«ربنا إني أسكنت من ذريتي» أي بعضها وهو إسماعيل مع أمه هاجر «بواد غير ذي زرع» هو مكة «عند بيتك المحرم» الذي كان قبل الطوفان «ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة» قلوبا «من الناس تهوي» تميل وتحنُّ «إليهم» قال ابن عباس لو قال أفئدة الناس لحنت إليه فارس والروم والناس كلهم «وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون» وقد فعل بنقل الطائف إليه.
سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (50) لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (51) هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (52)
[ «هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ» ]
-الوجه الأول - «هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ» فهو بلاغ للإنسان من كونه من الناس «وَلِيُنْذَرُوا بِهِ» من كونه على قدم غرور وخطر فيحذرو «وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ»
أي بفعل ما يريد ما ثمّ آخر يرده عن إرادته فيك ويصده «وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ»
بما أشهدهم على نفسه أنه ربه ، ليقوم بما يجب على المملوك في حق سيده الذي أقر له بالملك ، فإن التذكر لا يكون إلا عن علم متقدم منسي ، فيذكره من يعلم ذلك ، فالقرآن بلاغ من وجه وإنذار من وجه وإعلام من وجه وتذكرة لما نسيه من وجه ، والمخاطب بهذا كله واحد العين وهو الإنسان
- الوجه الثاني -ميز اللّه بين طبقات العالم ليعلموا أن اللّه قد رفع بعضهم فوق بعض درجات فقال : «هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ» يريد طائفة مخصوصة لا يعقلون منه سوى أنه بلاغ ، يسمعون حروفه إيمانا بها أنها من عند اللّه لا يعرفون غير ذلك «وَلِيُنْذَرُوا بِهِ» في حق طائفة أخرى عينها بهذا الخطاب «وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ» في حق طائفة أخرى عينها بهذا الخطاب ، وأراد بالعلم هنا الإيمان ، وهو الذي يعول عليه في السعادة ، فإن اللّه به أمر ،
وسميناه علما لكون المخبر هو اللّه فقال : (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ) وقال تعالى : «وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ» «وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ» في حق طائفة أخرى وهم العلماء باللّه وبالأمر على ما هو عليه ، فيتذكر أرباب العقول ما كانوا قد علموه قبل ، أي ما جاءوا بما تحيله الأدلة الغامض إدراكها ،
فإنها لب الدلالات ، والقرآن واحد في نفسه ، تكون الآية منه تذكرة لذي اللب ، وتوحيدا لطالب العلم بتوحيده ، وإنذارا للمترقب الحذر ، وبلاغا للسامع ليحصل له أجر السماع ، كالأعجمي الذي لا يفهم اللسان ، فيسمع
فيعظم كلام اللّه من حيث نسبته إلى اللّه ، ولا يعرف معنى ذلك اللفظ حتى يشرح له بلسانه ويترجم له عنه .
(15) سورة الحجر مكيّة
بسم اللّه الرّحمن الرّحيم
------------
(51) الفتوحات ج 4 /
268 - ج 3 /
85 - ج 1 /
513">
513 - ج 3 /
85 - ج 1 /
326 - ج 3 /
85 - ج 1 /
513">
513 - ج 3 /
544
وهذا يدل على أن هذا دعاء ثان بعد الدعاء الأول الذي دعا به عندما ولى عن هاجر وولدها - وذلك قبل بناء البيت ، وهذا كان بعد بنائه - تأكيدا ورغبة إلى الله - عز وجل - ; ولهذا قال : ( عند بيتك المحرم )
وقوله : ( ربنا ليقيموا الصلاة ) قال ابن جرير : هو متعلق بقوله : " المحرم " أي : إنما جعلته محرما ليتمكن أهله من إقامة الصلاة عنده .
( فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم ) قال ابن عباس ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير : لو قال : " أفئدة الناس " لازدحم عليه فارس والروم واليهود والنصارى والناس كلهم ، ولكن قال : ( من الناس ) فاختص به المسلمون .
وقوله : ( وارزقهم من الثمرات ) أي : ليكون ذلك عونا لهم على طاعتك وكما أنه ( واد غير ذي زرع ) فاجعل لهم ثمارا يأكلونها . وقد استجاب الله ذلك ، كما قال : ( أولم نمكن لهم حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شيء رزقا من لدنا ) [ القصص : 57 ] وهذا من لطفه تعالى وكرمه ورحمته وبركته أنه ليس في البلد الحرام مكة شجرة مثمرة ، وهي تجبى إليها ثمرات ما حولها ، استجابة لخليله إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - .
فيه ست مسائل: الأولى: روى البخاري عن ابن عباس : (أول ما اتخذ النساء المِنطق من قِبل أم إسماعيل؛ اتخذت مِنطقا لتعفِّي أثرها على سارة، ثم جاء بها إبراهيم وبابنها إسماعيل وهي ترضعه، حتى وضعهما عند البيت عند دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد؛ وليس، بمكة يومئذ أحد، وليس بها ماء، فوضعهما هنالك؛ ووضع عندهما جرابا فيه تمر، وسقاء فيه ماء، ثم قفى إبراهيم منطلقا فتبعته أم إسماعيل؛ فقالت : يا إبراهيم! أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه إنس ولا شيء، فقالت له ذلك مرارا وجعل لا يلتفت إليها، فقالت له : آلله أمرك بهذا؟ قال : نعم. قالت: إذا لا يضيعنا؛ ثم رجعت، فانطلق إبراهيم حتى إذا كان عند الثَّنية حيث لا يرونه، استقبل بوجهه البيت ثم دعا بهذه الدعوات، ورفع يديه فقال {ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع} [إبراهيم : 37] حتى بلغ {يشكرون} وجعلت أم إسماعيل ترضع إسماعيل وتشرب من ذلك الماء، حتى إذا نفد ما في السقاء عطشت وعطش ابنها، وجعلت تنظر إليه يتلوى - أو قال يتلبط - فانطلقت كراهية أن تنظر إليه، فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها، فقامت عليه، ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحدا، فلم تر أحدا، فهبطت من الصفا، حتى إذا بلغت الوادي، رفعت طرف درعها، ثم سعت سعي الإنسان المجهود، ثم جاوزت الوادي، ثم أتت المروة فقامت عليه، فنظرت هل ترى أحدا فلم تر أحدا، ففعلت ذلك سبع مرات؛ قال ابن عباس قال النبي صلى الله عليه وسلم : (فذلك سعي الناس بينهم) فلما أشرفت على المروة سمعت صوتا فقالت : صه! تريد نفسها، ثم تسمعت فسمعت أيضا فقالت : قد أسمعت، إن كان عندك غواث! فإذا هي بالملك عند موضع زمزم فبحث بعقبه - أو قال بجناحه - حتى ظهر الماء، فجعلت تُحَوِّضُه وتقول بيدها هكذا، وجعلت تغرف من الماء في سقائها وهو يفور بعدما تغرف؛ قال ابن عباس قال النبي صلى الله عليه وسلم : (يرحم الله أم إسماعيل لو تركت زمزم - أو قال : لو لم تغرف من الماء - لكانت زمزم عينا معينا) قال : فشربت وأرضعت ولدها فقال لها الملك : لا تخافي الضيعة فإن هاهنا بيت الله يبنيه هذا الغلام وأبوه، وإن الله لا يضيع أهله) وذكر الحديث بطوله. مسألة : لا يجوز لأحد أن يتعلق بهذا في طرح ولده وعياله بأرض مضيعة اتكالا على العزيز الرحيم، واقتداء بفعل إبراهيم الخليل، كما تقول غلاة الصوفية في حقيقة التوكل، فإن إبراهيم فعل ذلك بأمر الله لقوله في الحديث : آلله أمرك بهذا؟ قال : نعم. وقد روي أن سارة لما غارت من هاجر بعد أن ولدت إسماعيل خرج بها إبراهيم عليه السلام إلى مكة، فروي أنه ركب البراق هو وهاجر والطفل فجاء في يوم واحد من الشام إلى بطن مكة، وترك ابنه وأمته هنالك وركب منصرفا من يومه، فكان ذلك كله بوحي من الله تعالى، فلما ولي دعا بضمن هذه الآية. الثانية: لما أراد الله تأسيس الحال، وتمهيد المقام، وخط الموضع للبيت المكرم، والبلد المحرم، أرسل الملك فبحث عن الماء وأقامه مقام الغذاء، وفي الصحيح : أن أبا ذر رضي الله عنه اجتزأ به ثلاثين بين يوم وليلة، قال أبو ذر : ما كان لي طعام إلا ماء زمزم فسمنت حتى تكسرت عُكَني، وما أجد على كبدي سخفة جوع؛ وذكر الحديث. وروى الدارقطني عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (ماء زمزم لما شرب له إن شربته تشتفي به شفاك الله وإن شربته لشبعك أشبعك الله به وإن شربته لقطع ظمئك قطعه وهي هزمة جبريل وسقيا الله إسماعيل). وروي أيضا عن عكرمة قال : كان ابن عباس إذا شرب من زمزم قال : اللهم إني أسألك علما نافعا، ورزقا واسعا، وشفاء من كل داء. قال ابن العربي : وهذا موجود فيه إلى يوم القيامة لمن صحت نيته، وسلمت طويته، ولم يكن به مكذِّبا، ولا يشربه مجرِّبا، فإن الله مع المتوكلين، وهو يفضح المجربين. وقال أبو عبدالله محمد بن علي الترمذي وحدثني أبي رحمه الله قال : دخلت الطواف في ليلة ظلماء فأخذني من البول ما شغلني، فجعلت أعتصر حتى أذاني، وخفت إن خرجت من المسجد أن أطأ بعض تلك الأقدام، وذلك أيام الحج؛ فذكرت هذا الحديث، فدخلت زمزم فتضلعت منه، فذهب عني إلى الصباح. وروي عن عبدالله بن عمرو : إن في زمزم عينا في الجنة من قِبل الركن. الثالثة: قوله تعالى {ومن ذريتي} {من} في قوله تعالى {من ذريتي} للتبعيض أي أسكنت بعض ذريتي؛ يعني إسماعيل وأمه، لأن إسحاق كان بالشام. وقيل : هي صلة؛ أي أسكنت ذريتي. الرابعة: قوله تعالى {عند بيتك المحرم} يدل على أن البيت كان قديما على ما روي قبل الطوفان، وقد مضى هذا المعنى في سورة [البقرة]. أضاف البيت إليه لأنه لا يملكه غيره، ووصفه بأنه محرم، أي يحرم فيه ما يستباح في غيره من جماع واستحلال. وقيل : محرم على الجبابرة، وأن تنتهك حرمته، ويستخف بحقه، قاله قتادة وغيره. وقد مضى القول في هذا في [المائدة]. الخامسة: {ربنا ليقيموا الصلاة} خصها من جملة الدين لفضلها فيه، ومكانها منه، وهي عهد الله عند العباد؛ قال صلى الله عليه وسلم : (خمس صلوات كتبهن الله على العباد). الحديث. واللام في {ليقيموا الصلاة} لام كي؛ هذا هو الظاهر فيها وتكون متعلقة بـ{أسكنت} ويصح أن تكون لام أمر، كأنه رغب إلى الله أن يأتمنهم وأن يوفقهم لإقامة الصلاة. السادسة: تضمنت هذه الآية أن الصلاة بمكة أفضل من الصلاة بغيرها؛ لأن معنى {ربنا ليقيموا الصلاة} أي أسكنتهم عند بيتك المحرم ليقيموا الصلاة فيه. وقد اختلف العلماء هل الصلاة بمكة أفضل أو في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم؟ فذهب عامة أهل الأثر إلى أن المسجد الحرام أفضل من الصلاة في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم بمائة صلاة، واحتجوا بحديث عبدالله بن الزبير قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام وصلاة في المسجد الحرام أفضل من صلاة مسجدي هذا بمائة صلاة). قال الإمام الحافظ أبو عمر : وأسند هذا الحديث حبيب المعلم عن عطاء بن أبي رباح عن عبدالله بن الزبير وجوده، ولم يخلط في لفظه ولا في معناه، وكان ثقة. قال ابن أبي. خيثمة سمعت يحيى بن معين يقول : حبيب المعلم ثقة. وذكر عبدالله بن أحمد قال سمعت أبي يقول : حبيب المعلم ثقة ما أصح حديثه! وسئل أبو زرعة الرازي عن حبيب المعلم فقال : بصري ثقة. قلت : وقد خرج حديث حبيب المعلم هذا عن عطاء بن أبي رباح عن عبدالله بن الزبير عن النبي صلى الله عليه وسلم الحافظ أبو حاتم محمد بن حاتم التميمي البستي في المسند الصحيح له، فالحديث صحيح وهو الحجة عند التنازع والاختلاف. والحمد لله. قال أبو عمر : وقد روي عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل حديث ابن الزبير؛ رواه موسى الجهني عن نافع عن ابن عمرو؛ وموسى الجهني الكوفي ثقة، أثنى عليه القطان وأحمد ويحيى وجماعتهم. وروى عنه شعبة. والثوري ويحيى بن سعيد. وروى حكيم بن سيف، حدثنا عبيدالله بن عمر؛ عن عبدالكريم عن عطاء بن أبي رباح، عن جابر بن عبدالله قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف فيمن سواه). وحكيم بن سيف هذا شيخ من أهل الرقة قد روى عنه أبو زرعة الرازي، وأخذ عنه ابن وضاح، وهو عندهم شيخ صدوق لا بأس به. فإن كان حفظ فهما حديثان، وإلا فالقول قول حبيب المعلم. وروى محمد بن وضاح، حدثنا يوسف بن عدي عن عمر بن عبيد عن عبدالملك عن عطاء عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة في غيره من المساجد إلا المسجد الحرام فإن الصلاة فيه أفضل). قال أبو عمر : وهذا كله نص في موضع الخلاف قاطع له عند من ألهم رشده، ولم تمل به عصيته. وذكر ابن حبيب عن مطرف وعن أصبغ عن ابن وهب أنهما كانا يذهبان إلى تفضيل الصلاة في المسجد الحرام على الصلاة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم على ما في هذا الباب. وقد اتفق مالك وسائر العلماء على أن صلاة العيدين يبرز لهما في كل بلد إلا مكة فإنها تصلي في المسجد الحرام. وكان عمر وعلي وابن مسعود وأبو الدرداء وجابر يفضلون مكة ومسجدها وهم أولى بالتقليد ممن بعدهم؛ وإلى هذا ذهب الشافعي. وهو قول عطاء والمكيين والكوفيين، وروي مثله عن مالك؛ ذكر ابن وهب في جامعه عن مالك أن آدم عليه السلام لما أهبط إلى الأرض قال : يا رب هذه أحب إليك أن تعبد فيها؟ قال : بل مكة. والمشهور عنه وعن أهل المدينة تفضيل المدينة، واختلف أهل البصرة والبغداديون في ذلك؛ فطائفة تقول مكة، وطائفة تقول المدينة. قوله تعالى {فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم} الأفئدة جمع فؤاد وهي القلوب، وقد يعبر عن القلب بالفؤاد كما قال الشاعر : وإن فؤادا قادني بصبابة ** إليك على طول المدى لصبور وقيل : جمع وفد، والأصل أوفدة، فقدمت الفاء وقلبت الواو ياء كما هي، فكأنه قال : واجعل وفودا من الناس تهوي إليهم؛ أي تنزع؛ يقال : هوي نحوه إذا مال، وهوت الناقة تهوي هويا فهي هاوية إذا عدت عدوا شديدا كأنها في هواء بئر، وقوله {تهوي إليهم} مأخوذ منه. قال ابن عباس ومجاهد : لو قال أفئدة الناس لازدحمت عليه فارس والروم والترك والهند واليهود والنصارى والمجوس، ولكن قال {من الناس} فهم المسلمون؛ فقوله {تهوي إليهم} أي تحن إليهم، وتحن إلى زيارة البيت. وقرأ مجاهد {تهوَى إليهم} أي تهواهم وتجلهم. {وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون} فاستجاب الله دعاءه، وأنبت لهم بالطائف سائر الأشجار، وبما يجلب إليهم من الأمصار. وفي صحيح البخاري عن ابن عباس الحديث الطويل وقد ذكرنا بعضه : (فجاء إبراهيم بعد ما تزوج إسماعيل يطالع تركته فلم يجد إسماعيل، فسأل امرأته عنه فقالت : خرج يبتغي لنا، ثم سألهم عن عيشهم وهيئتهم فقالت : نحن بِشَرٍّ، نحن في ضيق وشدة؛ فشكت إليه، قال : فإذا جاء زوجك فاقرئي عليه السلام وقولي له يغير عتبة بابه، فلما جاء إسماعيل كأنه أنس شيئا فقال : هل جاءكم من أحد! قالت : نعم جاءنا شيخ كذا وكذا فسألني عنك فأخبرته، وسألني كيف عيشتنا فأخبرته أنا في جهد وشدة، قال فهل أوصاك بشيء : قالت : أمرني أن أقرأ عليك السلام، ويقول : غير عتبة بابك؛ قال : ذاك أبي وقد أمرني أن أفارقك ألحقي بأهلك؛ فطلقها وتزوج منهم أخرى، فلبث عنهم إبراهيم ما شاء الله ثم أتاهم بعد فلم يجده، ودخل على امرأته فسألها عنه فقالت : خرج يبتغي لنا. قال : كيف أنتم؟ وسألها عن عيشهم وهيئتهم فقالت : نحن بخير وسعة وأثنت على الله. قال ما طعامكم؟ قالت : اللحم. قال فما شرابكم؟ قالت : الماء. قال : اللهم بارك لهم في اللحم والماء. قال النبي صلى الله عليه وسلم : (ولم يكن لهم يومئذ حب ولو كان لهم دعا لهم فيه). قال : فهما لا يخلو عليهما أحد بغير مكة إلا لم يوافقاه؛ وذكر الحديث. وقال ابن عباس : قول إبراهيم {فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم} سأل أن يجعل الله الناس يهوون السكنى بمكة، فيصير بيتا محرما، وكل ذلك كان والحمد لله. وأول من سكنه جرهم. ففي البخاري - بعد قوله : وإن الله لا يضيع أهله - وكان البيت مرتفعا من الأرض كالرابية تأتيه السيول فتأخذ عن يمينه وعن شماله، وكذلك حتى مرت بهم رفقة من جرهم قافلين من طريق كذا، فنزلوا بأسفل مكة، فرأوا طائرا عائفا فقالوا : إن هذا الطائر ليدور على ماء! لعهدنا بهذا الوادي وما فيه ماء؛ فأرسلوا جريا أو جريين فإذا هم بالماء، فأخبروهم بالماء فأقبلوا. قال : وأم إسماعيل عند الماء؛ فقالوا : أتأذنين لنا أن ننزل عندك؟ قالت : نعم ولكن لا حق لكم في الماء. قالوا : نعم. قال ابن عباس قال النبي صلى الله عليه وسلم : (فألفى ذلك أم إسماعيل وهي تحب الأنس) فنزلوا وأرسلوا إلى أهلهم فنزلوا معهم حتى إذا كان بها أهل أبيات منهم، شب الغلام، وماتت أم إسماعيل، فجاء إبراهيم بعد ما تزوج إسماعيل يطالع تركته؛ الحديث.
ربنا إني أسكنت من ذريتي بوادٍ ليس فيه زرع ولا ماء بجوار بيتك المحرم، ربنا إنني فعلت ذلك بأمرك؛ لكي يؤدوا الصلاة بحدودها، فاجعل قلوب بعض خلقك تَنزع إليهم وتحنُّ، وارزقهم في هذا المكان من أنواع الثمار؛ لكي يشكروا لك على عظيم نعمك. فاستجاب الله دعاءه.
وذلك أنه أتى بـ "هاجر" أم إسماعيل وبابنها إسماعيل عليه الصلاة والسلام وهو في الرضاع، من الشام حتى وضعهما في مكة وهي -إذ ذاك- ليس فيها سكن، ولا داع ولا مجيب، فلما وضعهما دعا ربه بهذا الدعاء فقال -متضرعا متوكلا على ربه: { رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي } أي: لا كل ذريتي لأن إسحاق في الشام وباقي بنيه كذلك وإنما أسكن في مكة إسماعيل وذريته، وقوله: { بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ } أي: لأن أرض مكة لا تصلح للزراعة.
{ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاة } أي: اجعلهم موحدين مقيمين الصلاة لأن إقامة الصلاة من أخص وأفضل العبادات الدينية فمن أقامها كان مقيما لدينه، { فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ } أي: تحبهم وتحب الموضع الذي هم ساكنون فيه.
فأجاب الله دعاءه فأخرج من ذرية إسماعيل محمدا صلى الله عليه وسلم حتى دعا ذريته إلى الدين الإسلامي وإلى ملة أبيهم إبراهيم فاستجابوا له وصاروا مقيمي الصلاة.
وافترض الله حج هذا البيت الذي أسكن به ذرية إبراهيم وجعل فيه سرا عجيبا جاذبا للقلوب، فهي تحجه ولا تقضي منه وطرا على الدوام، بل كلما أكثر العبد التردد إليه ازداد شوقه وعظم ولعه وتوقه، وهذا سر إضافته تعالى إلى نفسه المقدسة.
{ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ } فأجاب الله دعاءه، فصار يجبي إليه ثمرات كل شيء، فإنك ترى مكة المشرفة كل وقت والثمار فيها متوفرة والأرزاق تتوالى إليها من كل جانب.
قوله عز وجل : ( ربنا إني أسكنت من ذريتي ) أدخل " من " للتبعيض ، ومجاز الآية : أسكنت من ذريتي ولدا ( بواد غير ذي زرع ) وهو مكة; لأن مكة واد بين جبلين ( عند بيتك المحرم ) سماه محرما لأنه يحرم عنده ما لا يحرم عند غيره .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا عبد الله بن محمد ، حدثنا عبد الرزاق ، أنبأنا معمر ، عن أيوب السختياني وكثير بن [ أبي كثير بن ] المطلب بن أبي وداعة - يزيد أحدهما على الآخر - عن سعيد بن جبير [ قال ] قال ابن عباس : أول ما اتخذ النساء المنطق من قبل أم إسماعيل ، اتخذت منطقا لتعفي أثرها على سارة ، ثم جاء بها إبراهيم عليه السلام ، وبابنها إسماعيل ، وهي ترضعه ، حتى وضعهما عند البيت عند دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد ، وليس بمكة يومئذ أحد وليس بها ماء ، فوضعهما هنالك ، ووضع عندهما جرابا فيه تمر ، وسقاء فيه ماء ، ثم قفل إبراهيم منطلقا ، فتبعته أم إسماعيل فقالت : يا إبراهيم ، أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه إنس ولا شيء ؟ فقالت له ذلك مرارا وجعل لا يلتفت إليها ، فقالت له : آلله أمرك بهذا ؟ قال : نعم ، قالت : إذن لا يضيعنا ، ثم رجعت ، فانطلق إبراهيم حتى إذا كان عند الثنية حيث لا يرونه استقبل بوجهه البيت ، ثم دعا بهؤلاء الدعوات فرفع يديه ، فقال : ( ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع ) حتى بلغ " يشكرون " .
وجعلت أم إسماعيل ترضع إسماعيل وتشرب من ذلك الماء حتى إذا نفد ما في السقاء عطشت وعطش ابنها ، وجعلت تنظر إليه يتلبط أو قال يتلوى ، وانطلقت كراهية أن تنظر إليه ، فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها ، فقامت عليه ، ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحدا ، فلم تر أحدا ، فهبطت من الصفا حتى إذا بلغت الوادي رفعت طرف درعها ، ثم سعت سعي الإنسان المجهود حتى جاوزت الوادي ، ثم أتت المروة فقامت عليها ونظرت هل ترى أحدا ، فلم تر أحدا ، ففعلت ذلك سبع مرات .
قال ابن عباس : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " فلذلك سعى الناس بينهما " .
فلما أشرفت على المروة سمعت صوتا فقالت : صه - تريد نفسها - ثم تسمعت فسمعت أيضا فقالت : قد أسمعت إن كان عندك غواث ، فإذا هي بالملك عند موضع زمزم ، فبحث بعقبه - أو قال بجناحه - حتى ظهر الماء فجعلت تخوضه وتقول بيدها هكذا ، وجعلت تغرف من الماء في سقائها وهو يفور بعدما تغرف .
قال ابن عباس : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " يرحم الله أم إسماعيل لو تركت زمزم " أو قال : " لو لم تغرف من الماء لكانت زمزم عينا معينا " .
قال : فشربت وأرضعت ولدها ، فقال لها الملك : لا تخافوا الضيعة فإن هاهنا بيت الله ، يبنيه هذا الغلام وأبوه ، وإن الله لا يضيع أهله .
وكان موضع البيت مرتفعا من الأرض كالرابية ، تأتيه السيول فتأخذ عن يمينه وشماله فكانت كذلك ، حتى مرت بهم رفقة منجرهم - أو أهل بيت من جرهم - مقبلين من طريق كداء ، فنزلوا في أسفل مكة ، فرأوا طائرا عائفا ، فقالوا : إن هذا الطائر ليدور على ماء ، ولعهدنا بهذا الوادي وما فيه ماء ، فأرسلوا جريا أو جريين فإذا هم بالماء ، فرجعوا فأخبروهم بالماء ، فأقبلوا وأم إسماعيل عند الماء ، فقالوا : أتأذنين لنا أن ننزل عندك ؟ فقالت : نعم ، ولكن لا حق لكم في الماء ، قالوا : نعم .
قال ابن عباس : قال النبي صلى الله عليه وسلم : فألفى ذلك أم إسماعيل وهي تحب الأنس ، فنزلوا وأرسلوا إلى أهليهم فنزلوا معهم حتى إذا كان بها أهل أبيات منهم وشب الغلام وتعلم العربية منهم ، وأنفسهم وأعجبهم حين شب ، فلما أدرك زوجوه امرأة منهم . وماتت أم إسماعيل فجاء إبراهيم بعدما تزوج إسماعيل يطالع تركته . . . ذكرنا تلك القصة في سورة البقرة .
قوله تعالى : ( ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس ) الأفئدة : جمع الفؤاد ( تهوي إليهم ) تشتاق وتحن إليهم .
قال السدي : معناه أمل قلوبهم إلى هذا الموضع .
قال مجاهد : لو قال أفئدة الناس لزاحمتكم فارس ، والروم ، والترك ، والهند .
وقال سعيد بن جبير : لحجت اليهود والنصارى والمجوس ، ولكنه قال : " أفئدة من الناس " وهم المسلمون .
( وارزقهم من الثمرات ) ما رزقت سكان القرى ذوات الماء ( لعلهم يشكرون ) .
(رَبَّنا) منادى بأداة نداء محذوفة منصوب ونا مضاف إليه وجملة النداء لا محل لها (إِنِّي) إن واسمها (أَسْكَنْتُ) ماض وفاعله والجملة خبر والجملة الاسمية مستأنفة (مِنْ ذُرِّيَّتِي) متعلقان بأسكنت والياء مضاف إليه (بِوادٍ) متعلقان بأسكنت (غَيْرِ) صفة لواد (ذِي) مضاف إليه (زَرْعٍ) مضاف إليه (عِنْدَ) ظرف مكان متعلق بأسكنت (بَيْتِكَ) مضاف إليه والكاف مضاف إليه (الْمُحَرَّمِ) صفة لبيتك (رَبَّنا) منادى بأداة محذوفة منصوب ونا مضاف إليه (لِيُقِيمُوا) اللام للتعليل ومضارع منصوب بأن مضمرة وعلامة نصبه حذف النون والواو فاعل والجملة مستأنفة والجار والمجرور المكون من اللام وما بعدها في تأويل المصدر متعلقان بأسكنت (الصَّلاةَ) مفعول به (فَاجْعَلْ) الفاء الفصيحة وفعل دعاء فاعله مستتر والجملة لا محل لها لأنها جملة جواب شرط غير جازم (أَفْئِدَةً) مفعول به (مِنَ النَّاسِ) صفة لأفئدة (تَهْوِي) مضارع مرفوع بالضمة المقدرة على الياء للثقل وفاعله مستتر (إِلَيْهِمْ) متعلقان بتهوي (وَارْزُقْهُمْ) فعل دعاء فاعله مستتر والهاء مفعول به وهو معطوف على ما سبق (مِنَ الثَّمَراتِ) متعلقان بارزقهم (لَعَلَّهُمْ) لعل واسمها (يَشْكُرُونَ) مضارع مرفوع بثبوت النون والواو فاعل والجملة خبر لعل وجملة لعل واسمها وخبرها تعليل لا محل لها من الإعراب.
Traslation and Transliteration:
Rabbana innee askantu min thurriyyatee biwadin ghayri thee zarAAin AAinda baytika almuharrami rabbana liyuqeemoo alssalata faijAAal afidatan mina alnnasi tahwee ilayhim waorzuqhum mina alththamarati laAAallahum yashkuroona
Our Lord! Lo! I have settled some of my posterity in an uncultivable valley near unto Thy holy House, our Lord! that they may establish proper worship; so incline some hearts of men that they may yearn toward them, and provide Thou them with fruits in order that they may be thankful.
Rabbimiz, soyumun bir kısmını ekin bitmez bir yere, hürmeti vacib olan evinin yanına yerleştirdim, Rabbimiz, namaz kılsınlar diye. Artık insanların bir kısmı da onlara gönül versin, sevsinler onları ve şükretmeleri için de meyvelerle rızıklandır onları.
O notre Seigneur, j'ai établi une partie de ma descendance dans une vallée sans agriculture, près de Ta Maison sacrée [la Ka'ba], - ô notre Seigneur - afin qu'ils accomplissent la Salât. Fais donc que se penchent vers eux les cœurs d'une partie des gens. Et nourris-les de fruits. Peut-être seront-ils reconnaissants?
Unser HERR! Ich ließ von meiner Nachkommenschaft in einem unfruchtbaren Tal nieder - bei Deinem Muharram-Haus, unser HERR! - damit sie das rituelle Gebet ordnungsgemäß verrichten. So lasse Herzen von Menschen ihnen zugeneigt sein und gewähre ihnen Rizq von den Früchten, damit sie sich dankbar erweisen.