﴿أَشُدَّهُ وَ اسْتَوىٰ﴾ [القصص:14] ثم آتاه حكما و علمه ثم أعطاه قلبا زكيا و سمعا دقيقا و بصرا حادا و ذوقا لذيدا و شما طيبا و لمسا لينا و لسانا ناطقا و عقلا صحيحا و فهما جيدا و ذهنا صافيا و تمييزا و فكرا و روية و إرادة و مشيئة و اختيارا و جوارح طائعة و يدين صانعتين و رجلين ساعتين ثم علمه الفصاحة و البيان و الخط بالقلم و الصنائع و الحرف و الحرث و الزراعة و البيع و الشراء و التصرف في المعاش و طلب وجوه المنافع و اتخاذ البنيان و طلب العز و السلطان و الأمر و النهي و الرئاسة و التدبير و السياسة و سخر له ما في الأرض جميعا من الحيوان و النبات و خواص المعادن فعدا متحكما عليها تحكم الأرباب متصرفا فيها تصرف الملاك متمتعا بها إلى حين ثم إن اللّٰه جل ثناؤه أراد أن يزيده من فضله و إحسانه و جوده و إنعامه فنا آخر هو أشرف و أجل من هذا الذي تقدم ذكره و هو ما أكرم به ملائكته و خالص عباده و أهل جنته من النعيم الأبدي الذي لا يشوبه شيء من النقص و لا من التنغيص إذ كان نعيم الدنيا مشوبا بالبؤس و لذاتها بالآلام و سرورها بالحزن و فرحها بالغم و راحتها بالتعب و عزها بالذل و صفوها بالكدر و غناها بالفقر و صحتها بالسقم أهلها فيها معذبون في صورة المنعمين و مغرورون في صورة الواثقين مهانون في صورة المكرمين وجلون غير مطمئنين خائفون غير آمنين مترددون بين المتضادين نور و ظلمة و ليل و نهار و صيف و شتاء و حر و برد و رطب و يابس و عطش و رى و جوع و شبع و نوم و يقظة و راحة و تعب و شباب و هرم و قوة و ضعف و حياة و موت و ما شاكل هذه الأمور التي أهل الدنيا و أبناؤها فيها مترددون مدفوعون إليها متحيرون فيها فأراد ربي أيها الراهب أن يخلصهم من هذه الأمور و الآلام المشوبة باللذات و ينقلهم منها إلى نعيم لا بؤس فيه و لذة لا ألم فيها و سرور بلا حزن و فرح بلا غم و عز بلا ذل و كرامة بلا هوان و راحة بلا تعب و صفو بلا كدر و أمن بلا خوف و غنى بلا فقر و صحة بلا سقم و حياة بلا موت و شباب بلا هرم و مودة بين أهلها بلا ريبة فهم في نور لا يشوبه ظلمة و يقظة بلا نوم و ذكر بلا غفلة و علم بلا جهالة و صداقة بين أهلها بلا عداوة و لا حسد و لا غيبة ﴿إِخْوٰاناً عَلىٰ سُرُرٍ مُتَقٰابِلِينَ﴾ [الحجر:47] آمنين مطمئنين أبد الآبدين و لما لم يمكن الإنسان أن يكون بهذا المزاج المظلم الخاص الذي هو محل القذورات المتولد من الأركان التي لا نليق بتلك الدار الآخرة و الصفات الصافية و الأحوال الباقية اقتضت العناية الإلهية بواجب حكمة الباري تعالى أن ينشئه نشأة أخرى كما ذكر في قوله تعالى
هذه نسخة نصية حديثة موزعة بشكل تقريبي وفق ترتيب صفحات مخطوطة قونية