الفتوحات المكية

الحضرات الإلهية والأسماء ءالحسنى

وهو الباب 558 من الفتوحات المكية

«حضرة الشكر»

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


[35] - «حضرة الشكر»

شكور من أتى الكرم المسمى *** كما قد جاء في نص الكتاب‏

ليطعم من قدور راسيات *** جياعا في جفان كالجوابي‏

ولا يبغي على ما كان منه *** من إطعام إلى يوم الحساب‏

ثناء لا ولا حمدا وذكرا *** ولا نوعا من أنواع الثواب‏

[إن الشكر عند من رأى النعمة من الله تعالى‏]

يدعى صاحب هذه الحضرة عبد الشكور وعبد الشاكر وهي لصفة الكلام المنسوب إلى الحق قال تعالى اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وقَلِيلٌ من عِبادِيَ الشَّكُورُ يعني المبالغة في الشكر وهو أن يشكر الله حق الشكر وذلك بأن يرى النعمة منه‏

ذكر ابن ماجة في سننه حديثا وهو أن الله سبحانه وتعالى أوحى إلى موسى اشكرني حق الشكر فقال موسى عليه السلام ومن يقدر على ذلك يا رب فقال له إذا رأيت النعمة مني فقد شكرتني‏

فمن لا يرى النعمة إلا منه فقد شكره حق الشكر لا تراها من الأسباب التي سد لها بينك وبينه عند إرداف النعم فإن النعم أشياء لا تتكون إلا عنه من الوجه الخاص الذي لكل كائن وقال من هذه الحضرة لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ووصف نفسه بشكره عباده طلبا للزيادة منهم مما شكرهم عليه مقابلة نسخة بنسخة لأنه على صورته وهو يريد أن يوقفك على صحة هذه النسخة فإنه ما كل نسخة تكون صحيحة ولا بد قد تختل منها أمور فلذلك شرعت المعارضة بين النسختين فما أخرج الناسخ منها أثبت بالمعارضة لتصح النسخة ومن الأمر الواقع في المنتسخ منه أنه شاكر وشكور عبادة ثم طالبهم بالشكر ليظهروا بصفته من كونهم على صورته ثم عرفهم إن الشكر يقتضي لذاته الزيادة من المشكور مما شكر من أجله وهو المعروف الذي سد له وأسداه إلى عباده فإذا علم ذلك علم إن الحق تعالى يطلب الزيادة من عباده في دار التكليف مما كلفهم فيها من الأعمال وجعل استيفاء حقه أن يرى العبد النعمة منه عز وجل فكان تنبيها من الله لعبده في تفسير حق الشكر إن الحق يرى النعمة من العبد حيث أعطاه العلم به كما قلنا إن العلم يتبع المعلوم فهو يجعل التعلق به في نفس العالم فيتصف العالم بالعلم فيشكره الحق على ذلك فيزيده العبد بتنوع أحواله تعلقات لم يكن عليها تسمى علوما وهذا الذي أشرنا إليه من أصعب العلوم علينا لشدة غوصها وهي سريعة التفلت ومن علم هذا علم قوله تعالى حَتَّى نَعْلَمَ فما قال حتى نعلم حتى كلف وابتلي ليعلم ما يكون منه فيما أتاه به وقد علم منه ما يكون في حال ثبوته إلا أن الممكن إذا تغيرت عليه الأحوال يعلم أنه كان في عينه في حال ثبوته بهذه الصفة ولا علم له بنفسه فإن الإنسان قد يغفل عن أشياء كان علمها من نفسه ثم يذكرها وهو قوله وما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ وقوله ولِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ ولب الشي‏ء سره وقلبه وما حجبه إلا صورته الظاهرة فإنها له كالقشر على اللب صورة حجابية عليه لعينه الظاهرة فهو ناس لما هو به عالم وأخفى منه في التشبيه الزهرة مع الثمرة هي الدليل عليها والحجاب والحال الإلهي كالحال الكوني لأنه عينه ليس غيره فما شكر إلا نفسه لأنه ما أنعم إلا هو ولا قبل الإنعام ولا أخذه إلا هو فالله المعطي والآخذ كما قال إن الصدقة تقع بيد الرحمن فإنه يَأْخُذُ الصَّدَقاتِ ويد السائل صورة

حجابية على يد الرحمن فتقع الصدقة في يد الرحمن قبل وقوعها في يد السائل وإن شئت قلت إن يد السائل هي يد المعطي فيشكر الحق عبده على ذلك الإنعام ليزيده منه‏

يقول الله عز وجل جعت فلم تطعمني فطالبه الحال بالتفسير فقال له وكيف تطعم وأنت رب العالمين قال تعالى أما إن فلانا جاع فاستطعمك فلم تطعمه أ ما أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي وكذا جاء في المرض والسقي أي أنا كنت أقبله لا هو والحديث في صحيح مسلم‏

وعند هذا القول كان الحق صورة حجابية على العبد وعند الأخذ والعطاء كان العبد صورة حجابية على الحق فإذا شهدت فاعلم كيف تشهد ولمن تشهد وبمن تشهد وعلى من تشهد فلتشكر على حد شهودك ولتقبل الزيادة ولتعط أيضا الزيادة على شهود وتحقيق وجود وموجب الشكر الإنعام والنعم وأعظم نعمة تكون النكاح لما فيه من إيجاد أعيان الأمثال فإن في ذلك إيجاد النعم الموجدة للشكر ولذلك حبب الله إليه النساء وقواه على النكاح أعني لرسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم وأثنى على التبعل وذم التبتل فحبب النساء إليه لأنهن محل الانفعال لتكوين أتم الصور وهي الصورة الإنسانية التي لا صورة أكمل منها فما كل محل انفعال له هذا الكمال الخاص فلذلك كان حب النساء مما امتن الله به على رسوله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم حيث حبهن إليه مع قلة أولاده صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم فلم يكن المراد إلا عين النكاح مثل نكاح أهل الجنة لمجرد اللذة لا للإنتاج فإن ذلك راجع إلى إبراز ما حوى عليه صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم من ذلك وهذا أمر خارج عن مقتضى حب المحل المنفعل فيه التكوين أ لا ترى الحق إن فهمت معاني القرآن كيف جعل الأرض فراشا وكيف خلق آدم منها وجعله محل الانفعال ونطق‏

رسوله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم بقوله الولد للفراش‏

يريد المرأة أي لصاحب الفراش كما كان آدم عليه السلام حيث جعله خليفة فيمن خلق فيها ليكون أيضا صاحب فراش لأنه على صورة من أوجده فأعطاه قوة الفعل كما أعطاه قوة الانفعال فكان وطاء وغطاء فالحق هو الشاكر المشكور

وفي الشكر أسرار يراها ذوو الحجى *** يفوز بها عبد الشكور إذا شكر

ومن أجل ذا سمي الإله لعبده *** على لغة الأعراب الفرج بالشكر

لما فيه من الزيادة على الالتذاذ بالنكاح وهي ما يتولد فيه عن النكاح من الولد الروحاني والجسماني دنيا جسما وآخرة روحا وقد ذكرنا ذلك في توالد الأرواح من هذا الكتاب وبينا ذلك أيضا في القصيدة الطويلة الرائية التي أولها

اعترضت عقبة *** وسط الطريق في السفر

وهذا القدر من الإيماء كاف في معرفة هذه الحضرة الإلهية والله يَقُولُ الْحَقَّ وهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ‏


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!