المكتبة الأكبرية: القرآن الكريم: سورة المائدة: [الآية 4]
![]() |
![]() |
![]() |
سورة المائدة | ||
![]() |
![]() |
![]() |
تفسير الجلالين:
تفسير الشيخ محي الدين:
قالَ اللَّهُ هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119 « (
قالَ اللَّهُ هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ» فلا يؤثر فيهم عوارض يوم القيامة ، بل تخاف الناس ولا يخافون ، وتحزن الناس ولا يحزنون . . .
[ «رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ» ] «رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ» فالرضى منا ومنه - الوجه الأول - رضي اللّه عنهم : بما أعطوه من بذل المجهود ، وغير بذل المجهود «وَرَضُوا عَنْهُ» بما أعطاهم مما يقتضي الوجود الجود أكثر من ذلك ، لكن العلم والحكمة غالبة - الوجه الثاني - «رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ» : بما أعطاه العبد من نفسه رضي اللّه به ، ورضي عنه فيه وإن لم يبذل استطاعته ، فرضي اللّه منك إذا أعطيت ما كلفك حد الاستطاعة التي لا حرج عليك فيها «وَرَضُوا عَنْهُ» رضي العبد من اللّه بالذي أعطاه من حال الدنيا ورضي عن اللّه في ذلك ، فإن متعلق الرضى القليل ، فإن الإنعام لا يتناهى بالبرهان الواضح والدليل ، فلا بد من الرضى ، بذا حكم الدليل وقضى ، وبهذا المعنى رضاه سبحانه عنك ، بما أعطيته منك ، وهو يعلم أن الاستطاعة فوق ما أعطيته - الوجه الثالث - «رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ» في يسير العمل «وَرَضُوا عَنْهُ» في يسير الثواب ، لأنه لا يتمكن تحصيل ما لا يتناهى في الوجود ، لأنه لا يتناهى ، فإن كل ما أعطاك الحق في الدنيا والآخرة من الخير والنعم فهو قليل بالنسبة إلى ما عنده ، فإن الذي عنده لا نهاية له ، وكل ما حصل لك من ذلك فهو قليل بالنسبة إلى ما عنده ، فإن الذي عنده لا نهاية له ، وكل ما حصل لك من ذلك فهو متناه بحصوله ، وما قدم اللّه رضاه عن عبيده ، بما قبله من اليسير من أعمالهم التي كلفهم إلا ليرضوا عنه في يسير الثواب ، لما علموا أن عنده ما هو أكثر من الذي وصل إليهم . - الوجه الرابع - أخبرهم في التوقيع أنه عنهم راض تعالى وتقدس جلاله ، ثم أنه ناب عنهم في الخطاب بأنهم عنه راضون ، فقال تعالى : «رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ» .
وهنا نكتة لمن فهم ما تدل عليه ألفاظ القرآن من الرضى فقطع عليهم بذلك لعلمه بأنه واقع
منهم[ تحقيق الرضا ]
- تحقيق الرضا - اعلم أن اللّه تعالى قد أمرنا بالرضا قبل القضاء مطلقا ، فعلمنا أنه يريد الإجمال ، فإنه إذا فصّله حال المقضي عليه بالمقضى به انقسم إلى ما يجوز الرضا به وإلى ما لا يجوز ، فلما أطلق الرضا علمنا أنه أراد الإجمال ، والقدر توقيت الحكم ، فكل شيء بقضاء وقدر ، أي بحكم مؤقت ، فمن حيث التوقيت المطلق يجب الإيمان بالقدر خيره وشره ، حلوه ومره ، ومن حيث التعيين يجب الإيمان به لا الرضا ببعضه ، وإنما قلنا : يجب الإيمان به أنه شر كما يجب الإيمان بالخير أنه خير ، فنقول : إنه يجب علي الإيمان بالشر أنه شر ، وأنه ليس إلى اللّه من كونه شرا ، لا من كونه عين وجود إن كان الشر أمرا وجوديا ، فمن حيث وجوده أي وجود عينه هو إلى اللّه ، ومن كونه شرا ليس إلى اللّه ، قال صلّى اللّه عليه وسلم في دعائه : والشر ليس إليك ، فالمؤمن ينفي عن الحق ما نفاه عن نفسه .
------------
(119) الفتوحات ج 2 / 222 - ج 4 / 351 ، 432 - ج 2 / 212 - ج 4 / 351 - ج 2 / 212 - ج 4 / 27 ، 18 - ج 2 / 212تفسير ابن كثير:
لما ذكر تعالى ما حرمه في الآية المتقدمة من الخبائث الضارة لمتناولها ، إما في بدنه ، أو في دينه ، أو فيهما ، واستثنى ما استثناه في حالة الضرورة ، كما قال : ( وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه ) [ الأنعام : 119 ] قال بعدها : ( يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات ) كما [ قال ] في سورة الأعراف في صفة محمد صلى الله عليه وسلم : أنه ( يحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ) [ الآية : 157 ] .
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زرعة ، حدثنا يحيى بن عبد الله بن بكير ، حدثني عبد الله بن لهيعة ، حدثني عطاء بن دينار ، عن سعيد بن جبير ، عن عدي بن حاتم وزيد بن المهلهل الطائيين سألا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالا : يا رسول الله ، قد حرم الله الميتة ، فماذا يحل لنا منها ؟ فنزلت : ( يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات ) قال سعيد [ بن جبير ] يعني : الذبائح الحلال الطيبة لهم . وقال مقاتل [ بن حيان ] [ في قوله : ( قل أحل لكم الطيبات ) ] فالطيبات ما أحل لهم من كل شيء أن يصيبوه وهو الحلال من الرزق . وقد سئل الزهري عن شرب البول للتداوي فقال : ليس هو من الطيبات .
رواه ابن أبي حاتم وقال ابن وهب : سئل مالك عن بيع الطين الذي يأكله الناس . فقال : ليس هو من الطيبات .
وقوله تعالى : ( وما علمتم من الجوارح مكلبين ) أي : أحل لكم الذبائح التي ذكر اسم الله عليها والطيبات من الرزق ، وأحل لكم ما اصطدتموه بالجوارح ، وهي من الكلاب والفهود والصقور وأشباه ذلك ، كما هو مذهب الجمهور من الصحابة والتابعين والأئمة ، وممن قال ذلك : علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله : ( وما علمتم من الجوارح مكلبين ) وهن الكلاب المعلمة ، والبازي ، وكل طير يعلم للصيد . والجوارح : يعني الكلاب الضواري والفهود والصقور وأشباهها .
رواه ابن أبى حاتم ، ثم قال : وروي عن خيثمة وطاوس ومجاهد ومكحول ويحيى بن أبي كثير ، نحو ذلك . وروي عن الحسن أنه قال : الباز والصقر من الجوارح . وروي عن علي بن الحسين مثله . ثم روي عن مجاهد أنه كره صيد الطير كله ، وقرأ قول الله [ عز وجل ] ( وما علمتم من الجوارح مكلبين ) قال : وروي عن سعيد بن جبير نحو ذلك .
ونقله ابن جرير عن الضحاك والسدي ، ثم قال : حدثنا هناد حدثنا ابن أبي زائدة ، أخبرنا ابن جريج ، عن نافع عن ابن عمر قال : أما ما صاد من الطير البزاة وغيرها من الطير ، فما أدركت فهو لك ، وإلا فلا تطعمه .
قلت : والمحكي عن الجمهور أن صيد الطيور كصيد الكلاب ; لأنها تكلب الصيد بمخالبها كما تكلبه الكلاب ، فلا فرق . وهذا مذهب الأئمة الأربعة وغيرهم ، واختاره ابن جرير ، واحتج في ذلك بما رواه عن هناد حدثنا عيسى بن يونس ، عن مجالد عن الشعبي عن عدي بن حاتم قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيد البازي ، فقال : " ما أمسك عليك فكل " .
واستثنى الإمام أحمد صيد الكلب الأسود ; لأنه عنده مما يجب قتله ولا يحل اقتناؤه ; لما ثبت في صحيح مسلم عن أبي ذر ; أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " يقطع الصلاة الحمار والمرأة والكلب الأسود " فقلت : ما بال الكلب الأسود من الأحمر ؟ فقال : " الكلب الأسود شيطان " وفي الحديث الآخر : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الكلاب ، ثم قال : " ما بالهم وبال الكلاب ، اقتلوا منها كل أسود بهيم " .
وسميت هذه الحيوانات التي يصطاد بهن : جوارح ، من الجرح ، وهو : الكسب . كما تقول العرب : فلان جرح أهله خيرا ، أي : كسبهم خيرا . ويقولون : فلان لا جارح له ، أي : لا كاسب له ، وقال الله تعالى : ( وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار ) [ الأنعام : 60 ] أي : ما كسبتم من خير وشر .
وقد ذكر في سبب نزول هذه الآية الكريمة الحديث الذي رواه ابن أبي حاتم : حدثنا حجاج بن حمزة ، حدثنا زيد بن الحباب ، حدثني موسى بن عبيدة ، حدثني أبان بن صالح ، عن القعقاع بن حكيم ، عن سلمى أم رافع ، عن أبي رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ; أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الكلاب ، فقتلت ، فجاء الناس فقالوا : يا رسول الله ، ما يحل لنا من هذه الأمة التي أمرت بقتلها؟ قال : فسكت ، فأنزل الله : ( يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح مكلبين ) الآية . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا أرسل الرجل كلبه وسمى ، فأمسك عليه ، فليأكل ما لم يأكل " .
وهكذا رواه ابن جرير ، عن أبي كريب ، عن زيد بن الحباب بإسناده ، عن أبي رافع قال : جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليستأذن عليه ، فأذن له فقال : قد أذنا لك يا رسول الله . قال : أجل ، ولكنا لا ندخل بيتا فيه كلب ، قال أبو رافع : فأمرني أن أقتل كل كلب بالمدينة ، فقتلت ، حتى انتهيت إلى امرأة عندها كلب ينبح عليها ، فتركته رحمة لها ، ثم جئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته فأمرني ، فرجعت إلى الكلب فقتلته ، فجاءوا فقالوا : يا رسول الله ، ما يحل لنا من هذه الأمة التي أمرت بقتلها؟ قال : فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : فأنزل الله عز وجل : ( يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح مكلبين )
ورواه الحاكم في مستدركه من طريق محمد بن إسحاق ، عن أبان بن صالح به . وقال : صحيح ولم يخرجاه .
وقال ابن جرير : حدثنا القاسم حدثنا الحسين حدثنا حجاج عن ابن جريج ، عن عكرمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبا رافع في قتل الكلاب ، حتى بلغ العوالي فدخل عاصم بن عدي وسعد بن خيثمة وعويم بن ساعدة ، فقالوا : ماذا أحل لنا يا رسول الله؟ فنزلت : ( يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح مكلبين ) [ الآية ]
ورواه الحاكم من طريق سماك عن عكرمة وهكذا قال محمد بن كعب القرظي في سبب نزول هذه الآية : إنه في قتل الكلاب .
وقوله تعالى : ( مكلبين ) يحتمل أن يكون حالا من الضمير في ( علمتم ) فيكون حالا من الفاعل ، ويحتمل أن يكون حالا من المفعول وهو ( الجوارح ) أي : وما علمتم من الجوارح في حال كونهن مكلبات للصيد ، وذلك أن تقتنصه [ الجوارح ] بمخالبها أو أظفارها ، فيستدل بذلك - والحالة هذه - على أن الجارحة إذا قتل الصيد بصدمته أو بمخلابه وظفره أنه لا يحل ، كما هو أحد قولي الشافعي وطائفة من العلماء ; ولهذا قال : ( تعلمونهن مما علمكم الله ) وهو أنه إذا أرسله استرسل ، وإذا أشلاه استشلى وإذا أخذ الصيد أمسكه على صاحبه حتى يجيء إليه ولا يمسكه لنفسه ; ولهذا قال تعالى : ( فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه ) فمتى كان الجارحة معلما وأمسك على صاحبه ، وكان قد ذكر اسم الله عند إرساله حل الصيد ، وإن قتله بالإجماع .
وقد وردت السنة بمثل ما دلت عليه هذه الآية الكريمة ، كما ثبت في الصحيحين عن عدي بن حاتم قال : قلت : يا رسول الله ، إني أرسل الكلاب المعلمة وأذكر اسم الله . فقال : " إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله ، فكل ما أمسك عليك " . قلت : وإن قتلن؟ قال : " وإن قتلن ما لم يشركها كلب ليس منها ، فإنك إنما سميت على كلبك ولم تسم على غيره " . قلت له : فإني أرمي بالمعراض الصيد فأصيب؟ فقال : " إذا رميت بالمعراض فخزق فكله ، وإن أصابه بعرض فإنه وقيذ ، فلا تأكله " . وفي لفظ لهما : " إذا أرسلت كلبك فاذكر اسم الله ، فإن أمسك عليك فأدركته حيا فاذبحه ، وإن أدركته قد قتل ولم يأكل منه فكله ، فإن أخذ الكلب ذكاته " . وفي رواية لهما : " فإن أكل فلا تأكل ، فإني أخاف أن يكون أمسك على نفسه " فهذا دليل للجمهور وهو الصحيح من مذهب الشافعي وهو أنه إذا أكل الكلب من الصيد يحرم مطلقا ، ولم يستفصلوا كما ورد بذلك الحديث . وحكي عن طائفة من السلف أنهم قالوا : لا يحرم مطلقا .
ذكر الآثار بذلك :
قال ابن جرير : حدثنا هناد حدثنا وكيع عن شعبة عن قتادة عن سعيد بن المسيب قال : قال سلمان الفارسي : كل وإن أكل ثلثيه - يعني الصيد - إذا أكل منه الكلب . وكذا رواه سعيد بن أبي عروبة وعمر بن عامر ، عن قتادة . وكذا رواه محمد بن زيد ، عن سعيد بن المسيب ، عن سلمان .
ورواه ابن جرير أيضا عن مجاهد بن موسى ، عن يزيد عن بكر بن عبد الله المزني والقاسم أن سلمان قال : إذا أكل الكلب فكل ، وإن أكل ثلثيه .
وقال ابن جرير : حدثنا يونس بن عبد الأعلى ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرني مخرمة بن بكير عن أبيه ، عن حميد بن مالك بن خثيم الدؤلي ; أنه سأل سعد بن أبي وقاص عن الصيد يأكل منه الكلب ، فقال : كل ، وإن لم يبق منه إلا حذية - يعني : [ إلا ] بضعة .
ورواه شعبة عن عبد ربه بن سعيد عن بكير بن الأشج عن سعيد بن المسيب عن سعد بن أبي وقاص قال : كل وإن أكل ثلثيه .
وقال ابن جرير : حدثنا ابن المثنى حدثنا عبد الأعلى ، حدثنا داود عن عامر عن أبي هريرة قال : لو أرسلت كلبك فأكل منه ، فإن أكل ثلثيه وبقي ثلثه فكل .
وقال ابن جرير : حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، حدثنا المعتمر قال : سمعت عبيد الله وحدثنا هناد حدثنا عبدة عن عبيد الله بن عمر - عن نافع عن عبد الله بن عمر قال : إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله فكل ما أمسك عليك ، أكل أو لم يأكل .
وكذا رواه عبيد الله بن عمر وابن أبي ذئب وغير واحد ، عن نافع .
فهذه الآثار ثابتة عن سلمان وسعد بن أبي وقاص وأبي هريرة وابن عمر . وهو محكي عن علي وابن عباس . واختلف فيه عن عطاء والحسن البصري . وهو قول الزهري وربيعة ومالك . وإليه ذهب الشافعي في القديم ، وأومأ إليه في الجديد .
وقد روي من طريق سلمان الفارسي مرفوعا ، فقال ابن جرير : حدثنا عمران بن بكار الكلاعي ، حدثنا عبد العزيز بن موسى اللاحوني ، حدثنا محمد بن دينار - هو الطاحي - عن أبي إياس معاوية بن قرة ، عن سعيد بن المسيب ، عن سلمان الفارسي ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إذا أرسل الرجل كلبه على الصيد فأدركه ، وقد أكل منه ، فليأكل ما بقي " .
ثم قال ابن جرير : وفي إسناد هذا الحديث نظر وسعيد غير معلوم له سماع من سلمان والثقات يروونه من كلام سلمان غير مرفوع .
وهذا الذي قاله ابن جرير صحيح ، لكن قد روي هذا المعنى مرفوعا من وجوه أخر ، فقال أبو داود : حدثنا محمد بن منهال الضرير ، حدثنا يزيد بن زريع ، حدثنا حبيب المعلم ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ; أن أعرابيا - يقال له : أبو ثعلبة - قال : يا رسول الله ، إن لي كلابا مكلبة ، فأفتني في صيدها . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " إن كان لك كلاب مكلبة ، فكل مما أمسكن عليك " . فقال : ذكيا وغير ذكي ؟ قال : " نعم " . قال : وإن أكل منه؟ قال : " نعم ، وإن أكل منه " . قال : يا رسول الله ، أفتني في قوسي . فقال : " كل ما ردت عليك قوسك " قال : ذكيا وغير ذكي؟ قال : " وإن تغيب عنك ما لم يصل ، أو تجد فيه أثر غير سهمك " . قال : أفتني في آنية المجوس إذا اضطررنا إليها . قال : " اغسلها وكل فيها " . .
هكذا رواه أبو داود وقد أخرجه النسائي . وكذا رواه أبو داود من طريق بسر بن عبيد الله عن أبي إدريس الخولاني ، عن أبي ثعلبة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا أرسلت كلبك وذكرت اسم الله فكل ، وإن أكل منه ، وكل ما ردت عليك يدك "
وهذان إسنادان جيدان ، وقد روى الثوري عن سماك بن حرب ، عن عدي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما كان من كلب ضار أمسك عليك ، فكل " . قلت : وإن أكل؟ قال : " نعم " .
وروى عبد الملك بن حبيب : حدثنا أسد بن موسى ، عن ابن أبي زائدة ، عن الشعبي عن عدي مثله .
فهذه آثار دالة على أنه يغتفر إن أكل منه الكلب . وقد احتج بها من لم يحرم الصيد بأكل الكلب وما أشبهه ، كما تقدم عمن حكيناه عنهم ، وقد توسط آخرون فقالوا : إن أكل عقب ما أمسكه فإنه يحرم لحديث عدي بن حاتم . وللعلة التي أشار إليها النبي صلى الله عليه وسلم : " فإن أكل فلا تأكل ، فإني أخاف أن يكون أمسك على نفسه " وأما إن أمسكه ثم انتظر صاحبه فطال عليه وجاع فأكل من الصيد لجوعه ، فإنه لا يؤثر في التحريم . وحملوا على ذلك حديث أبي ثعلبة الخشني ، وهذا تفريق حسن ، وجمع بين الحديثين صحيح . وقد تمنى الأستاذ أبو المعالي الجويني في كتابه " النهاية " أن لو فصل مفصل هذا التفصيل ، وقد حقق الله أمنيته ، وقال بهذا القول والتفريق طائفة من الأصحاب منهم ، وقال آخرون قولا رابعا في المسألة ، وهو التفرقة بين أكل الكلب فيحرم لحديث عدي وبين أكل الصقور ونحوها فلا يحرم ; لأنه لا يقبل التعليم إلا بالأكل .
وقال ابن جرير : حدثنا أبو كريب ، حدثنا أسباط بن محمد ، حدثنا أبو إسحاق الشيباني ، عن حماد عن إبراهيم عن ابن عباس ; أنه قال في الطير : إذا أرسلته فقتل فكل ، فإن الكلب إذا ضربته لم يعد ، وإن تعلم الطير أن يرجع إلى صاحبه وليس يضرب ، فإذا أكل من الصيد ونتف الريش فكل .
وكذا قال إبراهيم النخعي والشعبي وحماد بن أبي سليمان .
وقد يحتج لهؤلاء بما رواه ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد ، حدثنا المحاربي حدثنا مجالد عن الشعبي عن عدي بن حاتم قال : قلت : يا رسول الله ، إنا قوم نصيد بالكلاب والبزاة ، فما يحل لنا منها؟ قال : " يحل لكم ما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله ، فكلوا مما أمسكن عليكم ، واذكروا اسم الله عليه " ثم قال : " ما أرسلت من كلب وذكرت اسم الله عليه ، فكل مما أمسك عليك " . قلت : وإن قتل؟ قال : " وإن قتل ، ما لم يأكل " . قلت : يا رسول الله ، وإن خالطت كلابنا كلابا غيرها؟ قال : فلا تأكل حتى تعلم أن كلبك هو الذي أمسك " . قال : قلت : إنا قوم نرمي ، فما يحل لنا؟ قال : " ما ذكرت اسم الله عليه وخزقت فكل " .
فوجه الدلالة لهم أنه اشترط في الكلب ألا يأكل ، ولم يشترط ذلك في البزاة ، فدل على التفرقة بينهما في الحكم ، والله أعلم .
وقوله : ( فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه ) أي : عند الإرسال ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم : " إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله ، فكل ما أمسك عليك " . وفي حديث أبي ثعلبة المخرج في الصحيحين أيضا : " إذا أرسلت كلبك ، فاذكر اسم الله ، وإذا رميت بسهمك فاذكر اسم الله " ; ولهذا اشترط من اشترط من الأئمة كأحمد [ بن حنبل ] - في المشهور عنه - التسمية عند إرسال الكلب والرمي بالسهم لهذه الآية وهذا الحديث ، وهذا القول هو المشهور عن الجمهور ، أن المراد بهذه الآية الأمر بالتسمية عند الإرسال ، كما قال السدي وغير واحد .
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله : ( واذكروا اسم الله عليه ) يقول : إذا أرسلت جارحك فقل : باسم الله ، وإن نسيت فلا حرج .
وقال بعض الناس : المراد بهذه الآية الأمر بالتسمية عند الأكل كما ثبت في الصحيح : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم علم ربيبه عمر بن أبي سلمة فقال : " سم الله ، وكل بيمينك ، وكل مما يليك " . وفي صحيح البخاري : عن عائشة أنهم قالوا : يا رسول الله ، إن قوما يأتوننا - حديث عهدهم بكفر - بلحمان لا ندري أذكر اسم الله عليها أم لا ؟ فقال : " سموا الله أنتم وكلوا "
حديث آخر : وقال الإمام أحمد : حدثنا يزيد ، حدثنا هشام عن بديل عن عبد الله بن عبيد بن عمير ، عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأكل الطعام في ستة نفر من أصحابه ، فجاء أعرابي فأكله بلقمتين ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " أما إنه لو كان ذكر اسم الله لكفاكم ، فإذا أكل أحدكم فليذكر اسم الله ، فإن نسي أن يذكر اسم الله أوله فليقل : باسم الله أوله وآخره " .
وهكذا رواه ابن ماجه عن أبي بكر بن أبي شيبة ، عن يزيد بن هارون ، به وهذا منقطع بين عبد الله بن عبيد بن عمير وعائشة فإنه لم يسمع منها هذا الحديث ، بدليل ما رواه الإمام أحمد :
حدثنا عبد الوهاب ، أخبرنا هشام - يعني ابن أبي عبد الله الدستوائي - عن بديل عن عبد الله بن عبيد بن عمير ; أن امرأة منهم - يقال لها : أم كلثوم - حدثته ، عن عائشة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأكل طعاما في ستة من أصحابه ، فجاء أعرابي جائع فأكله بلقمتين ، فقال : " أما إنه لو ذكر اسم الله لكفاكم ، فإذا أكل أحدكم فليذكر اسم الله ، فإن نسي اسم الله في أوله فليقل : باسم الله أوله وآخره " .
[ و ] رواه أحمد أيضا وأبو داود والترمذي والنسائي من غير وجه ، عن هشام الدستوائي به ، وقال الترمذي : حسن صحيح .
حديث آخر : وقال أحمد : حدثنا علي بن عبد الله ، حدثنا يحيى بن سعيد ، حدثنا جابر بن صبح حدثني المثنى بن عبد الرحمن الخزاعي ، وصحبته إلى واسط ، فكان يسمي في أول طعامه وفي آخر لقمة يقول : بسم الله أوله وآخره .
فقلت له : إنك تسمي في أول ما تأكل ، أرأيت قولك في آخر ما تأكل : باسم الله أوله وآخره؟ فقال : أخبرك عن ذلك ، إن جدي أمية بن مخشى - وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم - سمعته يقول : إن رجلا كان يأكل ، والنبي ينظر ، فلم يسم ، حتى كان في آخر طعامه لقمة ، فقال : باسم الله أوله وآخره . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " والله ما زال الشيطان يأكل معه حتى سمى ، فلم يبق شيء في بطنه حتى قاءه " .
وهكذا رواه أبو داود والنسائي من حديث جابر بن صبح الراسبي أبي بشر البصري ووثقه ابن معين والنسائي وقال أبو الفتح الأزدي : لا تقوم به الحجة .
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا أبو معاوية ، حدثنا الأعمش عن خيثمة عن أبي حذيفة قال أبو عبد الرحمن عبد الله بن الإمام أحمد : واسمه سلمة بن الهيثم بن صهيب - من أصحاب ابن مسعود - عن حذيفة قال : كنا إذا حضرنا مع النبي [ صلى الله عليه وسلم ] على طعام ، لم نضع أيدينا حتى يبدأ رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فيضع يده ، وإنا حضرنا معه طعاما فجاءت جارية ، كأنما تدفع ، فذهبت تضع يدها في الطعام ، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدها ، وجاء أعرابي كأنما يدفع ، فذهب يضع يده في الطعام ، فأخذ رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] بيده ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الشيطان يستحل الطعام إذا لم يذكر اسم الله عليه ، وإنه جاء بهذه الجارية ليستحل بها ، فأخذت بيدها ، وجاء بهذا الأعرابي ليستحل به ، فأخذت بيده ، والذي نفسي بيده ، إن يده في يدي مع يدهما ، يعني الشيطان . وكذا رواه مسلم وأبو داود والنسائي ، من حديث الأعمش به .
حديث آخر : روى مسلم وأهل السنن إلا الترمذي من طريق ابن جريج ، عن أبي الزبير ، عن جابر بن عبد الله ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إذا دخل الرجل بيته ، فذكر الله عند دخوله وعند طعامه ، قال الشيطان : لا مبيت لكم ولا عشاء ، وإذا دخل فلم يذكر اسم الله عند دخوله قال الشيطان : أدركتم المبيت ، فإذا لم يذكر اسم الله عند طعامه قال : أدركتم المبيت والعشاء " . لفظ أبي داود .
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا يزيد بن عبد ربه ، حدثنا الوليد بن مسلم ، عن وحشي بن حرب بن وحشي بن حرب عن أبيه ، عن جده ; أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم : إنا نأكل وما نشبع؟ قال : " فلعلكم تأكلون متفرقين ، اجتمعوا على طعامكم واذكروا اسم الله يبارك لكم فيه " .
ورواه أبو داود ، وابن ماجه ، من طريق الوليد بن مسلم .
تفسير الطبري :
التفسير الميسّر:
تفسير السعدي
يقول تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: { يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ ْ} من الأطعمة؟ { قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ ْ} وهي كل ما فيه نفع أو لذة, من غير ضرر بالبدن ولا بالعقل، فدخل في ذلك جميع الحبوب والثمار التي في القرى والبراري، ودخل في ذلك جميع حيوانات البحر وجميع حيوانات البر، إلا ما استثناه الشارع، كالسباع والخبائث منها. ولهذا دلت الآية بمفهومها على تحريم الخبائث، كما صرح به في قوله تعالى: { وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ ْ} { وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ ْ} أي: أحل لكم ما علمتم من الجوارح إلى آخر الآية. دلت هذه الآية على أمور: أحدها: لطف الله بعباده ورحمته لهم، حيث وسع عليهم طرق الحلال، وأباح لهم ما لم يذكوه مما صادته الجوارح، والمراد بالجوارح: الكلاب، والفهود، والصقر، ونحو ذلك، مما يصيد بنابه أو بمخلبه. الثاني: أنه يشترط أن تكون معلمة، بما يعد في العرف تعليما، بأن يسترسل إذا أرسل، وينزجر إذا زجر، وإذا أمسك لم يأكل، ولهذا قال: { تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ ْ} أي: أمسكن من الصيد لأجلكم. وما أكل منه الجارح فإنه لا يعلم أنه أمسكه على صاحبه، ولعله أن يكون أمسكه على نفسه. الثالث: اشتراط أن يجرحه الكلب أو الطير ونحوهما، لقوله: { مِنَ الْجَوَارِحِ ْ} مع ما تقدم من تحريم المنخنقة. فلو خنقه الكلب أو غيره، أو قتله بثقله لم يبح [هذا بناء على أن الجوارح اللاتي يجرحن الصيد بأنيابها أو مخالبها، والمشهور أن الجوارح بمعنى الكواسب أي: المحصلات للصيد والمدركات لها فلا يكون فيها على هذا دلالة - والله أعلم-] الرابع: جواز اقتناء كلب الصيد، كما ورد في الحديث الصحيح، مع أن اقتناء الكلب محرم، لأن من لازم إباحة صيده وتعليمه جواز اقتنائه. الخامس: طهارة ما أصابه فم الكلب من الصيد، لأن الله أباحه ولم يذكر له غسلا، فدل على طهارته. السادس: فيه فضيلة العلم، وأن الجارح المعلم -بسبب العلم- يباح صيده، والجاهل بالتعليم لا يباح صيده. السابع: أن الاشتغال بتعليم الكلب أو الطير أو نحوهما، ليس مذموما، وليس من العبث والباطل. بل هو أمر مقصود، لأنه وسيلة لحل صيده والانتفاع به. الثامن: فيه حجة لمن أباح بيع كلب الصيد، قال: لأنه قد لا يحصل له إلا بذلك. التاسع: فيه اشتراط التسمية عند إرسال الجارح، وأنه إن لم يسم الله متعمدا، لم يبح ما قتل الجارح. العاشر: أنه يجوز أكل ما صاده الجارح، سواء قتله الجارح أم لا. وأنه إن أدركه صاحبه، وفيه حياة مستقرة فإنه لا يباح إلا بها. ثم حث تعالى على تقواه، وحذر من إتيان الحساب في يوم القيامة، وأن ذلك أمر قد دنا واقترب، فقال: { وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ْ}
تفسير البغوي
قوله عز وجل : ( يسألونك ماذا أحل لهم ) الآية ، قال سعيد بن جبير : نزلت هذه الآية في عدي بن حاتم وزيد بن المهلهل الطائيين وهو زيد الخيل الذي سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد الخير ، قالا يا رسول الله إنا قوم نصيد بالكلاب والبزاة فماذا يحل لنا منها؟ فنزلت هذه الآية .
وقيل : سبب نزولها أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أمر بقتل الكلاب قالوا : يا رسول الله ماذا يحل لنا من هذه الأمة التي أمرت بقتلها؟ فنزلت هذه الآية فلما نزلت أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في اقتناء الكلاب التي ينتفع بها ، ونهى عن إمساك ما لا نفع فيه منها .
أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي أنا أبو الحسين علي بن محمد بن عبد الله بن بشران أنا إسماعيل بن محمد الصفار أنا أحمد بن منصور الرمادي أنا عبد الرزاق أنا معمر عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من اتخذ كلبا إلا كلب ماشية أو صيد أو زرع انتقص من أجره كل يوم قيراط " والأول أصح في سبب نزول هذه الآية .
( قل أحل لكم الطيبات ) يعني : الذبائح على اسم الله تعالى ، وقيل : كل ما تستطيبه العرب وتستلذه من غير أن يرد بتحريمه نص من كتاب أو سنة ( وما علمتم من الجوارح ) يعني : وأحل لكم صيد ما علمتم من الجوارح .
واختلفوا في هذه الجوارح ، فقال الضحاك والسدي : هي الكلاب دون غيرها ، ولا يحل ما صاده غير الكلب إلا أن يدرك ذكاته ، وهذا غير معمول به ، بل عامة أهل العلم على أن المراد من الجوارح والكواسب من سباع البهائم كالفهد والنمر والكلب ، ومن سباع الطير كالبازي والعقاب والصقر ونحوها مما يقبل التعليم ، فيحل صيد جميعها ، سميت جارحة : لجرحها لأربابها أقواتهم من الصيد ، أي : كسبها ، يقال : فلان جارحة أهله ، أي : كاسبهم ، ( مكلبين ) والمكلب الذي يغري الكلاب على الصيد ، ويقال للذي يعلمها أيضا : مكلب ، والكلاب : صاحب الكلاب ، ويقال للصائد بها أيضا كلاب ، ونصب مكلبين على الحال ، أي : في حال تكليبكم هذه الجوارح أي إغراؤكم إياها على الصيد ، وذكر الكلاب لأنها أكثر وأعم ، والمراد جميع جوارح الصيد ، ( تعلمونهن ) تؤدبونهن آداب أخذ الصيد ، ( مما علمكم الله ) أي : من العلم الذي علمكم الله ، وقال السدي : أي كما علمكم الله ، " من " بمعنى الكاف ، ( فكلوا مما أمسكن عليكم ) أراد أن الجارحة المعلمة إذا خرجت بإرسال صاحبها فأخذت الصيد وقتلته كان حلالا ، والتعليم هو أن يوجد فيها ثلاثة أشياء : إذا أشليت استشلت ، وإذا زجرت انزجرت ، وإذا أخذت الصيد أمسكت ولم تأكل ، وإذا وجد ذلك منه مرارا وأقله ثلاث مرات كانت معلمة ، يحل قتلها إذا خرجت بإرسال صاحبها .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا موسى بن إسماعيل أنا ثابت بن زيد عن عاصم عن الشعبي عن عدي بن حاتم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إذا أرسلت كلبك المعلم وسميت فأمسك وقتل فكل ، وإن أكل فلا تأكل فإنما أمسك على نفسه ، وإذا خالط كلابا لم يذكر اسم الله عليها فأمسكن وقتلن فلا تأكل فإنك لا تدري أيها قتل ، وإذا رميت الصيد فوجدته بعد يوم أو يومين ليس به إلا أثر سهمك فكل وإن وقع في الماء فلا تأكل "
واختلفوا فيما إذا أخذت الصيد وأكلت منه شيئا : فذهب أكثر أهل العلم إلى تحريمه ، وروي ذلك عن ابن عباس ، وهو قول عطاء وطاوس والشعبي ، وبه قال الثوري وابن المبارك وأصحاب الرأي وهو أصح قولي الشافعي لقوله صلى الله عليه وسلم : " وإن أكل فلا تأكل فإنما أمسك على نفسه " .
ورخص بعضهم في أكله ، روي ذلك عن ابن عمر ، وسلمان الفارسي ، وسعد بن أبي وقاص ، وبه قال مالك : لما روي عن أبي ثعلبة الخشني قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا أرسلت كلبك وذكرت اسم الله تعالى فكل وإن أكل منه " .
وأما غير المعلم من الجوارح إذا أخذ صيدا ، أو المعلم إذا خرج بغير إرسال صاحبه فأخذ وقتل فلا يكون حلالا إلا أن يدركه صاحبه حيا فيذبحه ، فيكون حلالا .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا عبد الله بن يزيد أنا حيوة أخبرني ربيعة بن يزيد الدمشقي عن أبي إدريس عن أبي ثعلبة الخشني قال قلت : يا نبي الله إنا بأرض قوم أهل كتاب أفنأكل في آنيتهم ، وبأرض صيد أصيد بقوسي وبكلبي الذي ليس بمعلم ، وبكلبي المعلم فما يصح لي؟ قال : " أما ما ذكرت من آنية أهل الكتاب فإن وجدتم غيرها فلا تأكلوا فيها وإن لم تجدوا فاغسلوها وكلوا فيها وما صدت بقوسك فذكرت اسم الله عليه فكل وما صدت بكلبك المعلم فذكرت اسم الله عليه فكل وما صدت بكلبك غير المعلم فأدركت ذكاته فكل " .
قوله عز وجل : ( واذكروا اسم الله عليه واتقوا الله إن الله سريع الحساب ) ففيه بيان أن ذكر اسم الله عز وجل على الذبيحة شرط حالة ما يذبح ، وفي الصيد حالة ما يرسل الجارحة أو السهم .
أخبرنا أبو الحسن عبد الرحمن بن محمد الداودي أنا أبو الحسن علي بن محمد بن إبراهيم بن الحسن بن علوية الجوهري قال : حدثنا أبو العباس محمد بن أحمد بن الأثرم المقري بالبصرة حدثنا عمر بن شيبة أنا ابن أبي عدي عن سعيد عن قتادة عن أنس قال : " ضحى رسول الله صلى الله عليه وسلم بكبشين أملحين أقرنين ذبحهما بيده وسمى وكبر ، قال : رأيته واضعا قدمه على صفاحهما ويذبحهما بيده ويقول : بسم الله والله أكبر " .
الإعراب:
(يَسْئَلُونَكَ) فعل مضارع وفاعل ومفعول به والجملة مستأنفة (ما ذا) في إعرابها أوجه منها: ما اسم استفهام مبتدأ وذا اسم موصول خبره والجملة بعده صلة الموصول. أو ماذا اسم استفهام مبتدأ والجملة بعده خبره وجملة (ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ) في محل نصب مفعول به ثان ليسألونك (قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ) لكم متعلقان بأحل والطيبات نائب فاعله والجملة مقول القول (وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ) ما عطف على الطيبات وجملة علمتم صلة الموصول ما والجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال من المفعول المحذوف: وما علمتموه من الجوارح (مُكَلِّبِينَ) حال منصوبة بالياء لأنها جمع مذكر سالم (تُعَلِّمُونَهُنَّ) فعل مضارع مرفوع بثبوت النون والواو فاعله والهاء مفعوله والجملة في محل نصب حال ثانية (مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ) الجملة صلة الموصول ومما متعلقان بتعلمونهن.
(فَكُلُوا) فعل أمر وفاعله والفاء هي الفصيحة والجملة جواب شرط مقدر غير جازم (مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ) فعل ماض ونون النسوة فاعله عليكم متعلقان بأمسكن والجملة صلة الموصول مما متعلقان بكلوا.
(وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ) فعل أمر وفاعل ومفعول به واللّه لفظ الجلالة مضاف إليه والجملة معطوفة على جملة (فَكُلُوا).
(وَاتَّقُوا اللَّهَ) الجملة معطوفة (إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) الجملة تعليلية.