الفتوحات المكية

الحضرات الإلهية والأسماء ءالحسنى

وهو الباب 558 من الفتوحات المكية

«حضرة المقيت»

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


[39] - «حضرة المقيت»

إن الذي قدر الأقوات أجمعها *** هو المقيت الذي لعبده شرعه‏

وهو الذي قدر الأوقات جملتها *** رزقا وخلقا ومصنوعا كما صنعه‏

[إن الرزق قوت المرزوق‏]

عبد المقيت هو أخ شقيق لعبد الرزاق فإن الرزق قوت المرزوق وهو على مقدار خاص لا يزيد ولا ينقص في كل شهوة في الجنان وفي كل دفع ألم وشهوة في الدنيا لأنها دار امتزاج ونشأة أمشاج فمن هذه الحضرة يكون القوت لكل من لا يقوم له بقاء صورة في الوجود إلا به ومن هذه الحضرة يكون تعيين أوقات الأقوات وموازينها كما قال تعالى في خلق الأرض وقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها أي أعطى مقادير أوقات الأقوات وموازينها وهذه الأقوات عين الوحي الذي في السماء فالقوت في الأرض كالأمر في السماء وتقدير القوت في الأرض كالوحي في السماء وهو عينه لا غيره فأوحى في السماء أمرها وهو تقدير أقواتها وقدر في الأرض أقواتها

بروج السماء لها قوة *** بها يبعث الله أمواتها

وحكمتها في الثرى سيرها *** ليجمع بالسير أشتاتها

فإن الإله بناها لنا *** وعين بالسير أوقاتها

فكان غذاء لها وقتها *** وقدر في الأرض أقواتها

وهو وحي أمرها واختلفت الأسماء لاختلاف المحال والصور وعم بالسماء والأرض ما علا من العالم وما سفل وما في الوجود إلا عال وسافل ومن أسمائه العلى ورفيع الدرجات فأمر الأسماء وأقواتها أعيان آثارها في الممكنات فبالآثار تعقل أعيانها فلها البقاء بآثارها فقوت الاسم أثره وتقديره مدة حكمه في الممكن أي ممكن كان ومن هذه الحضرة وإِنْ من شَيْ‏ءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ والخزائن عند الله تعلو وتسفل فأعلاها كرسيه وهو علمه وعلمه ذاته وأدنى الخزائن ما خزنته الأفكار في البشر وما بين هذين خزائن محسوسة ومعقولة وكلها عند الله فإنه عين الوجود فهي حضرة جامعة للاعيان والنسب والحدوث والقدم فالخلق والخالق والمقدور والقادر والملك والمالك كل واحد لصاحبه أمر وقوت فأمره في سمائه وهو علوه وقوته في أرضه وهو دنوه فإنا من أهل الأرض ونحن المخاطبون بهذا الخطاب ليس غيرنا ولهذا كان القرآن منزلا والنزول لا يكون إلا من علو كما العروج لا يكون إلا إلى علو

فمن سفل إلى علو عروج *** ومن علو إلى سفل نزول‏

وكل جاء في التنزيل فينا *** فمهما قلت فانظر ما تقول‏

ولما لم يكن في الكون إلا علة ومعلول علمنا إن الأقوات العلوية والسفلية أدوية لإزالة أمراض ولا مرض إلا الافتقار

فكل من في السماوات ومن في الأرض آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً والسماء والأرض أتيا إلى الرحمن طائعين وكل عبد فقير لسيده وخادم القوم سيدهم لقيامه بمصالحهم والعبد هو من يقوم في خدمة سيده لبقاء حقيقة العبودة عليه والسيد يقوم بمصالح عبيده لبقاء اسم السيادة عليه فلو فنى الملك فنى اسم المالك من حيث ما هو مالك وإن بقيت العين فتبقى مسلوبة الحكم لأنه لا فائدة للأشياء لا بأحكامها لا بأعيانها ولا تكون أحكامها إلا بأعيانها فأعيانها مفتقرة إلى أحكامها وأحكامها مفتقرة إلى أعيانها وأعيان من تحكم فيهم فما ثم إلا حكم وعين فما ثم إلا مفتقر ومفتقر إليه فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ فأتى بكل وهي حرف شمول فشملت كل نفس فما تركت شيئا في هذا الوضع وسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ الذي ستر عنه هذا العلم في الحياة الدنيا لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ في الدار الآخرة حيث ينكشف الغطاء عن الأعين فيعلم من كان يجهل ويفضل عليه من علمه هنا في الحياة الدنيا وهم أهل البشرى وكل من تحقق أمرا كان بحسب ما تحققه‏

من قدر القوت فقد قدرا *** والقوت ما اختص بحال الورى‏

بل حكمه سار فقد عمنا *** ونفسه فانظر ترى ما ترى‏

كل تغذى فيه قام في *** وجوده حقا بغير افترا

فقوت القوت الذي يتقوت به هو استعماله فالمستعمل قوت له لأنه ما يصح أن يكون قوتا إلا إذا تقوت به فاعلم من قوتك ومن أنت قوته روينا عن عالم هذا الشأن وهو سهل بن عبد الله التستري أنه رضي الله عنه سئل عن القوت فقال الله فقيل له عن الغذاء نسألك فقال الله لغلبة الحال عليه فإن الأحوال هي ألسنة الطائفة وهي الأذواق فنبهه السائل على ما قدر ما أعطاه حاله في ذلك الوقت فقال يا سهل إنما أسألك عن قوت الأجسام أو الأشباح فعلم سهل أن السائل جهل ما أراده سهل فنزل إليه في الجواب بنفس آخر غير النفس الأول وعلم أنه رضي الله عنه جهل حال السائل كما جهل السائل جوابه فقال له سهل ما لك ولها يعني الأشباح دع الديار إلى بانيها إن شاء خربها وإن شاء عمرها فما زال سهل عن جوابه الأول لكن في صورة أخرى وعمارة الدار بساكنها فالقوت لله كما قال أول مرة إلا أن السائل قنع بالجواب الثاني لنزوله من النص إلى الظاهر وهكذا أكثر أجوبة العارفين إذا كانوا في الحال أجابوا بالنصوص وإذا كانوا في المقام أجابوا بالظواهر فهم بحسب أوقاتهم وهذا القدر من التنبيه على شرف هذه الحضرة كاف إن شاء الله والله يَقُولُ الْحَقَّ وهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ‏


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!