الفتوحات المكية - طبعة بولاق الثالثة (القاهرة / الميمنية) |
||
| الباب: | فى معرفة مقام الخُلُق وأسراره | |
|
الغيب ما أدركناه بالخبر الشرعي أو النظر الفكري مما لا يظهر في الحس عادة [عين البصيرة لإدراك عالم الغيب وعين البصر لإدراك عالم الشهادة]فنقول إن عالم الغيب يدرك بعين البصيرة كما إن عالم الشهادة يدرك بعين البصر وكما أن البصر لا يدرك عالم الشهادة ما عدا الظلمة ما لم يرتفع عنه حجاب الظلم أو ما أشبهه من الموانع فإذا ارتفعت الموانع وانبسطت الأنوار على المحسوسات واجتمع نور البصر والنور المظهر أدرك المبصر بالبصر المبصرات كذلك عين البصيرة حجابه الريون والشهوات وملاحظة الأغيار من العالم الطبيعي الكثيف إلى أمثال هذه الحجب فتحول بينه وبين إدراك الملكوت أعني عالم الغيب فإذا عمد الإنسان إلى مرآة قلبه وجلاها بالذكر وتلاوة القرآن فحصل له من ذلك نور ولله نور منبسط على جميع الموجودات يسمى نور الوجود فإذا اجتمع النوران فكشف المغيبات على ما هي عليه وعلى ما وقعت في الوجود غير أن بينهما لطيفة معنى فذلك أن الحس يحجبه الجدار والبعد المفرط والقرب المفرط وعين البصيرة ليس كذلك لا يحجبه شيء إلا ما ذكرنا من الران والكن وأشباه ذلك إلا أنه أيضا ثم حجابا لطيفا أذكره [النور المنبسط على الحضرات الوجودية وحظ المكاشف منها]وهو أن النور الذي ينبسط من حضرة الجود على عالم الغيب في الحضرات الوجودية لا يعمها كلها ولا ينبسط منه عليها في حق هذا المكاشف إلا على قدر ما يريد الله تعالى وذلك هو مقام الوحي دليلنا على ذلك لأنفسنا ذوقنا له ولغيرنا قوله قُلْ ... ما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي ولا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ مع غاية الصفاء المحمدي وهو قوله أَوْ من وَراءِ حِجابٍ فمهما ظهر ممن حصل في هذا المقام شيء من ذلك على ظاهره في حق شخص ما فتلك الفراسة وهي أعلى درجات المكاشفة وموضعها من كتاب الله إِنَّ في ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ من السمة وهي العلامة كما قلنا ولا يخطئ أبدا بخلاف الفراسة الحكمية [حضرة السمات التي فيها صور بنى آدم وأحوالهم]وثم كشف آخر في الفراسة وذلك أن الله جعل في العالم حضرة السمات فيها صور بنى آدم وأحوالهم في أزمانهم إلى حين انفصالهم وهي مخبوءة عن جميع الخلائق العلوي والسفلي إلا عن القلم واللوح فإذا أراد الله اصطفاء عبد وأن يخصه بهذا المقام طهر قلبه وشرحه وجعل فيه سراجا منيرا من إيمانه خاصة يسرجه من الأسماء الإلهية الاسم المؤمن المهيمن وبيده هذه الحضرة وذلك السراج من حضرة الألوهة يأخذه الاسم المؤمن فإذا استنار القلب بذلك النور الإلهي وانتشر النور في زوايا قلبه مع نور عين البصيرة بحيث يحصل له إدراك المدركات على الكشف والمشاهدة لوجود هذه الأنوار فإذا حصل القلب على ما ذكرناه جعل في ساحة من ساحات هذا القلب تلك الحضرة التي ذكرناها فمن هناك يعرف حركات العالم وأسراره انتهى الجزء الثالث ومائة (الباب التاسع والأربعون ومائة في معرفة مقام الخلق وأسراره)كون التخلق في الإنسان والخلق *** مثل التكحل في العينين والكحل وإن تضاعف فيه أجره فمتى *** ينال مرتبة الأملاك والرسل ذاك الوحيد الذي يحيا الزمان به *** فهو المرتب للاحكام والدول تنحط من عزها غلب الرقاب له *** وهو المثبت للاعراض والعلل [نسبة الأخلاق إلى الله وإلى الإنسان]قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم ما كان الله لينهاكم عن الربا ويأخذه منكم وهو حديث صحيح فأدخل نفسه معنا فيما نهانا عنه في الحكم فالأخلاق كلها نعوت إلهية فكلها مكارم وكلها في جبلة الإنسان ولذلك خوطب بها فإن بعض من لا معرفة له بالحقائق يقول إنها في الإنسان تخلق وفي الحق خلق فهذا من قائله جهل بالأمور إن لم يطلق ذلك مجازا أو بالنظر إلى تقدم وجود الحق على وجود العبد لأنه واجب الوجود لنفسه والإنسان موجود بربه فاستفاد الوجود فاستفاد الخلق منه فإذا راعى هذا الأصل فقال بالتخلق كان صحيح المقصد وإن أراد بالتخلق أن ما هو للحق حقيقة واتصف به العبد إن لم يكن عنده إلا في الوقت الذي اتصف به فسماه لذلك تخلقا لا خلقا وما يكون خلقا إلا ما جبل عليه في أصل نشأته فلا علم له بنشأة الإنسان ولا بإعلام النبي صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم بأن الله خلق آدم على صورته ويلزم هذا القائل أن يكون ما جعله من الصفات حقيقة للعبد ثم رأينا الحق قد اتصف به أن يكون ذلك في الله تخلقا من الله بما هو حق للإنسان وهذا لا يقول به من عنده أدنى شيء من العلم [الأخلاق الإلهية كلها في الجبلة الإنسانية]والصحيح في هذه الأخلاق الإلهية إنها كلها في جبلة الإنسان وتظهر لمن يعرفها في كل إنسان على حد ما تظهر في الجناب الإلهي فإن كل خلق من هذه الأخلاق لا يصح أن تعم المعاملة به جميع الأكوان لا من جانب الحق ولا من جانب الإنسان فهو كريم على الإطلاق وكذلك الإنسان كريم على الإطلاق ومع كون الحق كريما على الإطلاق فمن أسمائه المانع ومن أسمائه الضار ومن أسمائه المذي ويغفر ويعذب من يشاء ويؤتي الملك وينزع الملك وينتقم ويجود وهو مع هذا التقييد في حق قوم دون قوم مطلق الصفة وكذا هي في الإنسان فهي خلق أصلي له لا تخلق ولا يصح أن تعم من الإنسان هذه الأخلاق مع كونها مطلقة في حقه كما لم يصح أن تعم من الله في جميع الخلق مع كونه تعالى مطلق الوصف بها ولا يصح في هذه الصفات الاستعارة إلا مجازا كما قلنا من حيث إنه تعالى كان بهذه الصفات وما كنا فلما كنا كنا بها لا أنا اكتسبناها ولا استعرناها منه فإنها صفة قديمة لله أي نسبة اتصف بها الحق ولا عالم والصفة لا بد لها من موصوف بها فإنها من حقيقتها لأن تقوم بنفسها ويؤدي القول باستعارتها إلى قيامها بنفسها وإلى خلو الحق عنها وإلى أن يكون الحادث محلا لوجود القديم فيه وهذا كله ما لا يقول به أحد من العلماء بالله [العقد الصحيح من غير ترجيح في إطلاق صفات التنزيه والتشبيه]فجميع ما يظهر من الإنسان من مكارم أخلاق وسفساف أخلاق كلها في جبلته وهي له حقيقة لا مجاز ولا معارة كما أنه سبحانه جميع ما سمي به الحق نفسه لا وما وصف به نفسه من صفات الأفعال من خلق وإحياء وإماتة ومنع وعطاء وجعل ومكر وكيد واستهزاء وفصل وقضاء وجميع ما ورد في الكتب المنزلة ونطقت به الرسل من ضحك وفرح وتعجب وتبشبش وقدم ويد ويدين وأيد وأعين وذراع كل ذلك نعت صحيح فإنه كلامه تعالى عن نفسه وكلام رسله عنه وهو الصادق وهم الصادقون بالأدلة العقلية ولكن على حد ما يعلمه وعلى حد ما تقبله ذاته وما يليق بجلاله لا يزد شيئا من ذلك ولا نحيله ولا نكفيه ولا نقول بنسبة ذلك كله إليه كما ننسبه إلينا نعوذ بالله فإننا ننسبه إلينا على حد علمنا بنا فنعرف كيف ننسبه والحق يتعالى أن تعرف ذاته فيتعالى أن يعرف كيف ننسب إليه ما نسبه إلى نفسه ومن رد شيئا أثبته الحق لنفسه في كتابه أو على لسان رسوله فقد كفر بما جاء به من عند الله وبمن جاء به وبالله ومن آمن ببعض ذلك ورد بعضه فقد كفر حقا ومن آمن بذلك وشبهه في نسبة ذلك إليه تعالى مثل نسبتها إلينا أوتوهم ذلك أو خطر على باله أو تصوره أو جعل ذلك ممكنا فقد جهل وما كفر هذا هو العقد الصحيح من غير ترجيح [الأسماء التي تطلق على العبد فقط لا على الجناب الإلهي]غير أن ثم أسماء تطلق على العبد ولا تطلق على الجناب الإلهي وإن كان المعنى يشمل ذلك كالبخيل يطلق على العبد ولا يطلق على الحق وهو منع ومن أسمائه المانع ومن بخل فقد منع هذا هو الحق غير أنا نلتمس له وجها وهو أن نقول كل بخل منع وما كل منع بخل فمن منع المستحق حقه فقد بخل والحق قرر قول موسى أن الله أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ فما بخل عليك من أعطاك خلقك ووفاك حقك فمنع ما لا يستحقه الخلق ليس بمنع بخل فبهذا القدر نجعل التفرقة بين المنعين وكذلك اسم الكاذب مما اختص به العبد ولا ينبغي أن يطلق على الحق فهو الصادق بكل وجه كما أن العبد صادق وكاذب وصادق أيضا بكل وجه ولكن نسبة الصدق إلى العبد بكل وجه معروف عندنا لعلمنا بنا ونسبتها إلى الحق مجهولة لنا فهو الصادق كما ينبغي أن يضاف إليه الصدق وقال تعالى الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى وقال ينزل ربنا إلى السماء الدنيا كل ليلة فقيد نزوله بالزمان والتقييد بالزمان تقييد بالانتقال وكل ذلك مجهول النسبة ثابت الحكم متوجه كما ينبغي لجلاله وكذلك الاسم الجاهل من أسماء الكون ولا يليق بالجناب الإلهي فالإله عالم من حيث إنه موصوف بالعلم والعبد عالم من حيث إنه موصوف بالعلم وجاهل من حيث خصوص تعلق علمه ببعض الأشياء دون بعض والحق مطلق العلم عام التعلق وقد قال تعالى ونَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ من حَبْلِ الْوَرِيدِ فحدد خلاف المعقول وأشارت السوداء إن الله في السماء حين قال لها رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم أين الله وأثبت لها الايمان في إشارتها وهذا خلاف دليل العقل فقد عرف من الله ما لم نعرف ومع هذا فنقول إن الله هو العالم بنفسه وهو الصحيح فما من اسم تسمى العبد به ولم يتسم الحق به وكان في الخلق نعت نقص وسفساف خلق إلا والعقل والحق قد منع أن يطلق على الله ذلك الاسم أو ينسب إليه ذلك الخلق ومع هذا فإنه يخبر بأمور وفصول تقابل أدلة العقول فهو الفعال لما يشاء والجاعل في خلقه ما يشاء لا احتكام عليه وهو الحاكم لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وهُمْ يُسْئَلُونَ وقد نبهناك على أمر جليل وعلم عظيم وسر غامض خفي لا يعلمه إلا الله ومن أعلمه من المخلوقين أحاله عقل وورد به نقل وبعد عنه فهم وقبله فهم [حقيقة معرفة النفس وحقيقة معرفة الرب]فإن تدبرت فصول هذا الباب وقفت على لباب المعرفة الإلهية وتحققت قوله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم من عرف نفسه عرف ربه وقد أوجدتك أنك محل لكل صفة محمودة ومذمومة ثم أعلمتك معنى الحمد والذم وحددتك وأطلقتك ذلك لتعلم أنك العالم الذي لا يعلم وهو سبحانه العالم الذي يعلم ولا يعلم فلا يعلم ما هو العبد عليه وأعني بالعبد العالم كله والإنسان إلا الله تعالى هو يعلمه ثم أعلم بعض عبيده فمنا من علم نفسه ومنا من جهل نفسه ومنا من تخيل أنه علم نفسه ومنا من علم من نفسه بعض ما هو عليه في نفسه وبذلك القدر ينسب إليه أنه علم من ربه فإنه من عرف نفسه عرف ربه وكما لا يجتمع الدليل والمدلول لا تجتمع أنت وهو في حد ولا حقيقة فإنه الخالق وأنت المخلوق وإن كنت خالقا وهو المالك وأنت المملوك وإن كنت مالكا فلا يحجبنك الاشتراك في الأخلاق فإنك المخلوق وهو الخلاق [مقام الخلق والتخلق والتحقق بالخلق الإلهي]فهذا مقام الخلق قد أبنته وما عدا هذا مما تشير إليه الصوفية من التخلق فهو تلفيق من الكلام وقولهم في التخلق بالأسماء كذلك ونحن قد أطلقنا مثل ما أطلقوه ولكن عن علم محقق وإطلاق مطلق بأدب إلهي عن تحقق فهو في الحقيقة خلق لا تخلق كما أفهمتك وأكثر من هذا الإيضاح والبيان الذي يطلبه هذا المقام فلا يكون فإنا ما تعدينا فيه حدود الله في عبارتنا ولا ذكرنا شيئا ما نسبه إلى نفسه فما خرجنا عن كلامه وما أنزله على الصادقين من عباده وهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ بل هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ فهو العليم ولا عالم وهو الحكيم في ترتيب العالم فالعالم والعليم أعم والحكيم تعلق خاص للعلم فهذا هو التحقق بالخلق الإلهي [الأخلاق التي يحتاج إلى معرفتها أهل السلوك]وأما الأخلاق التي تحتاج إلى معرفتها أهل السلوك وكلنا سالك إذ لا تصح نهاية فهو أن نقول إن العرف والشرع قد وردا بمكارم الأخلاق وسفساف الأخلاق وأمرنا بإتيان مكارمها واجتناب سفسافها ثم إن الشرع قد نبه على أنها على قسمين من الأخلاق ما يكون في جبلة الإنسان كما قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم للاشج أشج عبد القيس إن فيك لخصلتين يحبهما الله ورسوله الحلم والأناة وفي لفظ آخر لغير مسلم فقال الرجل يا رسول الله أ شيء جبلت عليه قال نعم قال الحمد لله الذي جبلني عليهما أو كما قال ومنها مكتسبة فالمكتسب هو الذي يعبر عنه بالتخلق وهو التشبه بمن هي فيه هذه الأخلاق الكريمة جبلية في أصل خلقه ولا شك أن استعمال مكارم الأخلاق صعب لملاقاة الضد في استعمالها في الكون فإن الغرضين والإرادتين من الشخصين إذا تعارضتا وطلب كل واحد منهما منك أن تصرف معه كريم خلق بقضاء غرضه ولا يتمكن لك الجمع بينهما فمهما أرضيت الواحد أسخطت الآخر وإذا تعذر الجمع واستحال تعميم الرضي وتصريف الخلق الكريم مع كل واحد منهما تعين على الإنسان أن يخرج عن نفسه في ذلك ويجعل الحكم فيه للشرع فيتخذه لهذا الباب ميزانا وإماما [الميزان والإمام للسير وفي السير إلى الإمام]فاجعل إمامك ما يرضي الله وفيما يرضي الله ولتصرف خلقك الكريم مع الله خاصة فهو الصاحب والخليفة وهو أولى أن يعامل بمكارم الأخلاق فما قدمه الله قدمه فإن ذلك التقديم هو تصريف الحق لذلك الخلق مع ذلك العبد وفي ذلك المحل فتصريف خلقك مع الله أولى من تصريفه مع الكون بل هو واجب لا أولى فإن جميع الخلق من الملائكة والرسل والمؤمنين يحمدونك على ذلك الفعل والخلق الذي عاملت به ذلك الشخص الذي قدمه الحق وأوجب عليك أن تعامله به وما يذمك فيه إلا صاحب ذلك الغرض إذا لم يكن مؤمنا ومراعاة الأصل أولى وإذا لم تتخلق بمكارم الأخلاق على ما رسمته لك لم يصح لك هذا المقام ويذمك فيه كل مخلوق أ لا ترى شاهد الزور فإنه أول من يتجرح عنده ولا يعتقد فيه ويذمه في باطنه من شهد له وقد أسخط الله وملائكته ورسله والمؤمنين وليست مكارم الأخلاق إلا ما يتعلق منها بمعاملة غيرك لا غير وما عدا ذلك فلا يسمى مكارم خلق وإنما هي نعوت يتخلق بها لتصحيح الصورة أو النسبة لا غير هذا هو ربط هذا الباب في السالكين والمخلصين سعادة الأبد وتفاصيل تصاريف الأخلاق مع الموجودات تكثر لو بيناها وكيفياتها لم يحصرها كتاب وبعد أن أعطيناك أصلا فيها تعتمد عليه فاعمل به وهو أن تنظر إلى حكم الشرع في كل حركة منك في حق كل موجود فتعامله بما قال لك الشارع عامله به على الوجوب أو الندب ولا تتعداه تكن في ذلك محمود النقيبة مأمونا معظما عند الله صاحب نور إلهي (نكتة) فإن كنت فعالا بالهمة أرضيت جميع الموجودات عنك إذ كان لك |


