«فاستجبنا له ونجيناه من الغم» بتلك الكلمات «وكذلك» كما نجيناه «ننجي المؤمنين» من كربهم إذا استغاثوا بنا داعين.
فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ وَإِنْ أَدْرِي قَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ (109) إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ (110) وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (111) قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ (112 (
[ "قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ " ]
«قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ» أي الحق الذي شرعت لنا ليثبت صدقي عند من أرسلتني إليهم فيما أرسلتني به ، فجاء بلفظ يدل على أنه وقع فقال تعالى مخبرا «قالَ» وهو عند العامة ما وقع ، فإنه يوم القيامة ، وما أخبر اللّه إلا بالواقع ، فلا بد أن يكون ثم حضرة إلهية فيها وقوع الأشياء دائما ، لا يتقيد بالماضي فيقال قد وقعت ، ولا بالمستقبل فيقال تقع ، ولكن
متعلقها الحال الدائم ، والحال له الوجود ، ومن هذه الحضرة الإلهية عنها تقع الإخبارات بالماضي والمستقبل ، والألف واللام في الحق للحق المعهود الذي بعث به رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ، أي بما شرعت لي وأرسلتني به ، فإن اللّه لا يعاملنا إلا بما شرع لنا لا بغير ذلك ، ألا تراه قد أمر نبيه صلّى اللّه عليه وسلم أن يسأله يوم القيامة أن يحكم بالحق الذي بعثه به بين عباده وبيده ، فقال تعالى آمرا «قل» يا محمد ، وهي قراءة «رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ» أي فليكن حكمك في الأمم يوم القيامة بما شرعت لهم وبعثتنا به إليهم .
فإن ذلك مما يراد ، فإنك ما أرسلتنا إلا بما تريد حتى يثبت صدقنا عندهم ، وتقوم الحجة عليهم إذا حكم الحق في كل أمة بما أرسل به نبيه إليهم ، وبهذا تكون للّه الحجة البالغة ، فما حكم إلا بما شرع وأمر عبده أن يسأله تعالى في ذلك حتى يكون حكمه فيه عن سؤال عبده ، كما كان حكم العبد بما قيده من الشرع عن أمر ربه ، وأكثر من هذا التنزل الإلهي إلى العباد ما يكون ، وهل يحكم اللّه إلا بالحق ، فجعل الحق نفسه في هذه الآية مأمورا لنبيه عليه السلام ، فإن لفظة احكم أمر ، وأمره سبحانه أن يقول له ذلك ، فإن اللّه ما يعامل العبد بأمر إلا قد عامل به نفسه ، فأوجب على نفسه كما أوجب عليك ، ودخل لك تحت العهد كما أدخلك تحت العهد ، فما أمرك بشيء إلّا وقد جعل على نفسه مثل ذلك ، هذا لتكون له الحجة البالغة ، ووفى بكل ما أوجبه على نفسه ، وطلب منك الوفاء بما أوجبه عليك ،
أليس هذا من لطفه ؟ أليس هذا من كرمه ؟
ألا تراه تعالى لما قال لنبيه داود «فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوىقال تعالى جبرا لقلب خلفائه «قل» يا محمد «رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ» فيحكم بنفسه تعالى بالحق الذي بعث به رسله ليصدقهم عند عبيده فعلا بحكمه ، كما صدقهم في حال احتجابه بما أيدهم به من الآيات ، ولما كان الأصل في الحكم المشروع غلبة الظنّ ،
فإن الحاكم لا يحكم إلا بشهادة الشاهد ، وهو ليس قاطعا فيما شهد به من ذلك ، فما اختلف العلماء في حكم الحاكم بين الخصمين بغلبة الظن ، واختلفوا في حكمه بعلمه ، فكانت غلبة الظن في هذا النوع أصلا متفقا عليه ويرجع إليه ،
وكان العلم في ذلك مختلفا فيه ، والحق تعالى وإن لم يكن عنده إلا العلم فإنه يحكم بالشهود ، ولذلك جاء «قل رب احكم بالحق» أي بما شرعت لي وأرسلتني به ، فمع علمه تعالى يقيم على خلقه يوم القيامة الشهود ، فلا يعاقبهم إلا بعد إقامة البينة عليهم مع علمه ، وبهذا قال من قال : إنه ليس للحاكم أن يحكم بعلمه ، أما في العالم فللتهمة بما له
من الغرض ، وأما في جانب الحق فلإقامة الحجة على المحكوم عليه ، حتى لا يأخذه في الآخرة إلا بما شرع له من الحكم في الدنيا على لسان رسوله صلّى اللّه عليه وسلم ، ولهذا يقول الرسول لربه عن أمر ربه" رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ "
يعني بالحق الذي بعثتني به وشرعت لي أن أحكم به فيهم «وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ» لولا ما هو الرحمن ما اجترأ العبد أن يقول رب احكم بالحق ، فإنه تعالى ما يحكم إلا بالحق
- الوجه الثاني -جعل اللّه في الوجود كتابين ، كتابا سماه أمّا ، فيه ما كان قبل إيجاده وما يكون ، كتبه بحكم الاسم المقيت ، فهو كتاب ذو قدر معلوم فيه بعض أعيان الممكنات وما يتكون عنها ،
وكتابا آخر ليس فيه سوى ما يتكون عن المكلفين خاصة ، فلا تزال الكتابة فيه ما دام التكليف ، وبه تقوم الحجة للّه على المكلفين ، وبه يطالبهم لا بالأم ، وهذا هو الإمام الحق المبين الذي يحكم به الحق تعالى الذي أخبرنا اللّه في كتابه أنه أمر نبيه أن يقول لربه «احْكُمْ بِالْحَقِّ» ، يريد هذا الكتاب ،
وهو كتاب الإحصاء فلا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ، وكل صغير وكبير مستطر ، وهو منصوص عليه في الأم .
(22) سورة الحج مدنيّة
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
------------
(
112) الفتوحات ج 2 /
52 ،
92 - ج 4 /
235 - ج 2 /
92 - ج 1 /
579">
579 - ج 4 /
235 - ج 1 /
579">
579 - ج 3 /
364 ، 76 ،
364 -ح 4 / 26 - ج 1 /
597 - ج 3 /
476 - ج 4 /
54 - ج 3 /
112
وقوله : ( فاستجبنا له ونجيناه من الغم ) أي : أخرجناه من بطن الحوت ، وتلك الظلمات ، ( وكذلك ننجي المؤمنين ) أي : إذا كانوا في الشدائد ودعونا منيبين إلينا ، ولا سيما إذا دعوا بهذا الدعاء في حال البلاء ، فقد جاء الترغيب في الدعاء بها عن سيد الأنبياء ، قال الإمام أحمد :
حدثنا إسماعيل بن عمر ، حدثنا يونس بن أبي إسحاق الهمداني ، حدثنا إبراهيم بن محمد بن سعد ، حدثني والدي محمد عن أبيه سعد ، - وهو ابن أبي وقاص - قال : مررت بعثمان بن عفان ، رضي الله عنه ، في المسجد ، فسلمت عليه ، فملأ عينيه مني ثم لم يردد علي السلام ، فأتيت عمر بن الخطاب فقلت : يا أمير المؤمنين ، هل حدث في الإسلام شيء؟ مرتين ، قال : لا وما ذاك؟ قلت : لا إلا أني مررت بعثمان آنفا في المسجد ، فسلمت عليه ، فملأ عينيه مني ، ثم لم يردد علي السلام . قال : فأرسل عمر إلى عثمان فدعاه ، فقال : ما منعك ألا تكون رددت على أخيك السلام؟ قال : ما فعلت . قال سعد : قلت : بلى حتى حلف وحلفت ، قال : ثم إن عثمان ذكر فقال : بلى ، وأستغفر الله وأتوب إليه ، إنك مررت بي آنفا وأنا أحدث نفسي بكلمة سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم لا والله ما ذكرتها قط إلا تغشى بصري وقلبي غشاوة . قال سعد : فأنا أنبئك بها ، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر لنا [ أول دعوة ] ثم جاء أعرابي فشغله ، حتى قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فاتبعته ، فلما أشفقت أن يسبقني إلى منزله ضربت بقدمي الأرض ، فالتفت إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " من هذا؟ أبو إسحاق ؟ " قال : قلت : نعم ، يا رسول الله . قال : " فمه؟ " قلت : لا والله ، إلا إنك ذكرت لنا أول دعوة ، ثم جاء هذا الأعرابي فشغلك . قال : " نعم ، دعوة ذي النون ، إذ هو في بطن الحوت : ( لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ) ، فإنه لم يدع بها مسلم ربه في شيء قط إلا استجاب له " .
ورواه الترمذي ، والنسائي في " اليوم والليلة " ، من حديث إبراهيم بن محمد بن سعد ، عن أبيه ، عن سعد ، به .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا أبو خالد الأحمر ، عن كثير بن زيد ، عن المطلب بن حنطب - قال أبو خالد : أحسبه عن مصعب ، يعني : ابن سعد - عن سعد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من دعا بدعاء يونس ، استجيب له " . قال أبو سعيد : يريد به ( وكذلك ننجي المؤمنين ) .
وقال ابن جرير : حدثني عمران بن بكار الكلاعي ، حدثنا يحيى بن صالح ، حدثنا أبو يحيى بن عبد الرحمن ، حدثني بشر بن منصور ، عن علي بن زيد ، عن سعيد بن المسيب قال : سمعت سعد بن مالك - وهو ابن أبي وقاص - يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " اسم الله الذي إذا دعي به أجاب ، وإذا سئل به أعطى ، دعوة يونس بن متى " . قال : قلت : يا رسول الله ، هي ليونس خاصة أم لجماعة المسلمين؟ قال : هي ليونس بن متى خاصة وللمؤمنين عامة ، إذا دعوا بها ، ألم تسمع قول الله عز وجل : ( : فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين ) . فهو شرط من الله لمن دعاه به " .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أحمد بن أبي سريج ، حدثنا داود بن المحبر بن قحذم المقدسي ، عن كثير بن معبد قال : سألت الحسن ، قلت : يا أبا سعيد ، اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب ، وإذا سئل به أعطى؟ قال : ابن أخي ، أما تقرأ القرآن؟ قول الله : ( وذا النون إذ ذهب مغاضبا ) إلى قوله : ( المؤمنين ) ، ابن أخي ، هذا اسم الله الأعظم ، الذي إذا دعي به أجاب ، وإذا سئل به أعطى .
قوله تعالى {وذا النون} أي واذكر {ذا النون} وهو لقب ليونس بن متى لابتلاع النون إياه. والنون الحوت. وفي حديث عثمان رضي الله عنه أنه رأى صبيا مليحا فقال : دسموا نونته كي لا تصيبه العين. روى ثعلب عن ابن الأعرابي : النونة النقبة التي تكون في ذقن الصبي الصغير، ومعنى دسموا سودوا. قوله تعالى {إذ ذهب مغاضبا} قال الحسن والشعبي وسعيد بن جبير : مغاضبا لربه عز وجل. واختاره الطبري والقتبي واستحسنه المهدوي، وروي عن ابن مسعود. وقال النحاس : وربما أنكره هذا من لا يعرف اللغة وهو قول صحيح. والمعنى : مغاضبا من أجل ربه، كما تقول : غضبت لك أي من أجلك. والمؤمن يغضب لله عز وجل إذا عصي. وأكثر أهل اللغة يذهب إلى أن قول النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة : (اشترطي لهم الولاء) من هذا. وبالغ القتبي في نصرة هذا القول. وفي الخبر في وصف يونس : إنه كان ضيق الصدر فلما حمل أعباء النبوة تفسخ تحتها تفسخ الربع تحت الحمل الثقيل، فمضى على وجهه مضي الآبق الناد. وهذه المغاضبة كانت صغيرة. ولم يغضب على الله ولكن غضب لله إذ رفع العذاب عنهم. وقال ابن مسعود : أبق من ربه أي من أمر ربه حتى أمره بالعودة إليهم بعد رفع العذاب عنهم. فإنه كان يتوعد قومه بنزول العذاب في وقت معلوم، وخرج من عندهم في ذلك الوقت، فأظلهم العذاب فتضرعوا فرفع عنهم ولم يعلم يونس بتوبتهم؛ فلذلك ذهب مغاضبا وكان من حقه ألا يذهب إلا بإذن محدد. وقال الحسن : أمره الله تعالى بالمسيرة إلى قومه فسأل أن ينظر ليتأهب، فأعجله الله حتى سأل أن يأخذ نعلا ليلبسها فلم ينظر، وقيل له : الأمر أعجل من ذلك - وكان في خلقه ضيق - فخرج مغاضبا لربه، فهذا قول وقول النحاس أحسن ما قيل في تأويله. أي خرج مغاضبا من أجل ربه، أي غضب على قومه من أجل كفرهم بربه وقيل : إنه غاضب قومه حين طال عليه أمرهم وتعنتهم فذهب فارا بنفسه، ولم يصبر على أذاهم وقد كان الله أمره بملازمتهم والدعاء، فكان ذنبه خروجه من بينهم من غير إذن من الله. روي عن ابن عباس والضحاك، وأن يونس كان شابا ولم يحمل أثقال النبوة؛ ولهذا قيل للنبي صلى الله عليه وسلم {ولا تكن كصاحب الحوت}[
القلم : 48]. وعن الضحاك أيضا خرج مغاضبا لقومه؛ لأن قومه لما لم يقبلوا منه وهو رسول من الله عز وجل كفروا بهذا فوجب أن يغاضبهم، وعلى كل أحد أن يغاضب من عصى الله عز وجل. وقالت فرقة منهم الأخفش : إنما خرج مغاضبا للملك الذي كان على قومه. قال ابن عباس : أراد شعيا النبي والملك الذي كان في وقته اسمه حزقيا أن يبعثوا يونس إلى ملك نينوى، وكان غزا بني إسرائيل وسبى الكثير منهم ليكلمه حتى يرسل معه بني إسرائيل، وكان الأنبياء في ذلك الزمان يوحى إليهم، والأمر والسياسة إلى ملك قد اختاروه فيعمل على وحي ذلك النبي، وكان أوحى الله لشعيا : أن قل لحزقيا الملك أن يختار نبيا قويا أمينا من بني إسرائيل فيبعثه إلى أهل نينوى فيأمرهم بالتخلية عن بني إسرائيل فإني ملق في قلوب ملوكهم وجبابرتهم التخلية عنهم. فقال يونس لشعيا : هل أمرك الله بإخراجي؟ قال : لا. قال : فهل سماني لك؟ قال : لا. قال فها هنا أنبياء أمناء أقوياء. فألحوا عليه فخرج مغاضبا للنبي الملك وقومه، فأتى بحر الروم وكان من قصته ما كان؛ فابتلي ببطن الحوت لتركه أمر شعيا؛ ولهذا قال الله تعالى {فالتقمه الحوت وهو مليم}[
الصافات : 142] والمليم من فعل ما يلام عليه. وكان ما فعله إما صغيرة أو ترك الأولى. وقيل : خرج ولم يكن نبيا في ذلك الوقت ولكن أمره ملك من ملوك بني إسرائيل أن يأتي نينوى؛ ليدعو أهلها بأمر شعيا فأنف أن يكون ذهابه إليهم بأمر أحد غير الله، فخرج مغاضبا للملك؛ فلما نجا من بطن الحوت بعثه الله إلى قومه فدعاهم وآمنوا به. وقال القشيري : والأظهر أن هذه المغاضبة كانت بعد إرسال الله تعالى إياه، وبعد رفع العذاب عن القوم بعد ما أظلهم؛ فإنه كره رفع العذاب عنهم. قلت : هذا أحسن ما قيل فيه على ما يأتي بيانه في [والصافات] إن شاء الله تعالى. وقيل : إنه كان من أخلاق قومه قتل من جربوا عليه الكذب فخشي أن يقتل فغضب، وخرج فارا على وجهه حتى ركب في سفينة فسكنت ولم تجر. فقال أهلها : أفيكم آبق؟ فقال : أنا هو. وكان من قصته ما كان، وابتلي ببطن الحوت تمحيصا من الصغيرة كما قال في أهل أحد {حتى إذا فشلتم}[
آل عمران : 152] إلى قوله {وليمحص الله الذين آمنوا}[
آل عمران : 141] فمعاصي الأنبياء مغفورة، ولكن قد يجري تمحيص ويتضمن ذلك زجرا عن المعاودة. وقول رابع : إنه لم يغاضب ربه، ولا قومه، ولا الملك، وأنه من قولهم غضب إذا أنف. وفاعل قد يكون من واحد؛ فالمعنى أنه لما وعد قومه بالعذاب وخرج عنهم تابوا وكشف عنهم العذاب، فلما رجع وعلم أنهم لم يهلكوا أنف من ذلك فخرج آبقا. وينشد هذا البيت : وأغضب أن تهجي تميم بداوم أي آنف. وهذا فيه نظر؛ فإنه يقال لصاحب هذا القول : إن تلك المغاضبة وإن كانت من الأنفة، فالأنفة لا بد أن يخالطها الغضب وإن ذلك دق على من كان؟! وأنت تقول لم يغضب على ربه ولا على قومه. قوله تعالى {فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات} قيل : معناه استنزله إبليس ووقع في ظنه إمكان ألا يقدر الله عليه بمعاقبته. وهذا قول مردود مرغوب عنه؛ لأنه كفر. روي عن سعيد بن جبير حكاه عنه المهدوي، والثعلبي عن الحسن وذكر الثعلبي وقال عطاء وسعيد بن جبير وكثير من العلماء معناه : فظن أن لن نضيق عليه. الحسن : هو من قوله تعالى {الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر}[
الرعد : 26] أي يضيق. وقوله {ومن قدر عليه رزقه}[
الطلاق : 7]. قلت : وهذا الأشبه بقول سعيد والحسن وقدر وقدر وقتر وقتر بمعنى، أي ضيق وهو قول ابن عباس فيما ذكره الماوردي والمهدوي. وقيل : هو من القدر الذي هو القضاء والحكم؛ أي فظن أن لن نقضي عليه بالعقوبة؛ قال قتادة ومجاهد والفراء. مأخوذ من القدر وهو الحكم دون القدرة والاستطاعة. وروي عن أبي العباس أحمد بن يحيى ثعلب، أنه قال في قول الله عز وجل {فظن أن لن نقدر عليه} هو من التقدير ليس من القدرة، يقال منه : قدر الله لك الخير يقدره قدرا، بمعنى قدر الله لك الخير. وأنشد ثعلب : فليست عشيات اللوى برواجع ** لنا أبدا ما أورق السلم النضر ولا عائد ذاك الزمان الذي مضى ** تباركت ما تقدر يقع ولك الشكر يعني ما تقدره وتقضي به يقع. وعلى هذين التأويلين العلماء. وقرأ عمر بن عبدالعزيز والزهري {فظن أن لن نُقدِّر عليه} بضم النون وتشديد الدال من التقدير. وحكى هذه القراءة الماوردي عن ابن عباس. وقرأ عبيد بن عمير وقتادة والأعرج {أن لن يقدر عليه} بضم الياء مشددا على، الفعل المجهول. وقرأ يعقوب وعبدالله بن أبي إسحاق والحسن وابن عباس أيضا {يُقْدَر عليه} بياء مضمومة وفتح الدال مخففا على الفعل المجهول. وعن الحسن أيضا {فظن أن لن يقدر عليه}. الباقون {نقدر} بفتح النون وكسر الدال وكله بمعنى التقدير. قلت : وهذان التأويلان تأولهما العلماء في قول الرجل الذي لم يعمل خيرا قط لأهله إذا مات فحرقوه (فوالله لئن قدر الله على) الحديث فعلى التأويل الأول يكون تقديره : والله لئن ضيق الله علي وبالغ في محاسبتي وجزائي على ذنوبي ليكونن ذلك، ثم أمر أن يحرق بإفراط خوفه. وعلى التأويل الثاني : أي لئن كان سبق في قدر الله وقضائه أن يعذب كل ذي جرم على جرمه ليعذبني الله على إجرامي وذنوبي عذابا لا يعذبه أحدا من العالمين غيري. وحديثه خرجه الأئمة في الموطأ وغيره. والرجل كان مؤمنا موحدا. وقد جاء في بعض طرقه (لم يعمل خيرا إلا التوحيد) وقد قال حين قال الله تعالى : لم فعلت هذا؟ قال : من خشيتك يا رب. والخشية لا تكون إلا لمؤمن مصدق؛ قال الله تعالى{إنما يخشى الله من عباده العلماء}. [
فاطر : 28]. وقد قيل : إن معنى {فظن أن لن نقدر عليه} الاستفهام وتقديره : أفظن، فحذف ألف الاستفهام إيجازا؛ وهو قول سليمان {أبو} المعتمر. وحكى القاضي منذر بن سعيد : أن بعضهم قرأ {أفظن} بالألف. قوله تعالى {فنادى في الظلمات} اختلف العلماء في جمع الظلمات ما المراد به، فقالت فرقة منهم ابن عباس وقتادة : ظلمة الليل، وظلمة البحر، وظلمة الحوت. وذكر ابن أبي الدنيا حدثنا يوسف بن موسى حدثنا عبيدالله بن موسى عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن عمرو بن ميمون قال حدثنا عبدالله بن مسعود في بيت المال قال : لما ابتلع الحوت يونس عليه السلام أهوى به إلى قرار الأرض، فسمع يونس تسبيح الحصى فنادى في الظلمات ظلمات ثلاث : ظلمة بطن الحوت، وظلمة الليل، وظلمة البحر {أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين} {فنبذناه بالعراء وهو سقيم}[
الصافات : 145] كهيئة الفرخ الممعوط الذي ليس عليه ريش. وقالت فرقة منهم سالم بن أبي الجعد : ظلمة البحر، وظلمة حوت التقم الحوت الأول. ويصح أن يعبر بالظلمات عن جوف الحوت الأول فقط؛ كما قال {في غيابة الجب}[
يوسف : 10] وفي كل جهاته ظلمة فجمعها سائغ. وذكر الماوردي : أنه يحتمل أن يعبر بالظلمات عن ظلمة الخطيئة، وظلمة الشدة، وظلمة الوحدة. وروي : أن الله تعالى أوحى إلى الحوت {لا تؤذ منه شعرة فإني جعلت بطنك سجنه ولم أجعله طعامك} وروي : أن يونس عليه السلام سجد في جوف الحوت حين سمع تسبيح الحيتان في قعر البحر. وذكر ابن أبي الدنيا حدثنا العباس بن يزيد العبدي حدثنا إسحاق بن إدريس حدثنا جعفر بن سليمان عن عوف عن سعيد بن أبي الحسن قال : لما التقم الحوت يونس عليه السلام ظن أنه قد مات فطول رجليه فإذا هو لم يمت فقام إلى عادته يصلي فقال في دعائه {واتخذت لك مسجدا حيث لم يتخذه أحد}. وقال أبو المعالي : قوله صلى الله عليه وسلم (لا تفضلوني على يونس بن متى) المعنى فإني لم أكن وأنا في سدرة المنتهى بأقرب إلى الله منه، وهو في قعر البحر في بطن الحوت. وهذا يدل على أن الباري سبحانه وتعالى ليس في جهة. وقد تقدم هذا المعنى في [البقرة] و[الأعراف]. {أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين} يريد فيما خالف فيه من ترك مداومة قومه والصبر عليهم وقيل : في الخروج من غير أن يؤذن له. ولم يكن ذلك من الله عقوبة؛ لأن الأنبياء لا يجوز أن يعاقبوا، وإنما كان ذلك تمحيصا. وقد يؤدب من لا يستحق العقاب كالصبيان؛ ذكره الماوردي. وقيل : من الظالمين في دعائي على قومي بالعذاب. وقد دعا نوح على قومه فلم يؤاخذ. وقال الواسطي في معناه : نزه ربه عن الظلم وأضاف الظلم إلى نفسه اعترافا واستحقاقا. ومثل هذا قول آدم وحواء {ربنا ظلمنا أنفسنا}[
الأعراف : 23] إذ كانا السبب في وضعهما أنفسهما في غير الموضع الذي أنزلا فيه. روى أبو داود عن سعد بن أبي وقاص عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (دعاء ذي النون في بطن الحوت { لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين} لم يدع به رجل مسلم في شيء قط إلا استجيب له) وقد قيل : إنه اسم الله الأعظم ورواه سعد عن النبي صلى الله عليه وسلم. وفي الخبر : في هذه الآية شرط الله لمن دعاه أن يجيبه كما أجابه كما به وينجيه كما أنجاه، وهو قوله {وكذلك ننجي المؤمنين} وليس ههنا صريح دعاء وهو وإنما هو مضمون قوله {إني كنت من الظالمين} فاعترف بالظلم فكان تلويحا. قوله تعالى {وكذلك ننجي المؤمنين} أي نخلصهم من همهم بما سبق من عملهم. وذلك قوله {فلولا أنه كان من المسبحين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون}[
الصافات : 143 - 144] وهذا حفظ من الله عز وجل لعبده يونس رعى له حق تعبده، وحفظ زمام ما سلف له من الطاعة. وقال الأستاذ أبو إسحاق : صحب ذو النون الحوت أياما قلائل فإلي يوم القيامة يقال له ذو النون، فما ظنك بعبد عبده سبعين سنة يبطل هذا عنده! لا يظن به ذلك. {من الغم} أي من بطن الحوت. قوله تعالى {وكذلك ننجي المؤمنين} قراءة العامة بنونين من أنجي ينجي. وقرأ ابن عامر {نجي} بنون واحدة وجيم مشددة وتسكين الياء على الفعل الماضي وإضمار المصدر أي وكذلك نجي النجاء المؤمنين؛ كما تقول : ضرب زيدا بمعنى ضرب الضرب زيدا وأنشد : ولو ولدت قفيرة جرو كلب ** لسب بذلك الجرو الكلابا أراد لسب السب بذلك الجرو. وسكنت ياؤه على لغة من يقول بقي ورضي فلا يحرك الياء. وقرأ الحسن {وذروا ما بقي من الربا}[
البقرة : 278] استثقالا لتحريك ياء قبلها كسرة. وأنشد : خمر الشيب لمتي تخميرا ** وحدا بي إلى القبور البعيرا ليت شعري إذا القيامة قامت ** ودعي بالحساب أين المصيرا سكن الياء في دعي استثقالا لتحريكها وقبلها كسرة وفاعل حدا المشيب؛ أي وحدا المشيب البعير؛ ليت شعري المصير أين هو. هذا تأويل الفراء وأبي عبيد وثعلب في تصويب هذه القراءة. وخطأها أبو حاتم والزجاج وقالوا : هو لحن؛ لأنه نصب اسم ما لم يسم فاعله؛ وإنما يقال : نجي المؤمنون. كما يقال : كرم الصالحون. ولا يجوز ضرب زيدا بمعنى ضرب الضرب زيدا؛ لأنه لا فائدة [فيه] إذ كان ضرب يدل على الضرب. ولا يجوز أن يحتج بمثل ذلك البيت على كتاب الله تعالى. ولأبي عبيد قول آخر - وقال القتبي - وهو أنه أدغم النون في الجيم. النحاس : وهذا القول لا يجوز عند أحد من النحويين؛ لبعد مخرج النون من مخرج الجيم فلا تدغم فيها، ولا يجوز في {من جاء بالحسنة} {مجاء بالحسنة} قال النحاس : ولم أسمع في هذا أحسن من شيء سمعته من علي بن سليمان. قال : الأصل ننجي فحذف إحدى النونين؛ لاجتماعهما كما تحذف إحدى التاءين؛ لاجتماعهما نحو قوله عز وجل {ولا تفرقوا}[
آل عمران : 103] والأصل تتفرقوا. وقرأ محمد بن السميقع وأبو العالية {وكذلك نجى المؤمنين} أي نجى الله المؤمنين؛ وهي حسنة.
فاستجبنا له دعاءه، وخلَّصناه مِن غَم هذه الشدة، وكذلك ننجي المصدِّقين العاملين بشرعنا.
: { فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ } أي: الشدة التي وقع فيها.
{ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ } وهذا وعد وبشارة، لكل مؤمن وقع في شدة وغم، أن الله تعالى سينجيه منها، ويكشف عنه ويخفف، لإيمانه كما فعل بـ " يونس " عليه السلام.
فلذلك قوله عز وجل ( فاستجبنا له ) يعني أجبناه ، ( ونجيناه من الغم ) من تلك الظلمات ، ( وكذلك ننجي المؤمنين ) من كل كرب إذا دعونا واستغاثوا بنا قرأ ابن عامر وعاصم برواية أبي بكر : " نجي " بنون واحدة وتشديد الجيم وتسكين الياء لأنها مكتوبة في المصحف بنون واحدة واختلف النحاة في هذه القراءة فذهب أكثرهم إلى أنها لحن لأنه لو كان على ما لم يسم فاعله لم تسكن الياء ورفع المؤمنون ومنهم من صوبها وذكر الفراء أن لها وجها آخر وهو إضمار المصدر أي نجا النجاء المؤمنين ونصب المؤمنين كقولك ضرب الضرب زيدا ثم تقول ضرب زيدا بالنصب على إضمار المصدر وسكن الياء في " نجي " كما يسكنون في بقي ونحوها ، قال القتيبي من قرأ بنون واحدة والتشديد فإنما أراد ننجي من التنجية إلا أنه أدغم وحذف نونا طلبا للخفة ولم يرضه النحويون لبعد مخرج النون من الجيم والإدغام يكون عند قرب المخرج وقراءة العامة ( ننجي ) بنونين من الإنجاء وإنما كتبت بنون واحدة لأن النون الثانية كانت ساكنة والساكن غير ظاهر على اللسان فحذفت كما فعلوا في إلا حذفوا النون من إن لخفائها واختلفوا في أن رسالة يونس متى كانت ؟ فروى سعيد بن جبير عن ابن عباس : كانت بعد أن أخرجه الله من بطن الحوت بدليل أن الله عز وجل ذكره في سورة الصافات ، ( فنبذناه بالعراء ) ( الصافات 145 ) ، ثم ذكر بعده ( وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون ) ( الصافات 147 ) ، وقال الآخرون إنها كانت من قبل بدليل قوله تعالى ( وإن يونس لمن المرسلين إذ أبق إلى الفلك المشحون ) ( الصافات 139 - 140 ) .
(فَاسْتَجَبْنا) فعل ماض وفاعله والجملة معطوفة على ما قبلها (لَهُ) متعلقان بالفعل (وَنَجَّيْناهُ) الجملة معطوفة (مِنَ الْغَمِّ) متعلقان بنجيناه (وَكَذلِكَ) الواو استئنافية والكاف حرف جر وذا اسم إشارة في محل جر متعلقان بمحذوف صفة مفعول مطلق واللام للبعد والكاف للخطاب (نُنْجِي) مضارع مرفوع بالضمة المقدرة على الياء للثقل فاعله مستتر (الْمُؤْمِنِينَ) مفعول به منصوب بالياء لأنه جمع مذكر سالم والجملة مستأنفة.
Traslation and Transliteration:
Faistajabna lahu wanajjaynahu mina alghammi wakathalika nunjee almumineena
Then we heard his prayer and saved him from the anguish. Thus we save believers.
Derken duasını kabul etmiştik onun ve gamdan kurtarmıştık onu ve böyle kurtarırız insanları.
Nous l'exauçâmes et le sauvâmes de son angoisse. Et c'est ainsi que Nous sauvons les croyants.
Dann erhörten WIR ihn und erretteten ihn von der Not. Und solcherart erretten WIR die Mumin.