الفتوحات المكية

الحضرات الإلهية والأسماء ءالحسنى

وهو الباب 558 من الفتوحات المكية

(الغني حضرة الغني والإغناء)

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


[92] - (الغني حضرة الغني والإغناء)

ألا إنما المغني الغني لذاته *** وما كان فيه من جميل صفاته‏

فلو إن عين العبد كان بكونه *** لجلت معاليه لكثر هباته‏

ولكن عين الحق أفنت وجودها *** فلله ما يبديه من كلماته‏

أقول وقولي صادق غير كاذب *** لقد رمت أن أحظى لسر مناته‏

فيعبدني من كان بالحق عارفا *** فأجزيه بالإحسان قبل وفاته‏

[ليس الغني عن كثرة العرض لكن الغني غنى النفس‏]

يدعى صاحبها عبد الغني وعبد المغني قال الله عز وجل فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ وقال تعالى وأَنَّهُ هُوَ أَغْنى‏ وأَقْنى‏ وقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم من هذه الحضرة ليس الغني عن كثرة العرض لكن الغني غنى النفس‏

ترى التاجر عنده من المال ما يفي بعمره وعمر ألزامه لو عاش إلى انقضاء الدنيا وما عنده في نفسه من الغني شي‏ء بل هو من الفقر إلى غاية الحاجة بحيث أن يرد بماله موارد الهلاك في طلب سد الخلقة التي في نفسه عسى يستغني فما يستغي بل لا يزال في طلب الغني الذي هو غنى النفس ولا يشعر فاعلم إن أول درجة الغني القناعة والاكتفاء بالموجود فلا غنى إلا غنى النفس ولا غنى إلا من أعطاه الله غنى النفس فليس الغني ما تراه من كثرة المال مع وجود طلب الزيادة من رب المال فالفقر حاكم عليه فالإنسان فقير بالذات لأنه ممكن وهو غني بالعرض لأنه غني بالصورة وذلك أمر عرض له بالنسبة إليه وإن كان مقصودا للحق فللإنسان وجهان إذا كان كاملا وجه افتقار إلى الله ووجه غنى إلى العالم فيستقبل العالم بالغنى عنه ويستقبل ربه بالافتقار إليه ولهذين الوجهين قيل إنه لا يكون عند الله وجيها لأنه لا يكون عند الله أبدا إلا فقيرا ذليلا ويكون عند العالم وجيها أي غنيا عزيزا

[الغيرة الإلهية قد أزالت الافتقار إلى العالم من العالم‏]

وأما الإنسان الحيوان الذي لا معرفة له بربه فهو فقير إلى العالم أبدا وإن كانت الغيرة الإلهية قد أزالت الافتقار إلى العالم من العالم بقولها يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى الله والله هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ فمن ذاق طعم الغني عن العالم وهو يراه عالما لا بد من هذا الشرط فقد حصل على نصيب وافر من الغني الإلهي إلا أنه محجوب عن المقام الأرفع في حقه لأن العالم مشهود له ولهذا اتصف بالغنى عنه فلو كان الحق مشهوده وهو ناظر إلى العالم لاتصف بالفقر إلى الله وحاز المقام الأعلى في حقه وهو ملازمة الفقر إلى الله لأن في ذلك ملازمة ربه عز وجل وأما الاستغناء فإنه يؤذن بالقرب المفرط وهو حجاب كالبعد المفرط ومن وقف على سر وجود العالم من حيث إيجاد الله إياه عرف ما أشرنا إليه فإذا كان العارف على قدر معلوم بين القرب والبعد حصل المطلوب وكان في ذلك الشرف التام للإنسان إذ كان الشرف لا يحصل إلا لأهل البرازخ الجامعين الطرفين قد علمنا إيمانا أن الله أقرب إلينا من حَبْلِ الْوَرِيدِ ولكن لا نبصره لهذا القرب المفرط وقد علمنا إيمانا أنه عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى‏ فلا نبصره لهذا البعد المفرط عادة أيضا فمن شاهد الحق ورآه فإنما يشاهده في معينه من قوله وهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ هذا حد رؤيته هنا ولا يشاهد متى شوهد إلا من هذا المقام وبهذه الصفة لا بد من ذلك فإذا أغناك فقد أبعدك في غاية القرب وإذا أفقرك فقد قربك في غاية البعد

فيا من قربه بعد *** ويا من بعده قرب‏

أقلني من هوى نفسي *** فإني الواله الصب‏

وإني هائم فيه *** قد استعبدني الحب‏

ولا مطلب لي إلا *** الذي يرضى به الحب‏

إذا أحببت محبوبا *** له النخوة والعجب‏

فلا تعجب فلا تحجب *** فقلبي للهوى قلب‏

ومن هذه الحضرة ظهر الغني في العالم الذي يحوي على الفقر والخوف مع ما فيه من الزهو والفخر أما ما فيه من الفقر فلطلب الزيادة وأما ما فيه من الخوف فهو الفزع من تلف ما بيده والحوطة عليه وأما ما فيه من الزهو والفخر فهو ما يشاهده من الطالبين رفده وسعى الناس في تحصيل مثل ما عنده فمن هو بين غنى وفقر كيف يفتخر فالفقر لا يتركه يفرح والغني لا يتركه يحزن فقد تعرى بهذين الحكمين من هاتين الصفتين‏

[أغنى الأغنياء]

فأغنى الأغنياء من استغنى بالله عن الأغنياء بالله ولو لم يكن عنده قوت يومه مع أنه يحزن من جهة من كلفه الله النظر في تحصيل ما يقوم بهم ويقوتهم من أهله وما يهتم بذلك إلا متشرع أديب عانق الأدب وعرف قدر ما شرع له من ذلك فإن طريق الأدباء طريق خفية لا يشعر بها إلا الراسخون في العلم المحققون بحقائق الفهم عن الله فكما إن الله ليس بغافل عما يحتاج إليه عباده كذلك أهل الله لا يغفلون عما قال لهم الحق احضروا معه ولا تغفلوا عنه فترى الكامل حريصا على طلب مئونة أهله فيتخيل المحجوب أن ذلك الحرص منه لضعف يقينه وكذلك في ادخاره وليس ذلك منه إلا ليوفي الأدب حقه مع الله فيما حد له من الوقوف عنده فالعالم من لا يطفي نور علمه نور ورعه ولا يحول بينه وبين أدبه فمن تعدى حُدُودَ الله فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ ومن ظلم نفسه كان لغيره أظلم أ لا ترى إلى ما في هذه الحضرة من العجب أن المشاهد غنى الحق الذي هو صفته في غنى العالم فلا يشهد إلا حقا ولا يكون القبول والإقبال إلا على صفة حق كيف يعتب على ذلك من هو بهذه المثابة فقيل له أما من استغنى فأنت له تصدى وقد علم تعالى لما تصدى ولمن تصدى فإن الله بِكُلِّ شَيْ‏ءٍ عَلِيمٌ‏

فما تصدى لا بحق *** ولا تصدى إلا لحق‏

وما أتاه لعتاب لا *** لكونه ظاهرا بخلق‏

فمن تجلى بكل مجلى *** حاز بمجلاه كل أفق‏

فاحذر هذه الحضرة فإن فيها مكرا خفيا واستدراجا لطيفا فإن الغني معظم في العموم حيث ظهر وفيمن ظهر والخصوص ما لهم نظر إلا في الفقر فإنه شرفهم فلا يبرحون في شهود دائم مع الله والله يَقُولُ الْحَقَّ وهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ وما راعى الحق في عتبة لرسوله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم إلا جهل من جهل من الحاضرين أو من يبلغه ذلك من الناس بمن تصدى له رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم فلو عرفوا الأمر الذي تصدى له رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم ما عاتبه ولا كان يصدر منهم ما صدر من الأنفة من مجالسته صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم الأعبد فهل هذا إلا من ذهولهم عن عبوديتهم للذي‏

اتخذوه إلها وما تلهى رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم عن الأعمى إلا لحبه في الفال وما جاء الله تعالى بالأعمى إلا لبيان حال مخبر رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم بعمي هؤلاء الرؤساء وعلم بذلك رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم ولكن وقف مع حرصه على إيمانهم والوفاء بالتبليغ الذي أمره الله به ولأن صفة الفقر صفة نفس المخلوق وقد علم صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم أنه الدليل فإن الدليل لا يجتمع هو والمدلول وهو دليل على غنى الحق وقد تجلى في صورة هؤلاء الرؤساء فلا بد من قوع الأعراض عن الأعمى والإقبال على أولئك الأغنياء ومع هذا كله وقع العتاب جبرا للأعمى وتعريفا بجهل أولئك الأغنياء فجبر الله قلب الأعمى وأنزل الأغنياء عما كان في نفوسهم من طلب العلو في الأرض فانكسروا لذلك ونزلوا عن كبريائهم بقدر ما حصل في نفوسهم من ذلك العتاب الإلهي وهذا القدر كاف‏


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!