الفتوحات المكية

الحضرات الإلهية والأسماء ءالحسنى

وهو الباب 558 من الفتوحات المكية

«حضرة الحفظ»

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


[38] - «حضرة الحفظ»

إن الحفيظ عليم بالذي حفظه *** وما سواه فإن العقل قد لفظه‏

فمن يقول به يليقه في خلدي *** مع الذي عين الكتاب والحفظة

إذا تلفظ شخص باسمه تره *** في نفسه طالبا بما به لفظه‏

[الحفظ الإلهي يمنع بين العبد وهواه‏]

يدعى صاحب هذه الحضرة عبد الحفيظ قال تعالى ولا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وقال تعالى إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وأَرى‏ يخاطب موسى وهارون عليه السلام وقال في سفينة نوح عليه السلام تَجْرِي بِأَعْيُنِنا يشير إلى أنه يحفظها لأن المحفوظ لا يختفي عنه ومن الناس من يحفظه الحفظ لأنه يريد أن يخلو بهواه والحفظ الإلهي يمنع من ذلك ويحول بينه وبين هواه أَ لَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ الله يَرى‏ فمن عصى الله واتبع هواه فما عصى إلا مجاهرة ولكن بعد عمى القلب حتى لا يجتمع النظرتان إذ لو اجتمعتا لاحترق الكون فإن بصر الحق إذا اجتمع به بصر العبد احترق العبد من فوره ومعلوم أن الله يدركه ببصره الآن في حق العبد فإن الحق ليس في الآن لكن ما اجتمع بصر العبد معه فيعلم بالمقدمتين ما ينتج بينهما فإن باجتماع البصرين وقع الحرق فما انحفظ العالم لا بكون البصرين ما اجتمعا على رؤية الكون ولذلك وصف نفسه إذا تجلى أن يكون رداء

الكبرياء على وجهه فلا يرتفع أبدا فإذا رأينا الحق متى رأيناه بأبصارنا نراه من حيث لا يرانا كما يرانا من حيث لا نراه فإنه يرانا عبيدا ونراه إلها ونراه به ويرانا بنا ومهما رآنا به فلا نراه به بل وهي الرؤية العامة ورؤية الخواص أن يروه به ويراه بهم فهو الذي يحفظ عليهم جودهم ليفيدهم ويستفيد من يستفيد منهم حتى نعلم إلى من هو دونه فهو الحفيظ المحفظ ولما سرى الحفظ في العالم فقال إِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ وقال والْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ والْحافِظاتِ وعم فقال والْحافِظُونَ لِحُدُودِ الله فحدودهم كان كل عين في العالم من حيث ما هي حافظة أمرا ما عين الحق ولهذا وصف نفسه بالأعين فقال تَجْرِي بِأَعْيُنِنا فإن مدبر السفينة يحفظها والمقدم يحفظها وصاحب الرجل يحفظها وكل من له تدبير في السفينة يحفظها بل يحفظ ما يخصه من التدبير فقال تعالى فيها إنها تجري بأعين الحق وما ثم إلا هؤلاء وهم الذين وكلهم الله بحفظها فالحق مجموع الخلق في الحفظ وفي كل ما يطلب الجمع ولهذا المقام في صنعة العربية بدل الاشتمال نقول أعجبني الجارية حسنها للاشتمال الذي هنا وأعجبني زيد علمه فالعلم بدل من زيد والحسن بدل من الجارية ولكن بدل اشتمال كما يكون في موضع آخر بدل الشي‏ء من الشي‏ء وهما لعين واحدة كقولهم رأيت أخاك زيدا فزيد أخوك وأخوك زيد فهكذا قوله كنت سمعه وبصره وقوله وما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ ولكِنَّ الله رَمى‏ إذ رميت فهذا بدل الشي‏ء من الشي‏ء وإن كان في هذا البدل رائحة من بدل البعض من الكل فقال أكلت الرغيف ثلثيه وليس في أنواع البدل بدل أحق بالحضرة الإلهية من بدل الغلط وهو الذي فيه الناس كلهم يظنون أنهم هم وما هم هم ويظنون أن ما هم هم وهم هم ولهذا لا يوجد بدل الغلط في كلام فصيح مثاله رأيت رجلا أسدا أردت أن تقول رأيت أسدا فغلطت فقلت رأيت رجلا ثم تذكرت إنك غلطت فقلت أسدا فأبدلت الأسد منه فالعارف يلزمه الأدب أن يضيف إلى الله كل محمود عرفا وشرعا ولا يضيف إليه ما هو مذموم عرفا وشرعا إلا إن جمع مثل قوله قُلْ كُلٌّ من عِنْدِ الله وكل يقتضي العموم والإحاطة وقوله فَأَلْهَمَها فُجُورَها وتَقْواها فالكشف والدليل يضيف إليه كل محمود مذموم فإن الذم لا يتعلق إلا بالفعل ولا فعل إلا لله لا لغيره فالعارف في بدل الغلط فإن عقله يخالف قوله فقوله في المذموم ما هو له ويقول في عقده وقلبه هو له عند قوله بلسانه ما هو له ومن لا يعلم أنه غلط يصمم على ما قاله أو على ما اعتقده فالله الحفيظ وهو بدل من الحفظة والحافظين وأعيننا فالحفظ يطلب الرؤية ولا بد والرؤية لا تطلب الحفظ ولا بد ولكن قد تجي‏ء للحفظ

لكل حفيظ في الوجود حفيظ *** وفي كل باب رحمة وكظيظ

فكن عبد لين في دعائك عبده *** إلى الله لافظ عليه غليظ

فكم بين محفوظ عليه وجوده *** وبين حفيظ ما عليه حفيظ

فكما إن ربك عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ حَفِيظٌ فهو بكل شي‏ء محفوظ لأنه بالأشياء معلوم فالأشياء تحفظ العلم به عند العلماء به والعلم صفته والعلم المعلوم والمعلوم أعطاه العلم بنفسه فالمعلوم يحفظ عليه العلم ويزيل عنه العلم فهو يتقلب لتقلبه فحفظ الله علمه من حيث ما هو معلوم له‏

فحفظ الحق موسوم *** وحفظ الخلق معلوم‏

وما أربى على هذا *** فمدخول وموهوم‏

لأن المعلومات تحفظ على العالم بها علمه بها ولا عالم إلا الله على الحقيقة والحق يحفظ على العالم نسبة الوجود إليه فهو يحفظ عليه وجوده وإنما قلنا المعلومات لأن الحق معلوم لنفسه والخلق معلومون لله والحق ليس بمعلوم للخلق فقد علمنا ما يحفظ الحق وما يحفظ الخلق فإن زدت وقلت إن العالم يحفظ المعلوم فمدخول هذا القول وهو وهم من قائله لأن التابع بأمر المتبوع والعلم يتبع المعلوم فتفطن لهذا الأمر فإنه حسن يجعلك تنزل الأشياء منازلها وتحفظ عليها حدودها فتكون حفيظا والله يَقُولُ الْحَقَّ وهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ وإنما ألحقنا الحفظية بالحفظ لما وصف الحق بها نفسه في كتابه وعلى لسان رسوله فلما كان لها حكم في الوجود الحق وسعى الانتقام‏

والعفو في إزالتها خفنا أن يعتقد إزالة عينها وما زالت إلا إضافتها فجعل محلها جهنم فهي غضب الله الدائم فهي تنتقم دائما في زعمها ولا تشعر بما يجد الساكن فيها وكذلك حياتها وعقاربها في لدغها ونهشها تلدغ انتقاما وتنهش غصبا لله وما عندها علم بما يجده الملدوغ إذا عمته‏

الرحمة من الالتذاذ إذ بذلك اللدغ فإنه بمنزلة الجرب بالحك أنت تدميه وهو يجد اللذة بذلك الإدماء وكلما قوى الحق عليه تضاعفت اللذة حتى أنه يبادر إلى حك نفسه بيده لما يجد في ذلك من الالتذاذ به مع سيلان دمه في ذلك الحك فجهنم دار الغضب الإلهي وحاملته والمتصفة به وكذلك من فيها من وزعة الغضب والمغضوب عليه بما يجده لا بما في نفوس هؤلاء ولكن لا يحصل لهم هذا إلا بعد استيفاء الحدود والإحساس بالآلام عند نضج الجلود فتبدل لذوق العذاب كما تبدلت الأحوال عليهم في الدنيا بأنواع المخالفات فلكل نوع عذاب ولهم جلد خاص يحس بالألم كما كان هنا دائما في تجديد خلق والناس في هذا التجديد في لبس فإذا انتهى زمان المخالفة المعينة انتهى نضج الجلد فإن شرع عند انتهاء المخالفة في مخالفة أخرى أعقب النضج تبديلا بجلد آخر ليذوق العذاب كما ذاق اللذة بالمخالفة وإن تصرف بين المخالفتين بمكارم خلق استراح بين النضج والتبديل بقدر ذلك فهم على طبقات في العذاب في جهنم ومن أوصل المخالفات ومذام الأخلاق بعضها ببعض فهم الذين لا يفتر عنهم العذاب فلما انتهى بهم العمر إلى الأجل المسمى انتهت المخالفة فتنتهي العقوبة فيهم إلى ذلك الحد وتكتنفهم الرحمة التي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْ‏ءٍ ولا تشعر بذلك جهنم ولا وزعتها أعني ما فيها من الحيوانات المضرة لا ملائكة العذاب فتبقى أحوال جهنم على ما هي عليه والرحمة قد أوجدت لهم نعيما لهم في تلك الصورة بحكمها فإن الرحمة هي السلطانة الماضية الحكم على الدوام فافهم ما أومأنا إليه فإنه من لباب الحفظ الإلهي حفظ المراتب ورَبُّكَ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ حَفِيظٌ والله يَقُولُ الْحَقَّ وهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ‏


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!