الفتوحات المكية - طبعة بولاق الثالثة (القاهرة / الميمنية) |
||
| الباب: | فى معرفة مقام الغنى وأسراره | |
|
وكل طلب فيوذن بمناسبة فإن الحاصل لا يبتغى فلا يكون الطلب إلا في شيء ليس عند الطالب في حال الطلب ولهذا لا يتعلق إلا بالعدم الذي هو عين المعدوم وقد يكون ذلك المطلوب في عين موجودة ولا عين موجودة ما في الكون إلا طالب فما في الكون إلا فقير لما طلب ويتميز الفقر عن سائر الصفات بأمر لا يكون لغيره وهو أنه صفة للمعدوم والموجود وكل صفة وجودية من شرطها أن تقوم بالموجود أ لا ترى الممكن في حال عدمه يفتقر إلى المرجح فإذا وجد افتقر أيضا إلى استمرار الوجود له وحفظه عليه فلا يزال فقيرا ذا فقر في حال وجوده وفي حال عدمه فهو أعم المقامات حكما فالذي يكتسب من هذه الصفة إضافة خاصة وهي الفقر إلى الله لا إلى غيره وبه يثنى عليه وهو الذي يسعده ويقربه إلى الله ويشركه في هذه الإضافة كل وصف جبل عليه الإنسان مثل البخل والحرص والشرة والحسد وغير ذلك تشرف وتعلو بالإضافة والمصرف وتتضع وتسفل بالإضافة والمصرف لا فقر أعظم من فقر الملوك لأنه مفتقر إلى مشاغلي وإلى كل ما يصح له به الملك وهو فقير إلى ملكه الذي يبقى عليه اسم الملك قيل للسلطان صلاح الدين يوسف ابن أيوب رحمه الله سنة إحدى وثمانين وخمسمائة لما ذكر أبو القمح المنجم أن ريحا عظيمة في هذه السنة تكون لا تمر على شيء إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ فأشار عليه بعض جلسائه أن يتخذ في الأرض سربا يكون فيه ليلة هبوب تلك الريح فقال ويهلك الناس قيل له نعم فقال إذا هلك الناس فعلى من أكون ملكا أو سلطانا لا خير في الحياة بعد ذهاب الملك دعني أموت ملكا والله لا فعلت فانظر ما أحسن هذا فكل موجود إضافي متحقق بالفقر وإن لم يشعر بذلك وإن وجده فلا يعلم أن ذلك هو المسمى فقرا وإذا كان حكمه هذا فالفقر إلى الله تعالى الذي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ ثابت وموجود ولذلك الإشارة بقوله تعالى سَنَكْتُبُ ما قالُوا أي سنوجبه أي سيعلمون أن الفقر نعت واجب لا يشكون فيه وجوبا ذاتيا من أجل قولهم ونَحْنُ أَغْنِياءُ لأنهم انحجبوا عما هو الأمر عليه من فقرهم ولذلك كانوا كافرين فستروا ما هم به عالمون ذوقا من أنفسهم لا يقدرون على إنكاره وإن باهتوا فالحال يكذبهم فقالوا نَحْنُ أَغْنِياءُ وليسوا بأغنياء وقالوا إِنَّ الله فَقِيرٌ وليس بفقير من حيث ذاته فإنه غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ وقد تقدم في مواضع من هذا الكتاب معنى قوله فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ وإنه ليس مثل قوله والله هُوَ الْغَنِيُّ ولا مثل قوله والله الْغَنِيُّ وأَنْتُمُ الْفُقَراءُ فإذا علمت إن الفقر بهذه المثابة فالزم استحضاره في كل نفس وعلى كل حال وعلق فقرك بالله مطلقا من غير تعيين فهو أولى بك وإن لم تقدر على تحصيل عدم التعيين فلا أقل إن تعلقه بالله تعالى مع التعيين أوحى الله تعالى إلى موسى يا موسى لا تجعل غيري موضع حاجتك وسلني حتى الملح تلقيه في عجينك هذا تعليم الله نبيه موسى عليه السلام ولقد رأيته سبحانه وتعالى في النوم فقال لي وكلني في أمورك فوكلته فما رأيت إلا عصمة محضة لله الحمد على ذلك جعلنا الله تعالى من الفقراء إليه به فإن الفقر إليه تعالى به هو عين الغني لأنه الغني وأنت به فقير فأنت الغني به عن العالمين فاعلم ذلك (الباب الثالث والستون ومائة في معرفة مقام الغني وأسراره)إن الغني صفة سلبية ولذا *** تمتاز عن نسب الأسماء رتبتها يخصه حكمها والعين في عدم *** منها وليس لها كون فينعتها إن الدلالة في التحقيق مجهلة *** ممن يقول بها والعقل يثبتها لذاك قال غني في تنزله *** عن عالم الكون جاءت فيه آيتها في العنكبوت فدبره تجده على *** ما قلت من نفي ما تعطي دلالتها وليس يعرف إلا من علامته *** دنيا وآخرة والشرع مثبتها [أن الغنى صفة ذاتية لله تعالى]اعلم أيدك الله أن الغني صفة ذاتية للحق تعالى فإن الله لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ أي المثنى عليه بهذه الصفة وأما الغني للعبد فهو غنى النفس بالله عن العالمين قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم ليس الغني عن كثرة العرض لكن الغني غنى النفس خرجه الترمذي والعرض المال وهذه كلمة نبوية صحيحة فإن غنى الإنسان عن العالم لا يصح ويصح غناه عن المال فإن الله سبحانه قد جعل مصالح العبد في استعمال أعيان بعض الأشياء وهي من العالم فلا غنى له عن استعمالها فلا غنى له عن العالم فلذلك خصصه بالمال فلا يوصف بالغنى عن العالم إلا الله تعالى من حيث ذاته جل وتعالى والغني في الإنسان من العالم فليس الإنسان بغني عن الغني فهو فقير إليه [أن الغني والعزة صفتان لا يصح للعبد]واعلم أن الغني وإن كان بالله والعزة وإن كانت بالله فإنهما صفتان لا يصح للعبد أن يدخل بهما على الله تعالى وإن كان بالله فيهما فلا بد أن يتركهما فيدخل فقيرا ذليلا ومعنى الدخول التوجه إلى الله فلا يتوجه إلى الله بغناه به ولا بعزته به وإنما يتوجه إلى الله بذله وافتقاره فإن حضرة الحق لها الغيرة ذاتية فلا تقبل عزيزا ولا غنيا وهذا ذوق لا يقدر أحد على إنكاره من نفسه قال تعالى مؤدبا لنبيه صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم في ظاهر الأمر وهو يؤدبنا به لنتعلم أَمَّا من اسْتَغْنى فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى فكان مشهود محمد صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم الصفة الإلهية وهو الغني فتصدى لها لما تعطيه حقيقتها من الشرف والنبي في ذلك الوقت في حال الفقر في الدعوة إلى الله وأن تعم دعوته وعلم إن الرؤساء والأغنياء تبع الخلق لهم أكثر من تبع من ليس له هذا النعت فإذا أسلم من هذه صفته أسلم لإسلامه خلق كثير والنبي صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم له على مثل هذا حرص عظيم وقد شهد الله تعالى عندنا له بذلك فقال عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ أي عنادكم يعز عليه للحق المبين حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ في إن تسلموا وتنقادوا إلى ما فيه سعادتكم وهو الايمان بالله وما جاء من عند الله ومع هذا الحضور النبوي أوقع العتب عليه تعليما لنا وإيقاظا له فإن الإنسان محل الغفلات وهو فقير بالذات وقد استحق الجاه والمال أن يستغني بهما من قاما به ولذلك قال أَمَّا من اسْتَغْنى وما قال أما من هو غني فإنه على التحقيق ليس بغني بل هو فقير لما استغنى به فقال صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم إن الله أدبني فأحسن أدبي [من مكارم الأخلاق الإقبال على الفقراء والإعراض عن الأغنياء]فمن مكارم الأخلاق الإقبال على الفقراء والإعراض عن الأغنياء بالعرض من جاه أو مال فإذا رىء ممن هذه صفته الفقر والذلة بنزوله عن هاتين المرتبتين وجب على أهل الله الإقبال عليهم فإنهم إن أقبلوا عليهم وهم مستحضرون لما هم عليه من الجاه والمال تخيلوا أن إقبال أهل الله عليهم لجاههم ولمالهم فيزيدون رغبة في بقاء ما هم عليه فلذلك منع الله أهله أن يقبلوا عليهم إلا بصفة الزهد فيهم فإذا اجتمع في مجلس أهل الله من هو فقير ذليل منكسر وغني بماله ذو جاه في الدنيا أظهر القبول والإقبال على الفقير أكثر من إظهاره على الغني ذي الجاه لأنه المقصود بالأدب الذي أدب الله تعالى به نبيه صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم غير إن صاحب هذه الصفة يحتاج إلى ميزان الحق في ذلك فإن غفل عنه كان الخطاء أسرع إليه من كل شيء وصورة الوزن فيه أن لا يرى في نفسه شغفا عليه ولا يخاطبه أعني لا يخاطب هذا الغني ولا ذا الجاه بصفة قهر تذله فإنه لا يذل تحتها بل ينفر ويزيد عظمة وأنت مأمور بالدعوة إلى الله فادعوه كما أمر الله نبيه صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم أن يدعو الناس تعليما له ولنا فإنا مخاطبون بالدعاء إلى الله كما قال أَدْعُوا إِلَى الله عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا ومن اتَّبَعَنِي وقال له ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ والْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ فإن جادلوك ف جادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ وقال لَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا من حَوْلِكَ هذه هي الصفة اللازمة التي ينبغي أن يكون الداعي عليها ولا يجعل في نفسه عند دعائه لمن هذه نعوته من عباد الله طمعا فيما في أيديهم من عرض الدنيا ولا فيما هو عليه من الجاه فإن العزة لله ولِرَسُولِهِ ولِلْمُؤْمِنِينَ فلا تخلعن ثوبا ألبسكه الله وليس له تصرف إلا في هذا الموطن فهذا معنى الحكمة وما عتب الله نبيه صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم في الأول إلا لعزة قامت بنفس أولئك النفر مثل الأقرع بن حابس وغيره فقالوا لو أفرد لنا محمد مجلسا جلسنا إليه فإنا نأنف أن نجالس هؤلاء الأعبد يعنون بذلك بلالا وخبابا وغيرهما فرغب النبي صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم لحرصه على إيمانهم ولعلمه أنه يرجع لرجوعهم إلى الله بشر كثير فأجابهم إلى ما سألوا وتصدى إليهم لما حضروا وأعرض عن الفقراء فانكسرت قلوبهم لذلك فأنزل الله ما أنزل جبرا لقلوب الفقراء فانكسر الباقي من نفوس أولئك الأغنياء الأعزاء وقيل له فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ ولَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ ولكِنَّ الله يَهْدِي من يَشاءُ ونزل الله عليه عَبَسَ وتَوَلَّى الآيات وأنزل عليه واصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ الآيات وفيها وقُلِ الْحَقُّ من رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ ومن شاءَ فَلْيَكْفُرْ ثم ذكر ما للظالمين عند الله في الآخرة فطريقة الإرشاد والدعاء إلى الله ميزانها الغني بالله عما في أيديهم وما يكون بسببهم فإن لم تكن في نفسك بهذه المثابة فلا تدع واشتغل بدعاء نفسك إلى الاتصاف بهذه الصفات المحمودة عند الله ولا تتعد الحد الذي أنت عليه ولا تخط في غير ما تملكه |


