«فيها كتب» أحكام مكتوبة «قيمة» مستقيمة، أي يتلو مضمون ذلك وهو القرآن، فمنهم من آمن به ومنهم من كفر.
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7) جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8)
متعلق الرضا القليل ، فإن الإنعام لا يتناهى بالبرهان الواضح والدليل ، فلا بد من الرضى ، بذا حكم الدليل وقضى ، وبهذا المعنى رضاه سبحانه عنك بما أعطيته منك «رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ» لما كانت مواهب اللّه لا نهاية لها ، فما لها آخر ترجع إليه فتنقضي ، والعبد ما وفى فيما كلفه اللّه وسعه ولا حق استطاعته ، فصح وثبت «رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ» فيما أتوا به من الأعمال «وَرَضُوا عَنْهُ» ورضوا بما وهبهم مما عنده مما لا يتناهى كثرة ،
فالرضا من صفات الحق والرضا من صفات الخلق بما ينبغي للحق وبما يليق بالمخلوق ، ورد في بعض الأخبار النبوية أن الناس في الجنة إذا أخذوا منازلهم فيها ، ناداهم الحق جل جلاله بالكلام الذي ينبغي أن ينسب إليه من غير تكييف ولا تشبيه
[ يا عبادي هل بقي لكم شيء ]
فيقولون : [ يا ربنا ما بقي لنا شيء ، نجيتنا من النار وأدخلتنا الجنة وكسوتنا وأطعمتنا وسقيتنا وفعلت وصنعت ، فيقول جل جلاله : وبقي لكم شيء ،
فيقولون : يا ربنا وما بقي لنا ؟
فيقول : أن أعلمكم برضائي عنكم فلا أسخط عليكم أبدا ، هل رضيتم ؟
فيقولون : رضينا عنك ]
فما يسر أهل الجنة بشيء أعظم من سرورهم بهذا الخطاب ، وهؤلاء المخاطبون بهذا الخطاب هم أهل الجنة الذين هم أهلها ، العاملون لها والمتعشقون بها ، الذين ما طلبوا من الحق سواها ، وأما العارفون أهل اللّه وخاصته فليس لهم في هذا الخطاب مدخل ،
إذ قد نالوه في الدنيا ، وأولئك في الآخرة ، فالعارفون في الجنة بحكم العرض لا بحكم الذات وهم مع اللّه بالذات ،
فقيل فيهم : أهل اللّه وخاصته ، ولم ينسبوا إلى الجنة لكن الجنة تنسب إليهم ، وأما أهل الجنة الذين هم أهلها فهم مع الجنة بالذات ومع اللّه بالعرض ، فرؤيتهم للّه تعالى في أوقات مخصوصة ، وكلهم في الجنان مع الحور والولدان «
ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ» بطلب الحق المشروع ليتصف به ، بالعمل ليرضي اللّه بذلك ، فيكون ممن رضي اللّه عنهم في أقوالهم وأفعالهم وأحوالهم ، فهم على ما شرع لهم رقيقة
- خشية الفؤاد من قلة الزاد وهول المعاد ،
بل هو من سوء المعاملة مع طلب المواصلة ، بل هو من الدعوى مع التعدي في التقوى .
(99) سورة الزّلزلة مدنيّة
بسم اللّه الرّحمن الرّحيم
سورة إذا زلزلت تقوم مقام أو تعدل نصف القرآن إذا قسم قسمين .
------------
(8) الفتوحات ج 4 /
351 - كتاب الإسفار - كتاب عقلة المستوفز - الفتوحات ج 2 /
522 - كتاب مواقع النجوم
قوله تعالى {لم يكن الذين كفروا} كذا قراءة العامة، وخط المصحف. وقرأ ابن مسعود {لم يكن المشركون وأهل الكتاب منفكين} وهذه قراءة على التفسير. قال ابن العربي وهي جائزة في معرض البيان لا في معرض التلاوة؛ فقد قرأ النبي صلى اللّه عليه وسلم في رواية الصحيح {فطلقوهن لقبل عدتهن} وهو تفسير؛ فإن التلاوة : هو ما كان في خط المصحف . قوله تعالى {من أهل الكتاب} يعني اليهود والنصارى {والمشركين} في موضع جر عطفا على {أهل الكتاب}. قال ابن عباس {أهل الكتاب} : اليهود الذين كانوا بيثرب، وهم قريظة والنضير وبنو قينقاع. والمشركون : الذين كانوا بمكة وحولها، والمدينة والذين حولها؛ وهم مشركو قريش. {منفكين} أي منتهين عن كفرهم، مائلين عنه. {حتى تأتيهم البينة} أي أتتهم البينة؛ أي محمد صلى اللّه عليه وسلم. وقيل : الانتهاء بلوغ الغاية أي لم يكونوا ليبلغوا نهاية أعمارهم فيموتوا، حتى تأتيهم البينة. فالانفكاك على هذا بمعنى الانتهاء. وقيل {منفكين} زائلين؛ أي لم تكن مدتهم لتزول حتى يأتيهم رسول. والعرب تقول : ما انفككت أفعل كذا : أي ما زلت. وما انفك فلان قائما. أي ما زال قائما. وأصل الفك : الفتح؛ ومنه فك الكتاب، وفك الخلخال، وفك السالم. قال طرفة : فآليت لا ينفك كشحي بطانة ** لعضب رقيق الشفرتين مهند وقال ذو الرمة : حراجيج ما تنفك إلا مناخة ** على الخف أو نرمي بها بلدا قفرا يريد : ما تنفك مناخة؛ فزاد {إلا}. وقيل {منفكين} : بارحين؛ أي لم يكونوا ليبرحوا ويفارقوا الدنيا، حتى تأتيهم البينة. وقال ابن كيسان : أي لم يكن أهل الكتاب تاركين صفة محمد صلى اللّه عليه وسلم في كتابهم، حتى بعث؛ فلما بعث حسدوه وجحدوه. وهو كقوله {فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به}[
البقرة : 89]. ولهذا قال {وما تفرق الذين أوتوا الكتاب}[
البينة : 4]... الآية. وعلى هذا {والمشركين} أي ما كانوا يسيؤون القول في محمد صلى اللّه عليه وسلم، حتى بعث؛ فإنهم كانوا يسمونه. الأمين، حتى أتتهم البينة على لسانه، وبعث إليهم، فحينئذ عادوه. وقال بعض اللغويين {منفكين} هالكين من قولهم : أنفك صلا المرأة عند الولادة؛ وهو أن ينفصل، فلا يلتئم فتهلك المعنى : لم يكونوا معذبين ولا هالكين إلا بعد قيام الحجة عليهم، بإرسال الرسل وإنزال الكتب. وقال قوم في المشركين : إنهم من أهل الكتاب؛ فمن اليهود من قال : عزير ابن اللّه. ومن النصارى من قال : عيسى هو اللّه. ومنهم من قال : هو ابنه. ومنهم من قال : ثالث ثلاثة. وقيل : أهل الكتاب كانوا مؤمنين، ثم كفروا بعد أنبيائهم. والمشركون ولدوا على الفطرة، فكفروا حين بلغوا. فلهذا قال {والمشركين}. وقيل : المشركون وصف أهل الكتاب أيضا، لأنهم لم ينتفعوا بكتابهم، وتركوا التوحيد. فالنصارى مثلثة، وعامة اليهود مشبهة؛ والكل شرك. وهو كقولك : جاءني العقلاء والظرفاء؛ وأنت تريد أقواما بأعيانهم، تصفهم بالأمرين. فالمعنى : من أهل الكتاب المشركين. وقيل : إن الكفر هنا هو الكفر بالنبي صلى اللّه عليه وسلم؛ أي لم يكن الذين كفروا بمحمد من اليهود والنصارى، الذين هم أهل الكتاب، ولم يكن المشركون، الذين هم عبدة الأوثان من العرب وغيرهم - وهم الذين ليس لهم كتاب - منفكين. قال القشيري : وفيه بعد؛ لأن الظاهر من {حتى تأتيهم البينة. رسول من اللّه} أن هذا الرسول هو محمد صلى اللّه عليه وسلم. فيبعد أن يقال : لم يكن الذين كفروا بمحمد صلى اللّه عليه وسلم منفكين حتى يأتيهم محمد؛ إلا أن يقال : أراد : لم يكن الذين كفروا الآن بمحمد - وإن كانوا من قبل معظمين له، بمنتهين عن هذا الكفر، إلى أن يبعث اللّه محمدا إليهم ويبين لهم الآيات؛ فحينئذ يؤمن قوم. وقرأ الأعمش وإبراهيم {والمشركون} رفعا، عطفا على {الذين}. والقراءة الأولى أبين؛ لأن الرفع يصير فيه الصنفان كأنهم من غير أهل الكتاب. وفي حرف أبيّ {فما كان الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركون منفكين}. وفي مصحف ابن مسعود {لم يكن المشركون وأهل الكتاب منفكين}. وقد تقدم. {حتى تأتيهم البينة} قيل حتى أتتهم. والبينة : محمد صلى اللّه عليه وسلم. قوله تعالى {رسول من الله} أي بعيث من اللّه جل ثناؤه. قال الزجاج {رسول} رفع على البدل من {البينة}. وقال الفراء : أي هي رسول من اللّه، أو هو رسول من اللّه؛ لأن البينة قد تذكر فيقال : بينتي فلان. وفي حرف أبيّ وابن مسعود {رسول} بالنصب على القطع. {يتلو} أي يقرأ. يقال : تلا يتلو تلاوة. {صحفا} جمع صحيفة، وهي ظرف المكتوب. {مطهرة} قال ابن عباس : من الزور، والشك، والنفاق، والضلالة. وقال قتادة : من الباطل. وقيل : من الكذب، والشبهات. والكفر؛ والمعنى واحد. أي يقرأ ما تتضمن الصحف من المكتوب؛ ويدل عليه أنه كان يتلو عن ظهر قلبه، لا عن كتاب؛ لأنه كان أميا، لا يكتب ولا يقرأ. و {مطهرة} : من نعت الصحف؛ وهو كقوله تعالى {في صحف مكرمة. مرفوعة مطهرة}[
عبس : 13]، فالمطهرة نعت للصحف في الظاهر، وهي نعت لما في الصحف من القرآن. وقيل {مطهرة} أي ينبغي ألا يمسها إلا المطهرون؛ كما قال في سورة [الواقعة] حسب ما تقدم بيانه. وقيل : الصحف المطهرة : هي التي عند اللّه في أم الكتاب، الذي منه نسخ ما أنزل على الأنبياء من الكتب؛ كما قال تعالى {بل هو قرآن مجيد. في لوح محفوظ}[
البروج : 22]. قال الحسن : يعني الصحف المطهرة في السماء. {فيها كتب قيمة} أي مستقيمة مستوية محكمة؛ من قول العرب : قام يقوم : إذا استوى وصح. وقال بعض أهل العلم : الصحف هي الكتب؛ فكيف قال في صحف فيها كتب؟ فالجواب : أن الكتب هنا بمعنى الأحكام؛ قال اللّه عز وجل {كتب الله لأغلبن}[
المجادلة : 21] بمعنى حكم. وقال صلى اللّه عليه وسلم : (واللّه لأقضين بينكما بكتاب اللّه) ثم قضى بالرجم، وليس ذكر الرجم مسطورا في الكتاب؛ فالمعنى : لأقضين بينكما بحكم اللّه تعالى. وقال الشاعر : وما الولاء بالبلاء فملتم ** وما ذاك قال الله إذ هو يكتب وقيل : الكتب القيمة : هي القرآن؛ فجعله كتبا لأنه يشتمل على أنواع من البيان.
في تلك الصحف أخبار صادقة وأوامر عادلة، تهدي إلى الحق وإلى صراط مستقيم.