الحضرات الإلهية والأسماء ءالحسنى
وهو الباب 558 من الفتوحات المكية
(الجامع حضرة الجمع)
![]() |
![]() |
[91] - (الجامع حضرة الجمع)
إنما الجمع وجود *** ليس في الجمع افتراق
إنما الفرق الذي *** فيه له بنا اتفاق
فله في الحكم فينا *** من وجودنا اشتقاق
ولنا عليه حكم *** قيده فيه انطلاق
[إن الحق عين الوجود]
يدعى صاحبها عبد الجامع قال الله تعالى إن الله جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ فهو في نفسه جامع علمه العالم علمه بنفسه فخرج العالم على صورته فلذلك قلنا إن الحق عين الوجود ومن هذه الحضرة جمع العالم كله على تسبيحه بحمده وعلى السجود له إلا كثير من الناس ممن حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ فسجد لله في صورة غير مشروعة فأخذ بذلك مع أنه ما سجد إلا لله في المعنى فافهم ومن هذه الحضرة ظهر جنس الأجناس وهو المعلوم ثم المذكور ثم الشيء فجنس الأجناس هو الجنس الأعم الذي لم يخرج عنه معلوم أصلا لا خلق ولا حق ولا ممكن ولا واجب ولا محال ثم انقسم الجنس الأعم إلى أنواع تلك الأنواع نوع لما فوقها وجنس لما تحتها من الأنواع إلى أن تنتهي إلى النوع الأخير الذي لا نوع بعده إلا بالصفات وهنا تظهر أعيان الأشخاص وكل ذلك جمع دون جمع من هذه الحضرة وأقل الجموع اثنان فصاعدا ولم يكن الأمر جمعا ما ظهر حكم كثرة الأسماء والصفات والنسب والإضافات والعدد وإن كانت الأحدية تصحب كل جمع فلا بد من الجمع في الأحد ولا بد من الأحد في الجمع فكل واحد بصاحبه وقال تعالى من هذه الحضرة وهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ والمعية صحبة والصحبة جمع وقال ما يَكُونُ من نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ ولا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ ولا أَدْنى من ذلِكَ وهو الواحد ولا أَكْثَرَ إلى ما لا يتناهى إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ فإن كان واحدا فهو الثاني له لأنه معه فظهر الجمع به فهو الجامع ثم ما زاد على واحد فهو مع ذلك المجموع من غير لفظه أي لا يقال هو ثالث ثلاثة وإنما يقال ثالث اثنين ورابع ثلاثة وخامس أربعة لأنه ليس من جنس ما أضيف إليه بوجه من الوجوه لأنه لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ولما كانت هذه الحضرة لها الدوام في الجمعية ولا تعقل إلا جامعة وما لها أثر إلا الجمع وما تفرق إلا لتجمع وقد علمت إن الدليل
يضاد المدلول وأن الدال وهو الناظر في الدليل إذا كان فيه ومعه مجتمعا لا يكون مع المدلول ودليلك على الحق نفسك والعالم كما قال سَنُرِيهِمْ آياتِنا أي الدلالة علينا في الْآفاقِ وفي أَنْفُسِهِمْ وقال من عرف نفسه عرف ربه
جعلك دليلا عليه فجمعك بك وفرقك عنه في حال جمعك بك ثم قال لأبي يزيد اترك نفسك وتعالى ففرقك عنك لتجتمع به ولا تجتمع به حتى تنظر في الدليل به لا بك فتعلم أنك ما زلت مجتمعا به في حال نظرك في الدليل فإنه سمعك وبصرك فأنت وهو مجتمعان في حال طلبك إياه فمن تطلب أو من يطلب فما برحت في عين الجمع به وهو الجامع لنفسه بك لمحبته فيك وهذا من أعجب الأحوال الطلب في عين التحصيل
إنما الحال ملعب *** ولنا فيه مذهب
هو ميداننا الذي *** فيه نلهو ونلعب
وبهن ننكح العذارى *** ونسقي ونشرب
فانظروا في صنيعه *** واعجبوا منه واعجبوا
ما لنا فيه مطلب *** وله في مطلب
[حكم الجمع في الوجود وفي العدم]
لما كان الدوام لمعية الحق مع العالم لم يزل حكم الجمع في الوجود وفي العدم فإنه مع الممكن في حال عدمه كما هو معه في حال وجوده فأينما كنا فالله معنا فالتوحيد معقول غير موجود والجمع موجود ومعقول ولِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وليست إلا درجة الوجود لو أراد التوحيد ما أوجد العالم وهو يعلم أنه إذا أوجده أشرك به ثم أمره بتوحيده فما عاد عليه إلا فعله فقد كان ولا شيء معه يتصف بالوجود فهو أول من سن الشرك لأنه أشرك معه العالم في الوجود فما فتح العالم عينه ولا أبصر نفسه إلا شريكا في الوجود فليس له في التوحيد ذوق فمن أين يعرفه فلما قيل له وحد خالقك لم يفهم هذا الخطاب فكرر عليه وأكد وقيل له عن الواحد صدرت فقال ما أدري ما تقول لا اعقل إلا الاشتراك فإن صدوري عن ذات واحدة لا نسبة بيني وبينها لا يصح فلا بد أن يكون مع نسبة علمية أو نسبة قادرية لا بد من ذلك ثم إنه وإن كان قادرا فلا بد من الاشتراك الثاني وهو أن يكون لي من ذاتي القبول لاقتداره وتأثيره في وجودي فما صدرت عن واحد وإنما صدرت عن ذات قادرة في شيء قابل لأثر اقتداره أو في مذهب أصحاب العلل عن حكم علة وقبول معلول فلم أدر للوحدة طعما في الوجود
فقد رمت أن أخلو بتوحيد خالقي *** فكان قبولي مانعا ما أرومه
فيا ليت شعري هل يقام بمشهد *** ويا ليت شعري هل أرى من يقيمه
لقد رمت أمرا لا سبيل لنيله *** ويمنع عن تحصيل ذاك رسومه
أ لا تراه كيف نبه على إن الأمر جمع وأنه جامع بقوله ومن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ وعلم إن نفسه شيء فخلق آدم على صورته فكان آدم زوجين ثم خلق منه حواء لا من غيره ليعلمه بأصل خلقه ومن زوجه ومن زوجه فما زاد بخلقه حواء منه على زوجيته بالصورة التي خلق عليها وتلك الصورة الزوجية أظهرت حواء فكانت أول مولد عن هذه الزوجية كما خلق آدم بيديه فكان عن زوجية يد الاقتدار ويد القبول وبهما ظهر آدم
وكان فردا فصار زوجا *** ماج به في المخاض موجا
كان حضيضا بقاع طبع *** فصار بالنفخ فيه أوجأ
أقامني سيدا فجاءت *** وفوده لي فوجا ففوجا
فيا أيها الموحد أين تذهب وأنت توحد توحيدك يشهد بأنك أشركت إذ لا يثبت توحيد إلا من موحد وموحد فالجمع لا بد منه فالاشتراك لا بد منه فما استند المشرك إلا لركن قوي ولهذا كان ما له إلى الرحمة في دار تقتضي بذاتها الغضب حتى يظهر سلطان الرحمة الأقوى لأن دار النعيم معين قال الشاعر
أحلى من الأمن عند الخائف الوجل
فلا يعرف طعم الأمان ذوقا من هو فيه مصاحب له وإنما يعرف قدره من ورد عليه وهو في حال خوف فيجد طعمه لوروده ولهذا نعيم الجنة يتجدد مع الأنفاس كما هو نعيم الدنيا إلا أنه في الآخرة يحس به من يتجدد عليه ويشاهد خلق الأمثال فيه وفي الدنيا لا يشاهد خلق الأمثال فيه ولا يحس به بل هو في لَبْسٍ من خَلْقٍ جَدِيدٍ فلذة أصحاب الجحيم عظيمة لمشاهدة الدار وحكم الأمان من حكمها فيه ليس العجب من ورد في بستان وإنما العجب من ورد في قعر النيران إبراهيم
الخليل عليه السلام في وسط النار يتنعم ويلتذ ولو لم يكن عليه السلام إلا في حمايتها إياه من الوصول إليه فالأعداء يرونها في أعينهم نارا تأجج وهو يجدها بأمر الله إياها بَرْداً وسَلاماً عليه فأعداؤه ينظرون إليه ولا يقدرون على الهجوم عليه انظر إلى الجنة محفوفة بالمكاره وهل جعل الله ذلك إلا ليتضاعف النعيم على أهلها فإن نعيم النجاة والفوز من أعظم النعم
فما خلق الإنسان إلا لينعما *** وما أشهد الإنسان إلا ليعلما
بأن وجود الحق في الخلق مودع *** وهل كان هذا الوجود إلا تكرما
فينعم بالتعذيب فيها جماعة *** ولو لا شهود الضد ما كان مسلما
والله يَقُولُ الْحَقَّ وهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ
![]() |
![]() |





