر صحيح ثابت لا يتمكن له في نفسه إزالة ما نواه في ذلك وإذا أخرجه عن يده بلذة فما أخرجه بعقله فإن ارتفعت اللذة يمكن أن يدركه الندم بخلاف الكارة فإنه إذا أخرجه مع الكرة ثم بدا له في نفسه بالعناية الإلهية ما أزال الكرة عنه انتقل إلى حالة الالتذاذ بذلك فهو أثبت في المقام وهكذا كان خروجنا عما بأيدينا ولم يكن لنا شيخ نحكمه في ذلك ولا نرميه بين يديه فحكمنا فيه الوالد رحمه الله لما شاورناه في ذلك فإنا تركنا ما بأيدينا ولم نسند أمره إلى أحد لأنا لم نرجع على يد شيخ ولا كنت رأيت شيخا في الطريق بل خرجت عنه خروج الميت عن أهله وما له فلما شاورنا الوالد وطلب منا الأمر في ذلك حكمناه في ذلك ولم أسأل بعد ذلك ما صنع فيه إلى يومي هذا هذا ما يعطي حكم ذوق النفس ولا بد منه لكل طالب وأصله إتيان أبي بكر بجميع ما يملكه إلى النبي صلى الله عليه وسلم حين قال له ائتني بما عندك وأتاه عمر بشطر ماله فإنه صلى الله عليه وسلم ما حد لهم في ذلك ولو حد لهم في ذلك ما تعدى أحد منهم ما حده له رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما |