The Meccan Revelations: al-Futuhat al-Makkiyya

المواقف في بعض إشارات القرآن إلى الأسرار والمعارف

للأمير عبد القادر الحسني الجزائري

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


212. الموقف الثاني عشر بعد المائتين

قال تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾[البقرة:2/ 30].

كل كلام وقفنا عليه لمتكلم على هذه الآية، إنما يجعل قول الملائكة هذ قدحاً في آدم وبنيه، والذي ورد به علينا الوارد الإلهي غير هذا. وهو أنهم عليهم الصلاة والسلام علموا أن نوع الخليفة، لا الخليفة يقع من بعضهم ما ذكروه من الفساد وسفك الدماء، وأما الخليفة آدم ومن ورث الخلافة من بنيه فمحال أن يقولو فيه ذلك، بعد أن أعلمهم الحق تعالى بقوله: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً﴾[البقرة:2/ 30].

فإنه لا يخفى عن عاقل أن الملك لا يجعل خليفة إلاَّ من علم أنه على غاية من الكمال والطاعة، وعلم الحق تعالى لا يتخلف، فقولهم: "أتجعل فيها" استفهام واستعلام، لما جهلوه من الحكمة في جعل الخلافة في جنس بني آدم، وبعضهم على ما ذكروه دون جنس الملك. وهم على ما ذكروه، فقالوا ومستفهمين عن الحكمة، في كون الخليفة من الجنس الذي منه مؤمن وكافر، ومطيع وعاص، وعالم وجاهل، دون الجنس الذي هو خير محض كله، ونور صرف وطاعة لا تشوبها معصية، وكان اختلج في عقولهم الميل إلى أن الحكمة تقتضي أن يكون الخليفة من الجنس الملكي، غيره على الجناب الإلهي في قصدهم، فأعلمهم الحق تعالى بجهلهم فيما مالت إليه عقولهم، قبل ظهور وجه الحكمة، بقوله: ﴿وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ﴾[البقرة2/33].

وأزال جهلهم فيما استعلموه، وبيّن لهم أن الحكمة تقتضي كون الخليفة من جنس الآدمي لا الملك، فإنه الكون الجامع للحقائق الإلهية والكونية، المختص بالصورة الرحمانية، وأقام لهم البرهان بتعليمه الأسماء التي جهلتها الملائكة، فما سبّحو الحق تعالى بها، ولا نزّهوه، ولكون نشأة الملك لا تقتضيها، لا غير، وأمّا آدم وبنوه الخلفاء فنشأتهم تقتضي تعلق الأسماء كلّها، لخلقها باليدين، وجمعه للصورتين، الصورة الإلهية من حيث الباطن، والصورة الكونيّة من حيث الظاهر، وليست هذه الجمعية لجنس الملك، فلهذا كان الخليفة الأول آدم، ومن ورث الخلافة من بنيه يظهر بجميع الأسماء الكونية والإلهية، فليس قوله: "أتجعل فيها" الخ،  استفهاماً إنكارياً. فإنه لو كان كذلك لكان هن بمعنى النهي، وهو إنما يكون ممّن يجوز له أن ينهي من يجوز نهيه، وهذا محال أن يتصوّر من الملائكة للحق تعالى وهم الأدباء الأمناء الأبرياء، كيف؟ و الحق تعالى يقول في حقهم: ﴿ وَمَنْ عِندَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ﴾[الأنبياء: 21/ 20].

ويقول: ﴿إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ﴾[الأعراف: 7/ 206].

فانظر إلى هذه العنديّة، وشرفها، ما يقتضيه نظم هاتين الآيتين من التشريف و التعظيم، إنْ كنت من أهل الذوق العربي الظاهري، فأحرى إذا كنت من أهل الظاهري والباطني، ويقول: ﴿وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ * يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾[النحل: 16/ 49- 50].

ويقول: ﴿ وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ{26} لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ{27}﴾[الأنبياء : 21/ 26-27].

ويقول: ﴿لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَ يُؤْمَرُونَ﴾[التحريم: 66/6].

ويقول: ﴿بِأَيْدِي سَفَرَةٍ{15} كِرَامٍ بَرَرَةٍ{16}﴾[عبس: 80/ 15- 16].

إلى غير ذلك. فبعد تزكية الله تعالى لهم، وتبرئتهم من كل عيب ونقص، ووصفهم بكل كمال هل يسوغ أن تحمل الآية على ضدّ ذلك؟! إلاَّ أن يكون المراد بالملائكة ، على ما نقله الشعراني عن الخوّاص رضي الله عنهما ملائكة الأرض، وهم غير معصومين، فحينئذٍ يسهل الخطب. ولكن الجمهور من أهل الظاهر والباطن على خلاف هذا، والله أعلم.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية



Please note that some contents are translated from Arabic Semi-Automatically!