الفتوحات المكية

الحضرات الإلهية والأسماء ءالحسنى

وهو الباب 558 من الفتوحات المكية

«حضرة العلو»

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


[36] - «حضرة العلو»

تواضع فالإله هو العلي *** له التنزيه منا والعلو

فقل إن شئت فرد لا يداني *** وقل ما شئته فالأمر تو

فليس سوى الذي قد قام عندي *** إله ما له إلا السمو

وليس سوى الذي قد قام عندي *** عبيد ما له إلا الدنو

فلا تغلو فديتك يا خليلي *** فإن الدين يفسده الغلو

[العرش والعلو]

يدعى صاحب هذه الحضرة عبد العلي قال الله عز وجل الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى‏ وكان شيخنا العريبي يقف في هذه الآية على العرش ويبتدئ استوى لَهُ ما في السَّماواتِ وما في الْأَرْضِ وما بَيْنَهُما وما تَحْتَ الثَّرى‏ أي ثبت له وكل ما سوى الله عرش له علو قدر ومكانه في قلوب العارفين به من علماء النظر وغيرهم من العلماء فعلوه تعالى بهذا التفسير مطلق وبقي علو المكان الذي أثبته الايمان بالخبر الصدق ودل عليه عند العلماء بالله من طريق الشهود صور التجلي فهو بِكُلِّ شَيْ‏ءٍ مُحِيطٌ لاستوائه ولما كان أعلى الموجودات وأعظمها من وجب له الوجود لنفسه استقلالا وكان له الغني صفة ذاتية لم يفتقر إلى غيره كان بالاسم العلي أولى وأحق وكان من كان وجوده بغيره مستوي لهذا العلي وليس إلا الله فمن هذه الحضرة ظهر العلو فيمن علا في الأرض كفرعون الذي قال الله تعالى فيه إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا في الْأَرْضِ وجعل العلو

في الإرادة في بعض الناس وذمهم بذلك فقال تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا في الْأَرْضِ ونعني بالدار الآخرة هنا الجنة خاصة دون النار نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا في الْأَرْضِ وسواء حصل لهم ذلك المراد أو لم يحصل فقد أرادوه وحصل في نفوسهم وما بقي إلا أن يحصل في نفوس الغير الذي كني عنها بالأرض والعلماء بالله لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا في الْأَرْضِ لأنه علو مكتسب ولا يريدون ما يقع عليه اسم الكسب وإنما يريدون ما تقتضيه ذواتهم من حيث ما يشهدون من افتقروا إليه في وجودهم خاصة فما لهم نظر إلا إليه لا فيه لأنه ممنوع لنفسه أعني النظر فيه الذي هو الفكر في ذاته فالذي يعطي العلو هذه الحضرة إنما هو السعادة لا التكبر فالعلو الذي تعطي هذه الحضرة لأجل السعادة إنما هو علمهم بذواتهم ليعلموا أن الحادث في مقام الانحطاط عما يجب لله من العلو ويكفيهم من العناية الإلهية إن حصلوا مع الحق في باب الإضافة

أي بهم كان عليا *** وبه كانوا سفالا

لم أجد لله فينا *** غير ما قلنا مثالا

فهو التاج علينا *** عند ما كنا نعالا

وهو البدر المسمى *** عند ما كان هلالا

صير الإله ذاتي *** لرحى الكون ثقالا

فله التعظيم منا *** جل قدرا وتعالى‏

جعل الإله فينا *** لشيوخنا محالا

فإذا لم يستفلوا *** كان جعلهم محالا

وإذا هم استفلوا *** لم أجد عنهم زوالا

فبذاتي وبربي *** كنت حرما وحلالا

وبربي لا بكوني *** صير الضعف محالا

وسقاني كأس حظي *** طيبا عذبا زلالا

فلصحوي عند شربي *** لم أجد منه خبالا

ولسكري منه أيضا *** كنت في نفسي خيالا

لم يكن فيه سوائي *** للذي شاء انتقالا

لم أجد عند انتقالي *** عنه في نفسي كلالا

فنعم لم أر فيه *** عند ما قلت ولا لا

ثم لم يكن سكوت *** عند قولي واستحالا

فلذا قد حرت فيه *** ولذا ذقت وبالا

جبت غربا ثم شرقا *** وجنوبا وشمالا

ثم أنشأنا سحابا *** من عطاياه ثقالا

ثم نودينا وجدتم *** في وجودكم منالا

وما حصل التشريف للممكنات إلا بإضافتها إلى الله وهذا التشريف في حقنا هو أعظم تشريف إمكاني فعلو الإنسان عبودته لأن فيها عينه وعين سيده والمتلبس بصفة سيده لابس ثوب زور ليس عليه منه شي‏ء ولا تقبله ذاته وهو يعلم ذلك من نفسه وإن جهله غيره واعترف له بالعلو عليه فمن وجه ما لا من جميع الوجوه فإنه يعلمه أنه هو فهوية ما سوى الحق معلومة لا تجهل ولو لا معقولية المكانة ما اعترف مخلوق بعلو مخلوق فلهذا لا يعظم أحد في عين أحد لذاته إلا المحبوب خاصة فإنه يعظم في عين محبه لذاته فكل شي‏ء يكون منه يتلقاه المحب الصادق الحب بالقبول والرضي وما كل محب محب لأن طلب الغرض من المحب لا يصح في الحب الصادق الذي استفرغ قواه وإنما ذلك لمن بقيت فيه فضلة يعقل بها أنه محب وإن محبوبه غير له ولما وصف الحق نفسه بالنزول كان هذا النزول عين الدليل على نسبة العلو لأنه لو وقف مع قوله عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى‏ واكتفى ولم يذكر النزول وكل جزء من الكون عرشا له لأنه ملكه فما تحقق له العلو إلا باتصافه بالنزول إلى السماء الدنيا فأثبت له علو المكان وأثبت الاستواء على العرش المكانة والقدر فبالاستواء هو في السَّماءِ إِلهٌ وفي الْأَرْضِ إِلهٌ وهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ وبالنزول ظهر الحد والمقدار فعلمنا بالنزول في أي صورة تجلى ولمن نزل وتدلى لَهُ الْحَمْدُ أي عاقبة الثناء ترجع إليه في الْأُولى‏ وهو الاستواء والْآخِرَةِ وهو النزول فعم علوه وتحقق دنوه فطوبى للتائبين والداعين والمستغفرين فيا ليت شعري هل يسمعون قوله تعالى ذلك نعم العارفون يسمعونه وأهل الحضور مع إيمانهم بهذا الخبر يسمعونه وما عدا هذين الصنفين فلا يسمعه وما عرفنا الله تعالى بأنه كلم مُوسى‏ تَكْلِيماً إلا لنتعرض إلى هذه النفحة الإلهية والجود لعل نسيما يهب علينا منها فيأخذ الناس هذا التعريف بأن الله كلم موسى ثناء على موسى عليه السلام خاصة نعم هو ثناء

ولكن ما أثنى الله بشي‏ء على أحد من المخلوقين إلا وفيه تنبيه لمن لم يحصل له ذلك الأمر أن يتعرض لتحصيله جهد الاستطاعة فإن الباب مفتوح والجود ما فيه بخل وما بقي العجز إلا من جهة الطالب ولهذا يقول من يدعني فاستجيب له ومن نكرة فما وقع العجز إلا منا وهنا الحيرة لأنا ما ندعوه لا بتوفيقه وتوفيقه إيانا لذلك من عطائه وجوده واستعداد كنا عليه به قبلناه فتأهلنا لدعائه وإجابته إيانا فيما دعوناه به على ما يرى الإجابة فيه فهو أعلم بالمصالح منا فإنه تعالى لا ينظر لجهل الجاهل فيعامله بجهله وإنما الشخص يدعو والحق يجيب فإنه اقتضت المصلحة البطء أبطأ عنه الجواب فإن المؤمن لا يتهم جانب الحق وإن اقتضت المصلحة السرعة أسرع في الجواب وإن اقتضت المصلحة الإجابة فيما عينه في دعائه أعطاه ذلك سواء أسرع به أو أبطأ وإن اقتضت المصلحة أن يعدل مما عينه الداعي إلى أمر آخر أعطاه أمر آخر لا ما عينه فما جاز الله لمؤمن في شي‏ء إلا كان له فيه خير فإياك إن تتهم جانب الحق فتكون من الجاهلين وأنت من الجاهلين ولو أعطيت علم اللوح المحفوظ والقلم الأعلى والملائكة العلى وأما العالون من عباد الله الذين قال الله في توبيخه لإبليس حين أبي عن السجود لآدم أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ من الْعالِينَ فهم الأرواح المهيمة في جلال الله فأعلاهم الحق أن يكون شي‏ء من الخلق لهم مشهودا ولا نفوسهم وهم عبيد اختصهم لذاته فالتجلي لهم دائم وهم فيه هائمون لا يعلمون ما هم فيه فعلوهم بين الاسم العلي وبيننا فهم لا يشهدون علو الحق لأنه لا يشهد علو الحق إلا من شهد نفسه وهم في أنفسهم غائبون فهم عن علو الحق ومكانته أشد غيبة والعلو نسبة فالأعلى من سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى إنما هو نعت أحدية من ادعى العلو أو أراد العلو فإذا زال كان عليا لأعلى والله يَقُولُ الْحَقَّ وهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ‏


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!