Les révélations mecquoises: futuhat makkiyah

Parcourir les Titres Section I: les Connaissances (Maarif) Section II: les Interactions (Muamalat) Section IV: les Demeures (Manazil)
Présentations Section V: les Controverses (Munazalat) Section III: les États (Ahwal) Section VI : les Stations (Maqamat du Pôle)
Première Partie Deuxième Partie Troisième Partie Quatrième Partie

الفتوحات المكية - طبعة بولاق الثالثة (القاهرة / الميمنية)

الباب:
فى معرفة منزل سر وثلاثة أسرار لوحية أمية محمدية

وإطلاقه بالقول وفيه علم ما يظهر في الوجود إنه معلوم وظاهر عن علم متعلق به أوجب له ذلك الظهور وفيه علم كون الإنسان مع علمه أن الله لا يتقيد بالجهات وهو أقرب من حَبْلِ الْوَرِيدِ وهو مع هذا كله يتوهم فيه جهة الفوق والتحديد لا تعطيه نشأته أن يخلو عن حكم الوهم على عقله فيعقل حقيقة الأمر مع حكم وهمه من غير تأخر فيجمع في الآن بين حكم العقل والوهم كما جمع بين الأمور التي كان بها إنسانا كذلك يجمع بين أحكامها وفيه علم مراتب القرآن في الناس فيكون في حكم طائفة على غير حكمه في طائفة أخرى فهذا بعض ما يحوي عليه هذا المنزل من العلوم مجملا والله يَقُولُ الْحَقَّ وهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ‏

(الباب الأحد والسبعون وثلاثمائة في معرفة منزل سر وثلاثة أسرار لوحية أمية محمدية)

لو وجدنا ملكا نستعبده *** أو فتى ذا كرم نسترفده‏

لبذلنا مهج النفس له *** واتخذناه إماما نقصده‏

إنما الخلق عيال كله *** والذي قام بهم لا أجحده‏

وكما قام بهم قاموا به *** فالتفت رمزى ترى ما أقصده‏

وكما كنا به كان بنا *** وبهذا القدر كنا نعبده‏

وإذا لم يك عيني لم يكن *** وإذا ما لم يكن لا أشهده‏

فغناه غير معلوم لنا *** إذ تعالى وتعالى مشهده‏

إنما الحق الذي أعرفه *** والد الكون وكوني ولده‏

[إن الله تعالى قدر في العالم العلوي المقادير والأوزان‏]

قوله وما خَلَقْنَا السَّماواتِ والْأَرْضَ وما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ اعلم أن الله هو اللطيف الخبير العلي القدير الحكيم العليم الذي لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ‏ءٌ وهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ فنزه وشبه فتخيل من لا علم له أنه شبه لكن الفظ المشترك هو الذي ضمن لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وهُوَ شَهِيدٌ مرجع الدرك ولما خلق الله الأشياء وذكر أن لَهُ الْخَلْقُ والْأَمْرُ تَبارَكَ الله رَبُّ الْعالَمِينَ وضع الأسباب وجعلها له كالحجاب فهي توصل إليه تعالى كل من علمها حجابا وهي تصد عنه كل من اتخذها أربابا فذكرت الأسباب في إنبائها إن الله من ورائها وإنها غير متصلة بخالقها فإن الصنعة لا تعلم صانعها ولا منفصلة عن رازقها فإنها عنه تأخذ مضارها ومنافعها فخلق الأرواح والأملاك ورفع السموات قبة فوق قبة على عمد الإنسان وأدار الأفلاك ودحا الأرض ليميز بين الرفع والخفض وعين الدنيا طريقا للآخرة وأرسل بذلك رسله تترى لما خلق في العقول من العجز والقصور عن معرفة ما خلق الله من أجرام العالم وأرواحه ولطائفه وكثائفه فإن الوضع والترتيب ليس العلم به من حظ الفكر بل هو موقوف على خبر الفاعل لها والمنشئ لصورها ومتعلق علم العقل من طريق الفكر إمكان ذلك خاصة لا ترتيبه فإن الترتيب لا يعرف إلا بالشهود في الأشخاص حتى يقول هذا فوق هذا وهذا تحت هذا وهذا قبل هذا وهذا بعد هذا والعقل يحكم بالإمكان في ذلك كله ثم إن الله تعالى قدر في العالم العلوي المقادير والأوزان والحركات والسكون في الحال والمحل والمكان والمتمكن فخلق السموات وجعلها كالقباب على الأرض قبة فوق قبة على الأرض كما سنوقفك في هذا الباب على شكل وضع عالم الأجرام وجعل هذه السموات ساكنة وخلق فيها نجوما جعل لها في سيرها وسباحتها في هذه السموات حركات مقدرة لا تزيد ولا تنقص وجعلها عاقلة سامعة مطيعة وأَوْحى‏ في كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها ثم إن الله لما جعل السباحة للنجوم في هذه السموات حدثت لسيرها طرق لكل كوكب طريق وهو قوله والسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ فسميت تلك الطرق أفلاكا فالأفلاك تحدث بحدوث سير الكواكب وهي سريعة السير في جرم السماء الذي هو مساحتها فتخترق الهواء المماس لها فيحدث لسيرها أصوات ونغمات مطربة لكون سيرها على وزن معلوم فتلك نغمات الأفلاك الحادثة من قطع الكواكب المسافات السماوية فهي تجري في هذه الطرق بعادة مستمرة قد علم بالرصد مقادير تلك الحركات ودخول بعضها على بعض في السير وجعل سيرها للناظر بين بطء وسرعة وجعل لها تقدما وتأخرا في أماكن معلومة من السماء تعين تلك الأماكن أجرام الكواكب فإن أجرام السموات‏

متماثلة الأجزاء فلو لا إضاءة الكواكب ما عرف تقدمها ولا تأخرها وهي التي يدركها البصر ويدرك سيرها ورجوعها فجعل أصحاب علم الهيئة للأفلاك ترتيبا جائزا ممكنا في حكم العقل أعطاهم علم ذلك رصد الكواكب وسيرها وتقدمها وتأخرها وبطئها وسرعتها وأضافوا ذلك إلى الأفلاك الدائرة بها وجعلوا الكواكب في السموات كالشامات على سطح جسم الإنسان أو كالبرص لبياضها وكل ما قالوه يعطي ميزان حركاتها وإن الله تعالى لو فعل ذلك كما ذكروه لكان السير السير بعينه ولذلك يصيبون في علم الكسوفات ودخول الأفلاك بعضها على بعض وكذلك الطرق يدخل بعضها على بعض في المحل الذي يحدث فيه سير السالكين فهم مصيبون في الأوزان مخطئون في إن الأمر كما رتبوه وأن السموات كالأكر وأن الأرض في جوف هذه الأكر وجعل الله لهذه الكواكب ولبعضها وقوفا معلوما مقدرا في أزمان مخصوصة لم يخرج الله العادة فيها ليعلم صاحب الرصد بعض ما أوحى الله من أمره في السماء وذلك كله ترتيب وضعي يجوز في الإمكان خلافه مع هذه الأوزان وليس الأمر في ذلك إلا على ما ذكرناه شهودا وكشفا ثم إن الله تعالى يحدث عند هذه الحركات الكوكبية في هذه الطرق السماوية في عالم الأركان وفي المولدات أمورا مما أوحى في أمر السماء وجعل ذلك عادة مستمرة ابتلاء من الله ابتلى بها عباده فمن الناس من جعل ذلك الأثر عند هذا السير لله تعالى ومن الناس من جعل ذلك لحركة الكوكب وشعاعه لما رأى أن عالم الأركان مطارح شعاعات الكواكب فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بالله فَزادَتْهُمْ إِيماناً بالله وأما الذين آمنوا بالباطل فزادتهم إيمانا بالباطل وكفروا بالله وهم الخاسرون الذين فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وما كانُوا مُهْتَدِينَ‏

[إن الله تعالى وكل ملائكة بالأرحام عند مساقط النطف‏]

ثم إن الله تعالى وكل ملائكة بالأرحام عند مساقط النطف فيقلبون النطف من حال إلى حال كما قد شرع لهم الله وقدر ذلك التنقل بالأشهر وهو قوله تعالى وما تَغِيضُ الْأَرْحامُ أي ما تنقص عن العدد المعتاد وما تَزْدادُ على العدد المعتاد وكُلُّ شَيْ‏ءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ فهو سبحانه يعلم شخصية كل شخص وشخصية فعله وحركاته وسكونه وربط ذلك بالحركات الكوكبية العلوية فنسب من نسب الآثار لها وجعله الله عندها لا لها فلا يعلم ما في الأرحام ولا ما تخلق مما لم يتخلق من النطف على قدر معلوم إلا الله تعالى ومن أعلمه الله تعالى من الملائكة الموكلة بالأرحام ولهذا تكون الحركة الكوكبية العلوية واحدة ويحدث عندها في الأركان والمولدات أمور مختلفة لا تنحصر ولا يبلغها نظر في جزئيات أشخاص العالم العنصري لأن الله قد وضعه على أمزجة مختلفة وإن كان عن أصل واحد كما نعلم أن الله خلق الناس من نفس واحدة وهو آدم وجعلنا مختلفين في عقولنا متفاوتين في نظرنا والأصل واحد ومنا الطيب والخبيث والأبيض والأسود وما بينهما والواسع الخلق والضيق الخلق الحرج‏

فالأصل فرد والفروع كثيرة *** فالحق أصل والكيان فروع‏

وما خلق الله العالم الخارج عن الإنسان إلا ضرب مثال للإنسان ليعلم أن كل ما ظهر في العالم هو فيه والإنسان هو العين المقصودة فهو مجموع الحكم ومن أجله خلقت الجنة والنار والدنيا والآخرة والأحوال كلها والكيفيات وفيه ظهر مجموع الأسماء الإلهية وآثارها فهو المنعم والمعذب والمرحوم والمعاقب ثم جعل له أن يعذب وينعم ويرحم ويعاقب وهو المكلف المختار وهو المجبور في اختياره وله يتجلى الحق بالحكم والقضاء والفصل وعليه مدار العالم كله ومن أجله كانت القيامة وبه أخذ الجان وله سخر ما في السماوات وما في الأرض ففي حاجته يتحرك العالم كله علوا وسفلا دنيا وآخرة وجعل نوع هذا الإنسان متفاوت الدرجات فسخر بعضه لبعضه وسخره لبعض العالم ليعود نفع ذلك عليه فما سخر إلا في حق نفسه وانتفع ذلك الآخر بالعرض وما خص أحدا من خلق الله بالخلافة إلا هذا النوع الإنساني وملكه أزمة المنع والعطاء فالسعداء خلفاء ونواب ومن دون السعداء فنواب لا خلفاء ينوبون عن أسماء الله في ظهور حكم آثارها في العالم على أيديهم فهم خلفاء في الباطن نواب في الظاهر فالنائب هو الظاهر بالليل لأنه نائب لا خليفة إلهي بوضع شرعي ومستتر بالنهار فيعلم من حكمة تغير الحكم المشروع أن الشرع الإرادي في جوره مستور ولما كان الحكام في الخلق خلفاء ونوابا كما قررناه بين الله بما شرعه الحق من الباطل وما ينفع مما يضر من الأفعال الظاهرة والباطنة وقسم العمل بين الجوارح والقلب فجعل الله القلوب محلا للحق والباطل والايمان والكفر والعلم والجهل‏

فالباطل والكفر والجهل مآله إلى اضمحلال وزوال لأنه حكم لا عين له في الوجود فهو عدم له حكم ظاهر وصورة معلومة فيطلب ذلك الحكم وتلك الصورة أمرا وجوديا يستندان إليه فلا يجدانه فيضمحلان وينعدمان فلهذا يكون المآل إلى السعادة والايمان والحق والعلم يستندون إلى أمر وجودي في العين وهو الله عز وجل فيثبت حكمهم في العين أي في عين المحكوم عليه بهم لأن الذي يحفظ وجود هذا الحكم هو موجود بل هو عين الوجود وهو الله المسمى بهذه الأسماء المنعوت بهذه النعوت فهو الحق العالم المؤمن فيستند الايمان للمؤمن والعلم إلى العالم والحق إلى الحق والله تعالى ما تسمى بالباطل لوجوده ولا بالجاهل والكافر تعالى الله عن هذه الأسماء علوا كبيرا فنزلت الكتب الإلهية والصحف على قلوب المؤمنين الخلفاء والرعايا والورثة فسرت منفعتها في كل قلب كان محلا لكل طيب وأما الأمور العوارض التي ليست منزلة عن أمر إلهي مشروع فهي أهواء عرضت للنواب والرعايا تسمى جورا والعوارض لا ثبات لها فيزول حكمها بزوالها إذا زال والعين الذي كان قبلها واتصف بها موجود ولا بد له من حال يتصف به وقد زال عنه الشقاء لزوال موجبة إذ كان الموجب عارضا عرض فلا بد من نقيضه وهو المسمى سعادة ومن دخل النار منهم فما دخلها إلا لتنفى عنه خبثه وتبقي طيبه فإذا ذهب الخبث وبقي الطيب فذلك المعبر عنه بالسعيد الذي كان سعده مستهلكا في خبثه هكذا هو الأمر في نفسه ولا يعلم قدر ما قررناه إلا ذو عينين لا ذو عين واحدة ومن وقف بين النجدين فرأى غاية كل طريق فسلك طريق سعادته التي لا يتقدمها شقاء فإنها طريق سهلة بيضاء مثلي نقية لا شوب فيها ولا عوجا ولا أمتا والطريق الأخرى وإن كانت غايتها سعادة ولكن في الطريق مفاوز ومهالك وسباع عادية وحيات مضرة فلا يصل مخلوق إلى غايتها حتى يقاسي هذه الأهوال والطريقان متجاوران ينبعثان من أصل واحد وينتهيان إلى أصل واحد ويفترقان ما بين الأصلين ما بين البداية والغاية وصورتهما في الهامش كما تراه فيشاهد صاحب المحجة البيضاء ما في طريق صاحبه لأنه بصير وصاحبه أعمى فليس يرى الأعمى طريق البصير فيطرأ على البصير من مشاهدة تلك الآفات التي في طريق الأعمى مخاوف لما يرى من الأهوال ويتوهم في نفسه لو كان فيها ما كان يقاسيه ويرى الأعمى ليس عنده خبر من هذا كله لما هو عليه من العمي فلا يبصر شيئا فيسير ملتذا بسيره حتى يتردى في حفرة أو تلدغه حية من تلك الحيات فحينئذ يحس بالألم ويستغيث بصاحبه فمن الأصحاب من يغيثه ومن الأصحاب من يكون قد سبقه فلا يسمعه فيبقى مضطرا ما شاء الله فيرحمه الله فيسعده والحيوان بما هو حيوان يحس بالألم واللذة وبما هو عاقل وهو الإنسان يعلم السبب المؤلم والسبب الملذ ذوقا من العادة حتى إن جماعة غلطت في ذلك فجعلوا الألم للسبب المؤلم ذاتيا وليس كذلك وإنما الذي يتألم به الإنسان أو يلتذ إنما هو قيام الألم به أو اللذة به عقلا لا سببها هذا في الآلام واللذات العادية وثم أسباب أخر لا يستقل العقل بإدراكها فيخبره الله بها على لسان رسوله بالوحي فيعلمها فيأتي من ذلك ما أمره الله به أن يأتيه ويجتنب من ذلك ما أمره الله به أن يجتنبه وقد علم الألم واللذة عقلا فيتذكرهما عند علمه بهذه الأسباب الشرعية الموجبة لهما فمن أطاع أطاع على بصيرة من أمره ومن عصى وعلم أنه عاص عصى على بصيرة من المعصية وليس هو على بصيرة من المؤاخذة عليها كما هو على بصيرة في الطاعة من الجزاء عليها فما أجرأه على المعصية بالقدر السابق إلا كونه على غير بصيرة من المؤاخذة ولا ينبغي للمؤمن بل لا يصح أن يكون على بصيرة في المؤاخذة بالمعصية فإن الرحمة الإلهية والمغفرة ما هو الانتقام والأخذ بأولى من المغفرة إلا ما عين الله من صفة خاصة يستحق من مات وهي به قائمة المؤاخذة ولا بد وليس إلا الشرك وما عدا الشرك فإن الله أدخله في المشيئة فلا يصح أن يكون أحد على بصيرة في العقاب فهذا هو الذي أجرأ النفوس على ارتكاب المحارم والدخول في المأثم إلا من عصم الله‏

بخوف أو رجاء أو حياء أو عصمة في علم الله به خارجة عن هذه الثلاثة ولا خامس لهذه الأربعة المانعة من وقوع المخالفة والتعرض للعقوبة والممكن قد عهد الله على قبوله لكل ممكن بذاته فمن وفي بهذا العهد مع الله فإنه يسعده بلا شك ابتداء فإن نقض عهد الله في ذلك وصير الممكن محالا أو واجبا فقد خرج عما عاهَدَ عَلَيْهُ الله وعرض بذاته لما تخيل أنه لا يصيبه ومثل هذا هو الذي رد دعوة الحق التي جاء بها الرسول من عند الله كالبراهمة ومن قال بقولهم‏

[الإنسان الكامل عمد السماء]

واعلم أنه لما كان الإنسان الكامل عمد السماء الذي يُمْسِكُ الله بوجوده السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ فإذا زال الإنسان‏

الكامل وانتقل إلى البرزخ هوت السماء وهو قوله تعالى وانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ أي ساقطة إلى الأرض والسماء جسم شفاف صلب فإذا هوت السماء حلل جسمها حر النار فعادت دخانا أحمر كالدهان السائل مثل شعلة نار كما كانت أول مرة وزال ضوء الشمس فطمست النجوم فلم يبق لها نور إلا أن سباحتها لا تزول في النار لا بل انتثرت فهي على غير النظام الذي كان سيرها في الدنيا فتعطي من الأحكام في أهل النار على قدر ما أوحى فيها الله تعالى لأن الأخرى تجديد نشأة أخرى في الكل لا يعرفها العقل الأول ولا اللوح المحفوظ ولذلك‏

قال صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم إنه يحمد الله يوم القيامة في المقام المحمود بمحامد لا يعلمها الآن‏

يعلمه الله إياها في ذلك اليوم بحسب ما يظهر في ذلك من حكم الأسماء الإلهية لا يعلمها أحد اليوم فنشأة الخلق وأحوالهم وما يكون منهم في القيامة والدارين على غير نشأة الدنيا وإن أشبهتها في الصورة ولذلك قال ولَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى‏ فَلَوْ لا تَذَكَّرُونَ أنها كانت على غير مثال كذلك ينشئكم في ما لا تَعْلَمُونَ يوم القيامة فلنذكر في هذا الباب طرفا من هيأة جهنم وهيأة الجنات وما فيها مما لم نذكره في بابهما فيما تقدم ولنجعل ذلك كله في أمثلة ليقرب تصورها على من لا يتصور المعاني من غير ضرب مثل كما ضرب الله للقلوب مثلا بالأودية بقدرها في نزول الماء وكما ضرب المثل لنوره بالمصباح كل ذلك ليقرب إلى الأفهام الضعيفة الأمر وهو قوله خَلَقَ الْإِنْسانَ عَلَّمَهُ الْبَيانَ بما بين له فعلم كيف يبين لغيره فنقول إن الجسم لما ملأ الخلأ كان أول شكل قبله الاستدارة فسمى تلك الاستدارة فلكا وفي تلك الدائرة ظهرت صور العالم كله أدناه وأعلاه ولطيفه وكثيفه وما يتحيز منه وما لا يتحيز فالذي ملأ الخلأ غير متحيز ولا في مكان ولا يقبل المكان ولو لا اتصاف الحق بالإحاطة ما توهم العقل انحصار هذا الجسم الكل في الخلأ ولا توهم الخلأ إلا من شهود الجسم المحسوس كما لم يتوهم انحصار الممكنات وإن كانت لا تتناهى في نفس الأمر وما وجد منها هو متناه ويدخل في ذلك العقل الأول وكل ما لا يتحيز ولا يقبل المكان وكان ينبغي أن يقال فيما لا يتحيز أن ذلك غير متناه لأن التناهي لا يعقل إلا في المكان والزمان الموجود وقد وجد ما لا يتحيز فكيف يعقل فيه التناهي وكذلك ما دخل في الوجود من المراتب وإن كانت عدما فإنها متوهمة الوجود فإن المراتب نسب عدمية وهي المكانة تنزل كل شي‏ء موجود أو معدوم بالحكم في رتبته سواء كان واجب الوجود لذاته أو واجب الوجود لغيره أو محال الوجود فللعدم الخالص مرتبة وللوجود المحض مرتبة وللممكن المحض مرتبة كل مرتبة متميزة عن الأخرى فلا بد من الحصر المتوهم والمعقول والمعلومات كلها في علم الله على ما هي عليه فهو يعلم نفسه ويعلم غيره ووجوده لا يتصف بالتناهي وما لم يدخل في الوجود فلا يتصف بالتناهي والأجناس متناهية وهي معلومة بعلمه والعلم محيط بما يتناهى وما لا يتناهى مع حصر العلم له وهنا حارت العقول من حيث أفكارها ثم إن الحق إن حققت الأمر قد أدخل نفسه في الوصف الذي وصف به من الظرفية فوصف نفسه بأنه في العماء وعلى العرش وفي السماء وفي الأرض ووصف نفسه بالقبل وبالمعية وبكل شي‏ء وجعل نفسه عين كل شي‏ء بقوله كُلُّ شَيْ‏ءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ ثم قال لَهُ الْحُكْمُ وهو ما ظهر في عين الأشياء ثم قال وإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ أي مردكم من كونكم أغيارا إلي فيذهب حكم الغير فما في الوجود إلا أنا ونبين ذلك مثلا باسم الإنسان بجملة تفاصيله واتصافه بأحكام متغايرة من حياة وحس وقوى وأعضاء مختلفة في الحركات وكل ما يتعلق بهذا المسمى إنسانا وليست هذه الأعيان التي تظهر فيها هذه الأحكام بأمر غير الإنسان فإلى الإنسان ترجع هذه الأحكام والأحكام في الحق صور العالم كله ما ظهر منه وما يظهر والأحكام منه ولهذا قال لَهُ الْحُكْمُ ثم يرجع الكل إلى أنه عينه فهو الحاكم بكل حكم في كل شي‏ء حكما ذاتيا لا يكون إلا هكذا فسمى نفسه بأسمائه فحكم عليه بها وسمي ما ظهر به من الأحكام الإلهية في أعيان الأشياء ليميز بعضها عن بعض كما ميز جسم الإنسان عن روحه وليس إنسانا إلا بمجموعه كما تسمى خالقا به وبخلقه فلا يقال في روح الإنسان إنها عين الإنسان ولا غيره وكذلك في حقائقه ولوازمه وعوارضه لا يقال في يد الإنسان ولا في شي‏ء من أعضائه أنه عين الإنسان ولا غير الإنسان كذلك أعيان العالم لا يقال إنها عين الحق ولا غير الحق بل الوجود كله حق ولكن من الحق ما يتصف بأنه مخلوق ومنه ما يوصف بأنه غير مخلوق لكنه كل موجود فإنه موصوف بأنه محكوم عليه بكذا فنقول في الله إنه غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ‏

فحكمنا عليه بهذا النعت وقلنا في المسمى سواه إنه فقير إلى الله فحكمنا عليه فالكل محكوم عليه كما حكمنا على كل شي‏ء بالهلاك وحكمنا على وجهه بالاستثناء من حكم الهلاك فهو أول محكوم عليه من عين هويته فمما حكم به على هويته أن وصف نفسه بأن له نفسا بفتح الفاء وأضافه إلى الاسم الرحمن لنعلم إذا ظهرت أعياننا وبلغتنا سفراؤه هذا الأمر شمول الرحمة وعمومها ومال الناس والخلق كله إليها فإن الرحمن لا يظهر عنه إلا المرحوم فافهم فالنفس أول غيب ظهر لنفسه فكان فيه الحق من اسمه الرب مثل العرش اليوم الذي استوى عليه بالاسم الرحمن وهو أول كثيف شفاف نوري ظهر فلما تميز عمن ظهر عنه وليس غيره وجعله تعالى ظرفا له لأنه لا يكون ظرفا له إلا عينه فظهر حكم الخلأ بظهور هذا النفس ولو لا ذلك ما قلنا خلاء ثم أوجد في هذا العماء جميع صور العالم الذي قال فيه إنه هالك يعني من حيث صوره إِلَّا وَجْهَهُ يعني إلا من حقيقته فإنه غير هالك فالهاء في وجهه تعود على الشي‏ء فكل شي‏ء من صور العالم هالك إلا من حقائقه فليس بهالك ولا يتمكن أن يهلك ومثال ذلك للتقريب أن صورة الإنسان إذا هلكت ولم يبق لها في الوجود أثر لم تهلك حقيقته التي يميزها الحد وهي عين الحد له فنقول الإنسان حيوان ناطق ولا نتعرض لكونه موجودا أو معدوما فإن هذه الحقيقة لا تزال له وإن لم تكن له صورة في الوجود فإن المعلوم لا يزول من العلم فالعلم ظرف المعلومات فصورة العالم بجملته صورة دائرة فلكية ثم اختلفت فيها صور الأشكال من تربيع وتثليث وتسديس إلى ما لا يتناهى حكما لا وجودا والملائكة الحافون من حول العرش ما لهم سباحة إلا في هذا العماء المستدير الذي ظهر فيه أيضا عين العرش على التربيع بقوائمه وحملته من صور المعاني وصور أجسامها التي هي الحروف الدالة عليها فإن المعنى لا يستدل عليه إلا من حكم صورته وهو الحرف والحرف لا يعلم إلا من حيث معناه فهو العالم العلم المعلوم فما في الوجود إلا الواحد الكثير وفيه ظهرت الملائكة المهيمة والعقل والنفس والطبيعية والطبيعة هي أحق نسبة بالحق مما سواها فإن كل ما سواها ما ظهر إلا فيما ظهر منها وهو النفس بفتح الفاء وهو الساري في العالم أعني في صور العالم وبهذا الحكم يكون تجلى الحق في الصور التي ذكرها عن نفسه لمن عقل عنه ما أخبر به عن نفسه تعالى فانظر في عموم حكم الطبيعية وانظر في قصور حكم العقل لأنه في الحقيقة صورة من صور الطبيعة بل من صور العماء والعماء هو من صور الطبيعة وإنما جعل من جعل رتبة الطبيعة دون النفس وفوق الهيولى لعدم شهوده الأشياء وإن كان صاحب شهود ومشى هذه المقالة فإنه يعني بها الطبيعة التي ظهرت بحكمها في الأجسام الشفافة من العرش فما حواه فهي بالنسبة إلى الطبيعة نسبة البنت إلى المرأة التي هي الأم فتلد كما تلد أمها وإن كانت البنت مولودة عنها فلها ولادة على كل من يولد عنها وكذلك العناصر عندنا القريبة إلينا هي طبيعة ما تولد عنها وكذلك الأخلاط في جسم الحيوان فلهذا سميناها طبيعة كما نسمي البنت والبنات والأم أنثى ونجمعها إناثا وإنما ذكرنا هذا لما نظهره من الأشكال لضرب الأمثال للتقريب على الأفهام القاصرة عن إدراك المعاني من غير مثل فإن الله ما جعل معرفة الإنسان نفسه إلا ضرب مثال لمعرفة ربه إذ لو لم يعرف نفسه لم يعرف ربه وهذا صورة العماء الذي هو الجسم الحقيقي العام الطبيعي الذي هو صورة من قوة الطبيعية تجلى لما يظهر فيه من الصور وما فوقه رتبة إلا رتبة الربوبية التي طلبت صورة العماء من الاسم الرحمن فتنفس فكان العماء فشبهه لنا الشرع مما ذكر عنه من هذا الاسم فلما فهمنا صورته بالتقريب قال ما فوقه هواء يعلو عليه فما فوقه إلا حق وما تحته هواء يعتمد عليه أي ما تحته شي‏ء ثم ظهرت فيه الأشياء فالعماء أصل الأشياء والصور كلها وهو أول فرع ظهر من أصل فهو نجم لا شجر ثم تفرعت منه أشجار إلى منتهى الأمر والخلق وهو الأرض وذلك بتقدير العزيز العليم فهذا المثل المضروب المشكل الممثل الذي نضربه ونشكله هو العماء وهو الدائرة المحيطة وهو فلك‏

الإشارات والنقط التي في الدائرة مثال أعيان الأرواح المهيمة والنقطة العظمى في هذه النقط العقل والدائرة التي إلى جانب النقطة العظمى التي في داخلها نقطتان هي النفس الكل واللوح المحفوظ وتانك النقطتان فيهما القوتان العلمية والعملية والأربع النقط المجاورات لدائرة النفس رتبة الطبيعة التي هي بنت الطبيعة العظمى والدائرة التي في جوف هذه الدائرة العظمى هي جوهر الهيولى وهو الهباء والشكل المربع فيه هو العرش والدائرة في جوف هذا الشكل المربع هو الكرسي‏

موضع القدمين والدائرة التي في جوفه هي الفلك الأطلس والدوائر الثمانية هي الجنات والدائرة التي تحت الثمانية هو الفلك المكوكب فلك المنازل وما تحت مقعره هو جهنم وفيما تحت مقعره انفتحت أشكال السموات والأرض وما بينهما من الأركان والكواكب الثابتة كل ذلك جهنم فإذا بدلت السماء والأرض فإنما يقع التبديل في الصور لا في الأعيان وإن كانت الأعيان صورا ولكن إذا علم المراد فلا مشاحة في الألفاظ والعبارات والخطان اللذان تحت الشكل المربع المسمى عرشا الخط الواحد الماء والآخر الهواء واتصاف الدوائر التي في جوف فلك الكواكب هي السموات والخطوط التي تستقر عليها أطراف إنصاف الدوائر الأرض وما بين القبة التي في أول خط من خطوط الأرض ثلاثة خطوط بالحمرة هي الثلاثة الأركان الماء والهواء والنار والمقادير المعينة في الفلك الأطلس هي البروج والمقادير المعينة في الفلك الموكب هي المنازل وكل قبة من القباب السبعة فيها نقطة حمراء هي صورة كوكب كل قبة ثم جميع ما في جوف الفلك المكوكب يستحيل في الآخرة إلى صور غير هذه الصور وفي جوف الفلك المكوكب يكون الحشر والنشر والحساب والعرش الذي يتجلى فيه الحق للفصل والقضاء والملائكة في تلك الأرض سبعة صفوف بين يدي ذلك العرش والناس والجان بين العرش وصفوف الملائكة والصراط منصوب كالخط الذي يقسم الدائرة نصفين وينتهي إلى المرج الذي خارج سور الجنة موضع المأدبة التي يأكلها أهل الجنة قبل دخول الجنة وبعد الجواز على الصراط وسأشكل هذا كله وأمثاله واكتب على كل شكل اسم المراد به فمن ذلك صورة العماء وما يحوي عليه إلى عرش الاستواء فإن موضع صور الأشكال ضيق هنا لا يتسع لصور ما نريد تشكيلة واحدة فإنه لو اتسع كان أبين للناظر فيه‏

ومن ذلك صورة عرش الاستواء والكرسي والقدمان والماء الذي عليه العرش والهواء الذي يمسك الماء والظلمة

ومن ذلك صورة الفلك الأطلس والجنات وسطح فلك الكواكب وشجرة طوبى‏

ومن ذلك صورة الفلك المكوكب وقباب السموات وما تستقر عليه وهو الأرض والأركان الثلاثة والعمد الذي يمسك الله به القبة والمعدن والنبات والحيوان والإنسان‏

ومن ذلك صورة أرض المحشر وما يحوي عليه من الأعيان والمراتب وعرش الفصل والقضاء وحملته وصفوف الملائكة

ومن ذلك صورة جهنم وأبوابها ومنازلها ودركاتها

ومن ذلك صورة حضرة الأسماء الإلهية والدنيا والآخرة والبرزخ‏

ومن ذلك صورة كثيب الرؤية ومراتب الخلق فيه‏

ومن ذلك صورة العالم كله وترتيب طبقاته روحا وجسما وعلوا وسفلا

«وصل»

فلنتكلم على كل صورة صورة منها على ما هو الأمر عليه في نفسه في فصول تسعة كما رسمناها في وجوه تسعة من التصوير وما جعلتها على الترتيب من التقديم والتأخير ولكن الكلام عليها يبين المتقدم من ذلك والمتأخر والمجمل والمفصل‏

«الفصل الأول في ذكر العماء وما يحوي عليه إلى عرش الاستواء»

اعلم أن الله موصوف بالوجود ولا شي‏ء معه موصوف بالوجود من الممكنات بل أقول إن الحق هو عين الوجود وهوقول رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم كان الله ولا شي‏ء معه‏

يقول الله موجود ولا شي‏ء من العالم موجود فذكر عن نفسه بدء هذا الأمر أعني ظهور العالم في عينه وذلك أن الله تعالى أحب أن يعرف ليجود على العالم بالعلم به عز وجل وعلم أنه تعالى لا يعلم من حيث هويته ولا من حيث يعلم نفسه وأنه لا يحصل من العلم به تعالى في العالم إلا أن يعلم العالم أنه لا يعلم وهذا القدر يسمى علما كما قال الصديق العجز عن درك الإدراك إدراك إذ قد علم إن في الوجود أمرا ما لا يعلم وهو الله ولا سيما للممكنات من حيث إن لها أعيانا ثابتة لا موجودة مساوقة لواجب الوجود في الأزل كما إن لنا تعلقا سمعيا ثبوتيا لا وجوديا بخطاب الحق إذا خاطبنا وأن لها قوة الامتثال كذلك لها جميع القوي من علم وبصر وغير ذلك كل أمر ثبوتي وحكم محقق غير وجودي وعلى تلك الأعيان وبها تتعلق رؤية من يراها من الموجودات كما ترى هي نفسها رؤية ثبوتية فلما اتصف لنا بالمحبة والمحبة حكم يوجب رحمة الموصوف بها بنفسه ولهذا يجد المتنفس راحة في تنفسه فبروز النفس من المتنفس عين رحمته بنفسه فما خرج عنه تعالى إلا الرحمة التي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْ‏ءٍ فانسحبت على جميع العالم ما كان منه وما لا يكون إلى ما لا يتناهى‏

فأول صورة قبل نفس الرحمن صورة العماء فهو بخار رحماني فيه الرحمة بل هو عين الرحمة فكان ذلك أول ظرف قبله وجود الحق فكان الحق له كالقلب للإنسان كما أنه تعالى لقلب الإنسان العارف المؤمن كالقلب للإنسان فهو قلب القلب كما أنه ملك الملك فما حواه غيره فلم يكن إلا هو ثم إن جوهر ذلك العماء قبل صور الأرواح من الراحة والاسترواح إليها وهي الأرواح المهيمة فلم تعرف غير الجوهر الذي ظهرت فيه وبه وهو أصلها وهو باطن الحق وغيبه ظهر فظهر فيه وبه العالم فإنه من المحال أن يظهر العالم من حكم الباطن فلا بد من ظهور حق به يكون ظهور صور العالم فلم يكن غير العماء فهو الاسم الظاهر الرحمن فهامت في نفسها ثم أيه واحدا من هذه الصور الروحية بتجل خاص علمي انتقش فيه علم ما يكون إلى يوم القيامة مما لا تعلمه الأرواح المهيمة فوجد في ذاته قوة امتاز بها عن سائر الأرواح فشاهدهم وهم لا يشاهدونه ولا يشهد بعضهم بعضا فرأى نفسه مركبا منه ومن القوة التي وجدها علم بها صدوره كيف كان وعلم إن في العلم حقائق معقولات سماها معقولات من حيث إنه عقلها لما تميزت عنده فلم يكن لها أن يكون كل واحدة منها عين الأخرى فهي للحق معلومات وللحق ولأنفسها معقولات ولا وجود لها في الوجود الوجودي ولا في الوجود الإمكانى فيظهر حكمها في الحق فتنسب إليه وتسمى أسماء إلهية فينسب إليها من نعوت الأزل ما ينسب إلى الحق وتنسب أيضا إلى الخلق بما يظهر من حكمها فيه فينسب إليها من نعوت الحدوث ما ينسب إلى الخلق فهي الحادثة القديمة والأبدية الأزلية وعلم عند ذلك هذا العقل أن الحق ما أوجد العالم إلا في العماء ورأى أن العماء نفس الرحمن فقال لا بد من أمرين يسميان في العلم النظري مقدمتين لإظهار أمر ثالث هو نتيجة ازدواج تينك المقدمتين ورأى أن عنده من الحق ما ليس عند الأرواح المهيمة فعلم أنه أقرب مناسبة للحق من سائر الأرواح ورأى في جوهر العماء صورة الإنسان الكامل الذي هو للحق بمنزله ظل الشخص من الشخص ورأى نفسه ناقصا عن تلك الدرجة وقد علم ما يتكون عنه من العالم إلى آخره في الدنيا وفي المولدات فعلم أنه لا بد أن يحصل له درجة الكمال التي للإنسان الكامل وإن لم يكن فيها مثل الإنسان فإن الكمال في الإنسان الكامل بالفعل وهو في العقل الأول بالقوة وما كان بالقوة والفعل أكمل في الوجود ممن هو بالقوة دون الفعل ولهذا وجد العامل في عينه فأخرجه من القوة إلى الفعل ليتصف بكمال الاقتدار ولو كان في الإمكان إيجاد الممكنات كلها لما ترك منها واحدا منعوتا بالعدم لكن يستحيل ذلك لعدم التناهي وما يدخل في الوجود فلا بد أن يكون‏

متناهيا فتجلى له الحق فرأى لذاته ظلالان ذلك التجلي كان كالكلام لموسى من جانب الطور كذلك كان التجلي الإلهي لهذا العقل من الجانب الأيمن فإن لله يدين مباركتين مبسوطتين يعني فيهما الرحمة فلم يقرن بهما شيئا من العذاب فيعطي رحمة يبسطها ويعطي رحمة يقبضها فإن القبض ضم إليه والبسط انفساخ فيه فكان ذلك الظل الممتد عن ذات العقل من نور ذلك التجلي وكثافة المحدث بالنظر إلى اللطيف الخبير نفسا وهو اللوح المحفوظ والطبيعة الذاتية مع ذلك كله وتسمى هناك حياة وعلما وإرادة وقولا كما تسمى في الأجسام حرارة وبرودة ويبوسة ورطوبة كما تسمى في الأركان نارا وهواء وماء وترابا كما تسمى في الحيوان سوداء وصفراء وبلغما ودما والعين واحدة والحكم مختلف‏

فالعين واحدة والحكم مختلف *** وذاك سر لأهل العلم ينكشف‏

ثم صرف العقل وجهه إلى العماء فرأى ما بقي منه لم يظهر فيه صورة وقد أبصر ما ظهرت فيه الصور منه قد أنار بالصور وما بقي دون صورة رآه ظلمة خالصة ورأى أنه قابل للصور والاستنارة فاعلم إن ذلك لا يكون إلا بالتحامك بظلك فعمه التجلي الإلهي كما تعم لذة الجماع نفس الناكح حتى تغيبه عن كل معقول ومعلوم سوى ذاتها فلما عمه نور التجلي رجع ظله إليه واتحد به فكان نكاحا معنويا صدر عنه العرش الذي ذكر الحق أنه استوى عليه الاسم الرحمن فقال الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى‏ فما أنكره من أنكره أعني الاسم الرحمن إلا للقرب المفرط ولم يقروا

بالله إلا لما يتضمنه هذا الاسم من الرحمة والقهر فعلم وجهل الرحمن فقالوا وما الرَّحْمنُ ولو قالها بلسان غير العربي لقال ما يشبه هذا المعنى ويقع الإنكار منهم أيضا فلا أقرب من الرحمة إلى الخلق لأنه ما ثم أقرب إليهم من وجودهم ووجودهم رحمة بلا شك‏

«الفصل الثاني» في صورة العرش والكرسي والقدمين والماء

الذي عليه العرش والهواء الذي عليه الماء والظلمة

التي ظهر عنها الهواء الذي يمسك الماء ويمسك عليه الجرية والحملة والحافين‏

[ظلمة الغيب‏]

اعلم أن هذه الظلمة هي ظلمة الغيب ولهذا سميت ظلمة أي لا يظهر ما فيها فكلما برز من الغيب ظهر لنا فنحن تنظر إلى ما ظهر من صور العالم في مرآة الغيب ولا نعرف أن ذلك في مرآة غيب وهي للحق كالمرآة فإذا تجلى الحق لها انطبع فيها ما في العلم الإلهي من صور العالم وأعيانه وما زال الحق متجليا لها فما زالت صور العالم في الغيب وكل ما ظهر لمن وجد من العالم فإنما هو ما يقابله في نظره في هذه المرآة التي هي الغيب فلو جاز أن يعلم جميع ما في علم الحق وذلك لا يجوز فلا يجوز أن يرى من صور العالم في هذه المرآة إلا ما تراءى له منها فكان مما رآه فيها صورة العرش الذي استوى الرحمن عليه وهو سرير ذو أركان أربعة ووجوه أربعة هي قوائمه الأصلية التي لو استقبل بها لثبت عليه إلا أنه في كل وجه من الوجوه الأربعة التي له قوائم كثيرة على السواء في كل وجه معلومة عندنا إعدادها زائدة على القواعد الأربعة وجعله مجوفا محيطا بجميع ما يحوي عليه من كرسي وأفلاك وجنات وسماوات وأركان ومولدات فلما أوجده استوى عليه الرحمن واحد الكلمة لا مقابل لها فهو رحمة كله ليس فيه ما يقابل الرحمة وهو صورة في العماء فالعقل أبوه والنفس أمه ولذلك استوى عليه الرحمن فإن الأبوين لا ينظران أبدا لولدهما إلا بالرحمة والله أرحم الراحمين والنفس والعقل موجودان كريمان على الله محبوبان لله فما استوى على العرش إلا بما تقر به أعين الأبوين وهو الرحمن فعلمنا أنه ما يصدر عنه إلا ما فيه رحمة وإن وقع ببعض العالم غصص فذلك لرحمة فيه لو لا ما جرعه إياها اقتضى ذلك مزاج الطبع ومخالفة الغرض النفسي فهو كالدواء الكرية الطعم الغير المستلذ وفيه رحمة للذي يشربه ويستعمله وإن كرهه ف باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وظاهِرُهُ من قِبَلِهِ الْعَذابُ وما استوى عليه الرحمن تعالى إلا بعد ما خلق الأرض وقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها وخلق السموات وأَوْحى‏ في كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها وفرغ من خلق هذه الأمور كلها ورتب الأركان ترتيبا يقبل الاستحالات لظهور التكوين والتنقل من حال إلى حال وبعد هذا اسْتَوى‏ عَلَى الْعَرْشِ قال تعالى فَسْئَلْ به خَبِيراً الضمير في قوله به يعود على الاستواء أي فاسأل بالاستواء خبيرا يعني كل من حصل له ذلك ذوقا كأمثالنا فإن أهل الله ما علموا الذي علموه إلا ذوقا ما هو عن فكر ولا عن تدبر فهو تعالى النازل الذي لا يفارق المنزل ولا النزول فهو مع كل شي‏ء بحسب حال ذلك الشي‏ء وفي ليلة تقييدي هذا الوجه أراني الحق في واقعتي رجلا ربع القامة فيه شقرة فقعد بين يدي وهو ساكت فقال لي الحق هذا عبد من عبادنا أفده ليكون هذا في ميزانك فقلت له من هو فقال لي هذا أبو العباس بن جودي من ساكني البشرات وأنا ذا ذاك في دمشق فقلت له يا رب وكيف يستفيد مني وأين أنا منه فقال لي قل فإنه يستفيد منك فكما أريتك إياه أريته إياك فهو الآن يراك كما تراه فخاطبه يسمع منك ويقول هو مثل ما تقول أنت يقول أريت رجلا بالشام يقال له محمد بن العربي وسماني أفادني أمرا لم يكن عندي فهو أستاذي فقلت له يا أبا العباس ما الأمر قال كنت أجهد في الطلب وأنصب وابذل جهدي فلما كشف لي علمت أني مطلوب فاسترحت من ذلك الكد فقلت له يا أخي من كان خيرا منك وأوصل بالحق وأتم في الشهود وأكشف للأمر قيل له وقل رب زدني علما فأين الراحة في دار التكليف ما فهمت ما قيل لك قولك علمت أني مطلوب ولم تدر بما ذا أنعم أنت مطلوب بما كنت عليه من الاجتهاد والجد ما هذه الدار دار راحة فإذا فرغت من أمر أنت فيه فانصب في أمر يأتيك في كل نفس فأين الفراغ فشكرني على ما ذكرته به فانظر عناية الله بنا وبه ثم نرجع فنقول ثم إنه تعالى خلق ملائكة من أنوار العرش يحفون بالعرش وجعل فيما خلق من الملائكة أربع حملة تحمل العرش من الأربع القوائم الذي هو العرش عليها وكل قائمة مشتركة بين كل وجهين إلى حد كل نصف وجه وجعل أركانه متفاضلة في الرتبة فأنزلني في أفضلها وجعلني‏

من جملة حملته فإن الله وإن خلق ملائكة يحملون العرش فإن له من الصنف الإنساني أيضا صورا تحمل العرش الذي هو مستوي الرحمن أنا منهم والقائمة التي هي أفضل قوائمه هي لنا وهي خزانة الرحمة فجعلني رحيما مطلقا مع علمي بالشدائد ولكن علمت أنه ما ثم شدة إلا وفيها رخاوة ولا عذاب إلا وفيه رحمة ولا قبض إلا وفيه بسط ولا ضيق إلا وفيه سعة فعلمت الأمرين والقائمة التي على يميني قائمة رحمة أيضا لكن ما فيها علم شدة فينقص حاملها في الدرجة عن حامل‏

القائمة العظمى التي هي أعم القوائم والقائمة التي على يساري قائمة الشدة والقهر فحاملها لا يعلم غير ذلك والقائمة الرابعة التي تقابلني أفاضت عليها القائمة التي أنا فيها مما هي عليه فظهرت بصورتها فهي نور وظلمة وفيها رحمة وشدة وفي نصف كل وجه قائمة فهي ثمانية قوائم لا حامل لتلك الأربعة اليوم إلى يوم القيامة فإذا كان في القيامة وكل الله بها من يحملها فيكونون في الآخرة ثمانية وهم في الدنيا أربعة وما بين كل قائمتين قوائم العرش عليها وبها زينته وعددها معلوم عندنا لا أبينه لئلا يسبق إلى الأفهام القاصرة عن إدراك الحقائق إن تلك القوائم عين ما توهموه وليست كذلك فلهذا لم نتعرض لإيضاح كميتها وبين مقعر العرش وبين الكرسي فضاء واسع وهواء محترق وصور أعمال بعض بنى آدم من الأولياء في زوايا العرش تطير من مكان إلى مكان في ذلك الانفساح الرحماني وقوائم هذا العرش على الماء الجامد ولذلك يضاف البرد إلى الرحمة كما

قال صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم وجدت برد أنامله‏

فأعطاه العلم الذي فيه الرحمة فالعرش إنما يحمله الماء الجامد والحملة التي له إنما هي خدمة له تعظيما وإجلالا وذلك الماء الجامد مقره على الهواء البارد وهو الذي جمد الماء وذلك الهواء نفس الظلمة التي هي الغيب ولا يعلم أحد ما تلك الظلمة إلا الله كما قال عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى‏ غَيْبِهِ أَحَداً وفيها يكون الناس على الجسر إذا بدلت الأرض غير الأرض والتبدل في الصفة لا في العين فتكون أرض صلاح لا أرض فساد وتمد مد الأديم ف لا تَرى‏ فِيها عِوَجاً ولا أَمْتاً وسيأتي ذكر ذلك في فصله من هذه الفصول إن شاء الله وخلق الكرسي في جوف هذا العرش مربع الشكل ودلى إليه القدمين فانقسمت الكلمة الواحدة التي هي في العرش واحدة فهي في العرش رحمة واحدة إليها مال كل شي‏ء وانقسمت في الكرسي إلى رحمة وغضب مشوب برحمة اقتضى ذلك التركيب لما يريد الله أن يظهر في العالم من القبض والبسط والأضداد كلها فإنه المعز المذل والقابض الباسط والمعطي المانع قال تعالى أَ فَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ فهذا من انقسام الكلمة غير إن الأمر إذا كان ذاتيا لم يكن إلا هذا

انظر إلى الكون في تفصيله عجبا *** ومرجع الكل في العقبي إلى الله‏

في الأصل متفق في الصور مختلف *** دنيا وآخرة فالحكم لله‏

في الله من كونه مجلى لعالمه *** ولا يرى الكون إلا الله بالله‏

فاعلم وجودك أن الجود موجدة *** وكن بذاك على علم من الله‏

فكما استوى الرحمن على العرش استوت القدمان على الكرسي وهو على شكل العرش في التربيع لا في القوائم وهو في العرش كحلقة ملقاة فالكرسي موضع راحة الاستواء فإنه ما تدلى إليه ما تدلى إلا مباسطة والقدم الثبوت فتانك قدم الصدق وقدم الجبار وقدم الجبر وقدم الاختيار ولهاتين القدمين مراتب كثيرة في العلم الإلهي لا يتسع الوقت لا يرادها لما ذهبنا إليه في هذا الكتاب من الإيجاز والاختصار ومقر هذا الكرسي أيضا على الماء الجامد وفي جوف هذا الكرسي جميع المخلوقات من سماء وأركان هي فيه كهو في العرش سواء وله ملائكة من المقسمات ولهذا انقسمت الكلمة فيه لأن هذا الصنف لا يعرفون أحدية وإن كانت فيهم فإن الله وكلهم بالتقسيم مع الأنفاس فلو أشهدهم الأحدية منهم ومن الأمور كلها ربما شغلوا بها نفسا واحدا عن التقسيم الذي خلقوا له وهم المطيعون كما أخبر الله عنهم فحيل بينهم وبين مشاهدة الوحدات فآية وحدة تجلت لهم قسموها بالحكم فلا يشهدون إلا القسمة في كل شي‏ء ولا غفلة عندهم ولا نسيان لما علموه وأما ملائكة التوحيد والوحدات إذا جمعهم مع المقسمات مجلس إلهي وجرت بينهما مفاوضات في الأمر اختصما لأنهما على النقيض وهذا من جملة ما يختصم فيه الملأ الأعلى فيقول الصنف الواحد بالوحدة ويقول الآخر بالانقسام والثنوية لم توجد أرواحهم إلا من هذه الأرواح ولم توجد هذه الأرواح إلا من القوتين اللتين في النفس الكلية

فالنفس لا تعرف إلا به *** والحق لا يعرف إلا بها

فكن له من ذاته منزها *** وكن له من نفسه مشبها

ومن يكن على الذي وصيته *** كان بما أوصيته منتبها

واعلم علمك الله أن الوهية المخلوقين من هذه الحضرة ظهرت في العالم لما تعطيه من انقسام كل شي‏ء فما ظهر في العالم إلا ما خلق تعالى فيه وعلمه وما اختص العلماء بالله وحصل لهم الشفوف على غيرهم إلا بمصادر الأشياء من أين ظهرت في العالم والتقابل لا نشك أنه انقسام في مقسوم فلا بد من عين جامعة تقبل القسمة ولما كان عذر العالم مقبولا في نفس الأمر لكونهم مجبورين في اختيارهم لذلك جعل الله مال الجميع إلى الرحمة فهو الغفور لما ستر من ذلك عن قلوب من لم يعلمه بصورة الأمر رحمة به لأنه الرحيم في غفرانه لعلمه بأن مزاجه لا يقبل فالمنع من القابل لتضمنه مشيئة الحق لكون العين قابلة لكل مزاج فما اختصت واحدة على التعيين بمزاج دون غيره مع كونها قابلة لكل مزاج إلا لحكم المشيئة الإلهية وإلى هذا إذا صعدت أرواح الثنوية يكون معراجها ليس لها قدم في غيره فلها طريق خاص وعَلَى الله قَصْدُ السَّبِيلِ‏

«فصل ثالث في الفلك الأطلس والبروج والجنات وشجرة طوبى وسطح الفلك المكوكب»

اعلم أن الله خلق في جوف هذا الكرسي الذي ذكرناه جسما شفافا مستديرا قسمه اثني عشر قسما سمي الأقسام بروجا وهي التي أقسم بها لنا في كتابه فقال تعالى والسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ وأسكن كل برج منها ملكا هم لأهل الجنة كالعناصر لأهل الدنيا فهم ما بين مائي وترابي وهوائي وناري وعن هؤلاء يتكون في الجنات ما يتكون ويستحيل فيها ما يستحيل ويفسد ما يفسد أعني ينفسد بتغير نظامه إلى أمر آخر ما هو الفساد المذموم المستخبث فهذا معنى يفسد فلا تتوهم ومن هنا قالت الإمامية بالاثني عشر إماما فإن هؤلاء الملائكة أئمة العالم الذي تحت إحاطتهم ومن كون هؤلاء الاثني عشر لا يتغيرون عن منازلهم لذلك قالت الإمامية بعصمة الأئمة لكنهم لا يشعرون أن الإمداد يأتي إليهم من هذا المكان وإذا سعد وأسرت أرواحهم في هذه المعارج بعد الفصل والقضاء النافذ بهم إلى هذا الفلك تنتهي لا تتعداه فإنها لم تعتقد سواه فهم وإن كانوا اثني عشر فهم على أربع مراتب لأن العرش على أربع قوائم والمنازل ثلاثة دنيا وبرزخ وآخرة وما ثم رابع ولكل منزل من هذه المنازل أربعة لا بد منهم لهم الحكم في أهل هذه المنازل فإذا ضربت ثلاثة في أربعة كان الخارج من هذا الضرب اثني عشر فلذلك كانوا اثني عشر برجا ولما كانت الدار الدنيا تعود نارا في الآخرة بقي حكم الأربعة عليها التي لها والبرزخ في سوق الجنة ولا بد فيه من حكم الأربعة والجنة لا بد فيها من حكم الأربعة فلا بد من البروج فالحمل والأسد والقوس على مرتبة واحدة من الأربعة في مزاجهم والثور والسنبلة والجدي على مرتبة أخرى ولاة أيضا والجوزاء والميزان والدالي على مرتبة أخرى ولاة أيضا والسرطان والعقرب والحوت على مرتبة أخرى ولاة أيضا لأن كل واحد من كل ثلاثة على طبيعة واحدة في مزاجهم لكن منازل أحكامهم ثلاثة وهم أربعة ولاة في كل منزل وكل واحد منهم له الحكم في كل منزل من الثلاثة كما إن اليوم والليلة لواحد من السبع الجواري الخنس الكنس هو وإليها وصاحبها الحاكم فيها ولكن للباقي من الجواري فيه حكم مع صاحب اليوم فلا يستقل دون الجماعة إلا بأول ساعة من يومه وثامن ساعة وكذلك الليل والآخرة مثل ذلك وإن كان لها الأسد كما كان للدنيا السرطان فلا بد لباقي البروج من حكم فيها كذلك البرزخ وإن كان له السنبلة فلا بد لكل واحد من الباقين من حكم فيها وما ثم منزل ثالث إلا بتبدل الدنيا بالنار فإنه قد كان صاحب الدنيا بحكم الأصل السرطان فلما عادت نارا عزل السرطان ووليها برج الميزان وتبعه الباقون في الحكم فانظر ما أعجب هذا فإذا انقضى عذاب أهل النار وليها برج الجوزاء ولا بد لمن بقي من البروج حكم في ولاية هذا الوالي وإذا كان الحكم لواحد من هؤلاء في وقت نظره فيهم كان مزاج القابل في الآخرة على حكم النقيض حتى يتنعم به إذا حكم عليه هذا في المال خاصة لأن المال رحمة مطلقة عامة فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا أعني بِفَضْلِ الله وبِرَحْمَتِهِ فإنه خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ولما أدار الله الفلك الأطلس بما جعل فيه من الولاة والحكام وجعل منتهى دورته يوما كاملا لا ليل فيه ولا نهار أوجد ما فيه عند حركته وبما ألقى وأوحى به إلى النواب من الحكم في ذلك وجعل‏

لأحكامهم في كل عين مدة معلومة محصورة تتنوع تلك المدد بحسب المنزل الدنياوي والأخراوي والبرزخى والحكم البرزخى أسرعه مدة وأكثره حكما كذا وسنيه على قدر أيامه والأيام متفاضلة فيوم نصف دورة ويوم دورة كاملة ويوم من ثمان وعشرين دورة وأكثر من ذلك إلى يوم المعارج وأقل من ذلك إلى يوم الشئون وما بين هذين اليومين درجات للأيام متفاضلة وجعل لكل نائب من هؤلاء الأملاك الاثني عشر في كل برج ملكه إياه ثلاثين خزانة تحتوي كل خزانة منها على علوم شتى يهبون منها لمن نزل بهم عن قدر ما تعطيه رتبة هذا النازل وهي الخزائن التي قال الله فيها وإِنْ من شَيْ‏ءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ وهذا النازل بهم ما يصرف ما حصل له من هذه الخزائن من العلوم في نفسه فإن حظه منها حظ حصولها ويصرف ما حصل له في عالم الأركان والمولدات والإنسان فمن النازلين من يقيم عندهم يوما في كل خزانة وينصرف وهو أقل النازلين إقامة وأما أكثر النازلين إقامة فهو الذي يقيم عند كل خزانة ليحصل منها على قدر رتبته عند الله وما يعطيه استعداده مائة سنة وباقي النازلين ما بين مائة سنة واليوم وأعني باليوم قدر حركة هذا الفلك الأطلس وأعني بالمائة سنة كل سنة ثلاث مائة وستين يوما من أيام هذه الحركة فاعلم ذلك وهذه الخزائن تسمى عند أهل التعاليم درجات الفلك والنازلون بها هم الجواري والمنازل وعيوقاتها من الثوابت والعلوم الحاصلة من هذه الخزائن الإلهية هي ما يظهر في عالم الأركان من التأثيرات بل ما يظهر من مقعر فلك الكواكب الثابتة إلى الأرض وسميت ثابتة لبطئها عن سرعة الجواري السبعة وجعل لهؤلاء الاثني عشر نظرا في الجنات وأهلها وما فيها مخلصا من غير حجاب فما يظهر في الجنان من حكم فهو عن تولي هؤلاء الاثني عشر بنفوسهم تشريفا لأهل الجنة وأما أهل الدنيا وأهل النار فما يباشرون ما لهم فيها من الحكم إلا بالنواب وهم النازلون عليهم الذين ذكرناهم فكل ما يظهر في الجنات من تكوين وأكل وشرب ونكاح وحركة وسكون وعلوم واستحالة ومأكول وشهوة فعلى أيدي هؤلاء النواب الاثني عشر من تلك الخزائن بإذن الله عز وجل الذي استخلفهم ولهذا كان بين ما يحصل عنهم بمباشرتهم وبين ما يحصل عنهم بغير مباشرتهم بل بوساطة النازلين بهم الذين هم لهم في الدنيا والنار كالحجاب والنواب بون عظيم وفرقان كبير يحصل علم ذلك الفرقان في الدنيا لمن اتقى الله وهو قوله في هذا وأمثاله إِنْ تَتَّقُوا الله يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً وهو علم هذا وأمثاله ويُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ أي يستر عنكم ما يسوؤكم فلا ينالكم أ لم من مشاهدته فإن رؤية السوء إذا رآه من يمكن أن يكون محلا له وإن لم يحل به فإنه تسوءه رؤيته وذلك لحكم الوهم الذي عنده والإمكان العقلي ويغفر لكم أي ويستر من أجلكم ممن لكم به عناية في دعاء عام أو خاص معين فالدعاء الخاص ما تعين به شخصا بعينه أو نوعا بعينه والعام ما

ترسله مطلقا على عباد الله ممن يمكن أن يحل بهم سوء والله ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ بما أوجبه على نفسه من الرحمة وبما امتن به منها على من استحق العذاب كالعصاة في الأصول والفروع وهؤلاء النواب الاثنا عشر هم الذين تولوا بناء الجنات كلها الا جنة عدن فإن الله خلقها بيده وجعلها له كالقلعة للملك وجعل فيها الكثيب إلا بيض من المسك وهو الظاهر من الصورة التي يتجلى فيها الرب لعباده عند الرؤية كالمسك بفتح الميم من الحيوان وهو الجلد وهو الغشاء الظاهر للابصار من الحيوان وجعل بأيديهم غراس الجنات إلا شجرة طوبى فإن الحق تعالى غرسها بيده في جنة عدن وأطالها حتى علت فروعها سور جنة عدن وتدلت مطلة على سائر الجنات كلها وليس في أكمامها ثمر إلا الحلي والحلل لباس أهل الجنة وزينتهم زائدا في الحسن والبهاء على ما تحمل أكمام شجر الجنات من ذلك لأن لشجرة طوبى اختصاص فضل بكون الله خلقها بيده فإن لباس أهل الجنة ما هو نسج ينسج وإنما تشقق عن لباسهم ثمر الجنة كما تشقق الأكمام هنا عن الورد وعن شقائق النعمان وما شاكلهما من الأزهار كلها كما

ورد في الخبر الصحيح كشفا والحسن نقلا أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم كان يخطب بالناس فدخل رجل فقال يا رسول الله أو قام رجل من الحاضرين الشك مني فقال يا رسول الله ثياب أهل الجنة أ خلق تخلق أم نسج تنسج فضحك الحاضرون من كلامه فكره ذلك رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم منهم وقال أ تضحكون أن سأل جاهل عالما يا هذا وأشار إلى السائل بل تشقق عنها ثمر الجنة

فحصل لهم علم لم يكونوا عرفوه وأدار بجنة عدن سائر الجنات وبين كل‏

جنة وجنة سور يميزها عن صاحبتها وسمي كل جنة باسم معناه سار في كل جنة وإن اختصت هي بذلك الاسم فإن ذلك الاسم الذي اختصت أمكن ما هي عليه من معناه وأفضله مثل‏

قوله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم أقضاكم علي وأعلمكم بالحلال والحرام معاذ بن جبل وأفرضكم زيد

وإن كان كل واحد منهم يعلم القضاء والحلال والحرام والفرائض ولكن هو بمن سمي به أخص وهي جنة عدن وجنة الفردوس وجنة النعيم وجنة المأوى وجنة الخلد وجنة السلام وجنة المقامة والوسيلة وهي أعلى جنة في الجنات فإنها في كل جنة من جنة عدن إلى آخر جنة فلها في كل جنة صورة وهي مخصوصة برسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم وحده نالها بدعاء أمته حكمة من الله حيث نال الناس السعادة ببركة بعثته ودعائه إياهم إلى الله وتبيينه ما نزل الله إلى الناس من أحكامه جَزاءً وِفاقاً وجعل أرض هذه الجنات سطح الفلك المكوكب الذي هو سقف النار وسيأتي فصله في هذه الفصول إن شاء الله تعالى وجعل في كل جنة مائة درجة بعدد الأسماء الحسنى والاسم الأعظم المسكوت عنه لوترية الأسماء وهو الاسم الذي يتميز به الحق عن العالم هو الناظر إلى درجة الوسيلة خاصة وله في كل جنة حكم كما له حكم اسم إلهي فافهم‏

[منازل الجنة على عدد آي القرآن‏]

ومنازل الجنة على عدد آي القرآن ما بلغ إلينا منه نلنا تلك المنزلة بالقراءة وما لم يبلغ إلينا نلناه بالاختصاص في جنات الاختصاص كما نلنا بالميراث جنات أهل النار الذين هم أهلها وأبواب الجنة ثمانية على عدد أعضاء التكليف ولهذا

ورد في الخبر أن النبي صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم قال فيمن توضأ وصلى ركعتين ولم يحدث نفسه بشي‏ء فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء فقال له أبو بكر الصديق رضي الله عنه فما عليه إن لا يدخلها من أبوابها كلها فقرر رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم قول أبي بكر وأثبته‏

وفي خبر جعله صاحب هذا الحال فلكل عضو باب والأعضاء ثمانية العين والأذن واللسان واليد والبطن والفرج والرجل والقلب فقد يقوم الإنسان في زمن واحد بأعمال هذه الأعضاء كلها فيدخل من أبواب الجنة الثمانية في حال دخوله من كل باب منها فإن نشأة الآخرة تشبه البرزخ وباطن الإنسان من حيث ما هو ذو خيال وأما خوخات الجنات فتسع وسبعون خوخة وهي شعب الايمان بضع وسبعون شعبة والبضع هنا تسعة فإن البضع في اللسان من واحد إلى تسعة فادنى شعب الايمان إماطة الأذى عن الطريق وأعلاه لا إله إلا الله وما بينهما مما يتعلق من الأعمال ومكارم الأخلاق فمن أتى شيئا من مكارم الأخلاق فهو على شعبة من الايمان وإن لم يكن مؤمنا كمن يوحى إليه في المبشرات وهي جزء من أجزاء النبوة وإن لم يكن صاحب المبشرة نبيا فتفطن لعموم رحمة الله فما تطلق النبوة إلا لمن اتصف بالمجموع فذلك النبي وتلك النبوة التي حجزت علينا وانقطعت فإن من جملتها التشريع بالوحي الملكي في التشريع وذلك لا يكون إلا لنبي خاصة فلا بد أن يكون لهذه الشعبة حكم فيمن قامت به واتصف بها وظهر أثرها عليه فإن الله لما أخبر بهذه الشعبة على لسان الرسول أضافها إلى الايمان إضافة إطلاق لم يقيد إيمانا بكذا بل قال الايمان والايمان بكذا شعبة من شعب الايمان المطلق فكل شعبة إيمان كالذين آمنوا بالباطل خاصة وهو الإصلاح بين الناس بما لم يكن والخديعة في الحرب فكان للكذب دخول في الايمان فهو في موطن شعبة من شعب الايمان وقد يوجد هذا من المؤمن وغير المؤمن على أنه ما ثم غير مؤمن فإن الله ما تركه كما أنه ما ثم غير كافر فإن الأمر محصور بين مؤمن بالله ومؤمن بالباطل وكافر بالله وكافر بالباطل فكل عبد لله فهو مؤمن كافر معا يعين إيمانه وكفره ما تقيد به فلكل شعبة من الايمان طريق إلى الجنة فأهل الجنان في كل جنة وأهل النار من حيث ما قام بهم من شعب الايمان وهم أهل النار الذين لا يخرجون منها فلهم بما كانوا فيه من شعب الايمان جميع معاني الجنات في النار إلا جنة الفردوس والوسيلة لا قدم لهم فيهما فإن الفردوس لا عين له في النار فلهم النعيم والخلد والمأوى والسلام والمقامة وعدن ولأهل الجنات الرؤية متى شاءوا ولأهل النار في أحيان مخصوصة الرؤية فإن الله ما أرسل الحجاب عليهم مطلقا وإنما قال يومئذ في قوله كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ لما تعود عليهم واغلظ في حال الغضب والربوبية لها الشفقة فإن المربي ضعيف يتعين اللطف به فلذلك كان في حال الغضب عن ربه محجوبا فافهم فأورثه ذلك الحجاب أن جعله يصلي الجحيم لأنه قال بعد قوله لَمَحْجُوبُونَ ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ فأتى بقوله ثم فما صلى الجحيم إلا بعد وقوع الحجاب ولذلك قيده بيومئذ كذلك أيضا لم يخل إنسان ولا مكلف أن يكون على خلق من أخلاق الله وأن لله‏

ثلاثمائة خلق فلا بد أن يكون الإنسان من مؤمن وكافر على خلق من أخلاق الله وأخلاق الله كلها حسنة حميدة فكل ذات قام بها خلق منها وصرفه في الموضع الذي يستحقه ذلك الخلق فلا بد أن تسعد به حيث كانت من نار أو جنان فإنه في كل ذي كبد رطبة أجر ولا بد أن يحنو كل إنسان على أمر ما من خلق الله فله أجر من ذلك فدركات النار هي دركات ما لم ينقطع العذاب فإذا انتهى إلى أجله المسمى عاد ذلك الدرك في حق المقيم فيه درجة للخلق الإلهي الذي كان عليه يوما ما

الله أكرم أن تنساك منته *** ومن جيود إذا الرحمن لم يجد

ولما جعل الله تعالى في المكلف عقلا وتجلى له كان له من جهة عقله ونظره عقد وعهد لله ألزمه ذلك النظر العقلي وهو الافتقار إلى الله بالذات وأمثاله ثم بعث إليه رسولا من عنده فأخذ عليه عهدا آخر على ما تقرر في الميثاق الأول فصار الإنسان مع الله بين عهدين عهد عقلي وعهد شرعي وأمره الله بالوفاء بهما بل طلبه الحال بذلك لقبوله فلما وقفت على هذين العهدين وبلغ مني علمي بهما المبلغ الذي يبلغه من شاهده قلت‏

في القلب عقد حجى وعقد هداية *** أ تراه يخلص من له عقدان‏

ربي بما أعطيتنيه علمته *** ما لي لما حملتنيه تران‏

ما كل ما كلفتنيه أطيقه *** من لي بتحصيل النجاة وذان‏

عقلا وشرعا بالوفاء يناديا *** قلبي فما لي بالوفاء يدان‏

إن كنت نعتي فالوفاء محصل *** أو كنت أنت فما هما عنياني‏

أما قولي إن كنت نعتي فهوقول رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم عن ربه إنه قال كنت سمعه وبصره ويده ومؤيده‏

وكذلك إن كنت أعني نفسي أنت أي أنت الفاعل والموجد للعمل والوفاء لا أنا إذ لا إيجاد لمخلوق في عقدنا بل الأمر كله لله فما هما يعني العقل والشرع بحكمهما على عنياني وإنما عنيا من له خلق الأعمال والأحوال والقدرة عليها وإنما قلنا هذا لتحقق عند السامعين صدق الله في قوله وكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْ‏ءٍ جَدَلًا وأقوى الجدال ما يجادل به الله‏

[أن شجرة طوبى لجميع شجر الجنات كآدم لما ظهر منه من البنين‏]

واعلم أن شجرة طوبى لجميع شجر الجنات كآدم لما ظهر منه من البنين فإن الله لما غرسها بيده وسواها نفخ فيها من روحه وكما فعل في مريم نفخ فيها من روحه فكان عيسى يحيي الموتى ويبرئ الأكمه والأبرص فشرف آدم باليدين ونفخ الروح فيه فأورثه نفخ‏

الروح فيه علم الأسماء لكونه مخلوقا باليدين فبالمجموع نال الأمر وكانت له الخلافة والْمالُ والْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا وتولى الحق غرس شجرة طوبى بيده ونفخ الروح فيها زينها بثمر الحلي والحلل الذين فيهما زينة للابسهما فنحن أرضها فإن الله جعل ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها وأعطت في ثمر الجنة كله من حقيقتها عين ما هي عليه كما أعطت النواة النخلة وما تحمله مع النوى الذي في ثمرها وكل من تولاه الحق بنفسه من وجهه الخاص بأمر ما من الأمور فإن له شفوفا وميزة على من ليس له هذا الاختصاص ولا هذا التوجه والله يَقُولُ الْحَقَّ وهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ‏

«الفصل الرابع» في فلك المنازل‏

وهو المكوكب وهيأة السموات والأرض والأركان والمولدات والعمد الذي يمسك الله السماء به أن تقع على الأرض لرحمته بمن فيها من الناس مع كفرهم بنعمته فلا تهوي السماء ساقطة واهية حتى يزول الناس منها

[أن الله خلق الفلك المكوكب في جوف الفلك الأطلس‏]

اعلم أن الله خلق هذا الفلك المكوكب في جوف الفلك الأطلس وما بينهما خلق الجنات بما فيها فهذا الفلك أرضها والأطلس سماؤها وبينهما فضاء لا يعلم منتهاه إلا من أعلمه الله فهو فيه كحلقة في فلاة فيحاء وعين في مقعر هذا الفلك ثماني وعشرين منزلة مع ما أضاف إلى هذه الكواكب التي سميت منازل القطع السيارة فيها ولا فرق بينها وبين سائر الكواكب الأخر التي ليست بمنازل في سيرها وفيما تختص به من الأحكام في نزولها الذي ذكرناها في البروج قال تعالى والْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ يعني هذه المنازل المعينة في هذا الفلك المكوكب وهي كالمنطقة بين الكواكب من الشرطين إلى الرشاء وهي تقديرات وفروض في هذا الجسم ولا تعرف أعيان هذه المقادر إلا بهذه الكواكب كما أنه ما عرفت أنها منازل إلا بنزول السيارة فيها ولو لا ذلك ما تميزت عن سائر الكواكب إلا بأشخاصها ومن مقعر هذا

الفلك إلى ما تحته هي الدار الدنيا فإنه من هناك إلى ما تحته يكون استحالة ما تراه إلى الأخرى فللأخرى صورة فيها غير صورة الدنيا فينتقل من ينتقل منها إلى الجنة من إنسان وغير إنسان ويبقى ما يبقى فيها من إنسان وغير إنسان وكل من يبقى فيها فهو من أهل النار الذين هو أهلها وجعل الله لكل كوكب من هذه الكواكب قطعا في الفلك الأطلس ليحصل من تلك الخزائن التي في بروجه وبأيدي ملائكته الاثني عشر من علوم التأثير ما تعطيه حقيقة كل كوكب وقد بينا ذلك وجعلها على طبائع مختلفة والنور الذي فيها وفي سائر السيارة من نور الشمس وهو الكوكب الأعظم القلبي ونور الشمس ما هو من حيث عينها بل هو من تجل دائم لها من اسمه النور فما ثم نور إلا نور الله الذي هو نور السموات والأرض فالناس يضيفون ذلك النور إلى جرم الشمس ولا فرق بين الشمس والكواكب في ذلك إلا أن التجلي للشمس على الدوام فلهذا لا يذهب نورها إلى زمان تكويرها فإن ذلك التجلي المثالي النوري يستتر عنه في أعين الناظرين بالحجاب الذي بينهما وبين أعينهم وبسباحة هذه الكواكب تحدث أفلاكا في هذا الفلك أي طرقا والهواء يعم جميع المخلوقات فهو حياة العالم وهو حار رطب فما أفرطت فيه الحرارة والسخونة سمي نارا وما أفرطت فيه الرطوبة وقلت حرارته سمي ماء وما بقي على حكم الاعتدال بقي عليه اسم الهواء وعلى الهواء أمسك الماء وبه جرى وأنساب وتحرك وليس في الأركان أقبل لسرعة الاستحالة من الهواء لأنه الأصل وهو فرع لازدواج الحرارة والرطوبة على الاعتدال والطريق المستقيم فهو الاسطقص الأعظم أصل الاسطقصات كلها والماء أقرب أسطقص إليه ولهذا جعل الله منه كل شي‏ء حي ويقبل بذاته التسخين ولا تقبل النار برودة ولا رطوبة لا بالذات ولا بالعرض بخلاف الماء

«وصل»

فأعظم البروج البروج الهوائية وهي الجوزاء والميزان والدالي ولما خلق الله الأرض سبع طباق جعل كل أرض أصغر من الأخرى لكون على كل أرض قبة سماء فلما خلق الأرض وقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها وكسا الهواء صورة النحاس الذي هو الدخان فمن ذلك الدخان خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً أجساما شفافة وجعلها على الأرض كالقباب على كل أرض سماء أطرافها عليها نصف كرة والأرض لها كالبساط فهي مدحية دحاها من أجل السماء أن تكون عليها فمادت فقال بالحبال عليها فثقلت فسكنت بها وجعل في كل سماء منها كوكبا وهي الجواري منها القمر في السماء الدنيا وفي السماء الثانية الكاتب وهو عطارد وفي الثالثة الزهرة وفي الرابعة الشمس وفي الخامسة الأحمر وهو المريخ وفي السادسة المشتري وهو بهرام وفي السابعة زحل وهو المقاتل كما رسمناها في المثال المتقدم فلما سبحت الكواكب كلها ونزلت بالخزائن التي في البروج ووهبتها ملائكة البروج من تلك الخزائن ما وهبتها أثرت في الأركان ما تولد فيها من جماد الذي هو المعدن ونبات وحيوان وآخر موجود الإنسان الحيوان خليفة الإنسان الكامل وهو الصورة الظاهرة التي بها جمع حقائق العالم والإنسان الكامل هو الذي أضاف إلى جمعية حقائق العالم حقائق الحق التي بها صحت له الخلافة ظهر ذلك فيمن ظهر من هذه الصور فجعل في كل صنف من المولدات نوعا كاملا من جنسها فأكمل صورة ظهرت في المعدن صورة الذهب وفي النبات شجر الوقواق وفي الحيوان الإنسان وجعل بين كل نوعين متوسطات كالكمأة بين المعدن والنبات والنخلة بين النبات والحيوان والنسناس والقرد بين الحيوان والإنسان ونفخ في كل صورة أنشأها روحا منه فحييت وتعرف إليها بها فعرفته بأمر جبلت عليه تلك الصورة وما تعرف إليها إلا من نفسها فما تراه إلا على صورتها وكانت الصورة على أمزجة مختلفة وإن كانت خلقت من نفس واحدة كقلوب بنى آدم خلقها الله من نفس واحدة وهي مختلفة فمن الصور من بطنت حياته فأخذ الله بأبصار أكثر الناس عنها وهي على ضربين ضرب له نمو وغذاء ونوع له نمو ولا غذاء له فسمينا الصنف الواحد معدنا وحجرا والآخر نباتا ومن الصور من ظهرت حياته فسميناه حيوانا وحيا والكل حي في نفس الأمر ذو نفس ناطقة ولا يمكن أن يكون في العالم صورة لا نفس لها ولا حياة ولا عبادة ذاتية وأمرية سواء كانت تلك الصورة مما يحدثها الإنسان من الأشكال أو يحدثها الحيوانات ومن أحدثها من الخلق عن قصد وعن غير قصد فما هو إلا أن تتصور الصورة كيف تصورت وعلى يدي من ظهرت إلا ويلبسها الله تعالى روحا من أمره ويتعرف إليها من حينه فتعرفه منها وتشهده فيها هكذا هو الأمر دائما دنيا وآخرة يكشفه أهل الكشف فظهر الليل والنهار بطلوع الشمس وغروبها كل‏

حدث اليوم بدورة الفلك الأطلس كما حدث الزمان بمقارنة الحوادث عند السؤال بمتى والزمان واليوم والليل والنهار وفصول السنة كلها أمور عدمية نسبية لا وجود لها في الأعيان وأوحى في كل سماء أمرها وجعل إمضاء الأمور التي أودعها السموات في عالم الأركان عند سباحة هذه الجواري وجعلهم نوابا متصرفين بأمر الحق لتنفيذ هذه الأمور التي أخذوها من خزائن البروج في السنة بكمالها وقدر لها المنازل المعلومة التي في الفلك المكوكب وجعل لها اقترابات وافتراقات كل ذلك بتقدير العزيز العليم وجعل سيرها في استدارة ولهذا سماها أفلاكا وجعل في سطح السماء السابعة الضراح وهو البيت المعمور وشكله كما رسمته في الهامش وخلق في كل سماء عالما من الأرواح والملائكة يعمرونها فأما الملائكة فهم السفراء النازلون بمصالح العالم الذي ظهر في الأركان والمصالح أمور معلومة وما يحدث عن حركات هذه الكواكب كلها وعن حركة الأطلس لا علم لهؤلاء السفراء بذلك حتى تحدث فلكل واحد منهم مقام معلوم لا يتعداه وباقي العالم شغلهم التسبيح والصلاة والثناء على الله تعالى وبين السماء السابعة والفلك المكوكب كراسي عليها صور كصور المكلفين من الثقلين وستور مرفوعة بأيدي ملائكة مطهرة ليس لهم إلا مراقبة تلك الصور وبأيديهم تلك الستور فإذا نظر الملك إلى الصور قد سمجت وتغيرت عما كانت عليه من الحسن أرسل الستر بينها وبين سائر الصور فلا يعرفون ما طرأ ولا يزال الملك من الله مراقبا تلك الصورة فإذا رأى تلك الصورة قد زال عنها ذلك القبح وحسنت رفع الستر فظهرت في أحسن زينة وتسبيح تلك الصور وهؤلاء الأرواح الملكية الموكلة بالستور سبحان من أظهر الجميل وستر القبيح وأطلع أهل الكشف على هذا ليتخلقوا بأخلاق الله ويتأدبوا مع عباد الله فيظهرون محاسن العالم ويسترون مساويهم وبذلك جاءت الشرائع من عند الله فإذا رأيت من يدعي الأهلية لله ويكون مع العالم على خلاف هذا الحكم فهو كاذب في دعواه وبهذا وأمثاله تسمى سبحانه بالغافر والغفور والغفار ولما كون الله ملكوته مما ذكرناه خلق آدم بيديه من الأركان وجعل أعظم جزء فيه التراب لبرده ويبسه وأنزله خليفة في أرضه التي خلق منها وقد كان خلق قبله الجان من الأركان وجعل أغلب جزء فيه النار وكان من أمر آدم وإبليس والملائكة ما وصف الله لنا في القرآن فلا يحتاج إلى ذكر ذلك وأمسك الله صورة السماء على السماء لأجل الإنسان الموحد الذي لا يمكن أن ينفي فذكره الله الله لأنه ليس في خاطره إلا الله فما عنده أمر آخر يدعي عنده ألوهية فينفيه بلا إله إلا الله فليس إلا الله الواحد الأحد ولهذا

قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم لا تقوم الساعة حتى لا يبقى على وجه الأرض من يقول الله الله‏

وهو الذكر الأكبر الذي قال الله فيه ولَذِكْرُ الله أَكْبَرُ فما قال الرسول صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم من يقول لا إله الله فهذا الاسم هو هجير هذا الإمام الذي يقبض آخرا وتقوم الساعة فتنشق السماء فإن هذا وأمثاله كان العمد لأن الله ما أمسكها من أجله أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ ولذلك قال فيها إنها واهِيَةٌ أي واقعة ساقطة ثم ما زالت النواب تتحرك في طرقها والصور تظهر بالاستحالات في عالم الأركان دنيا وبرزخا وآخرة إلى أن يرث الله الْأَرْضَ ومن عَلَيْها فلا يبقى إلا ما في الآخرة وهو يوم القيامة والداران الجنة والنار ولكل واحدة منهما ملؤها من الجن والإنس ومما شاء الله وفي الجنة قدم الصدق وفي النار قدم الجبار وهما القدمان اللتان في الكرسي وقد مر من الكلام في هذا الفن من هذا الكتاب ما فيه غنية للعاقل وبلغة زاد للمسافر توصله إلى مقصوده‏

«الفصل الخامس» في أرض الحشر وما تحوي عليه من العالم‏

والمراتب وعرش الفصل والقضاء وحملته وصفوف الملائكة عليها بين يدي الحكم العدل‏

[الفرق بين نشأة الدنيا الظاهرة وبين نشأة الآخرة الظاهرة]

اعلم أن الله تعالى إذا نفخ في الصور وبعث ما في القبور وحشر الناس والوحوش وأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها ولم يبق في بطنها سوى عينها إخراجا لا نباتا وهو الفرق بين نشأة الدنيا الظاهرة وبين نشأة الآخرة الظاهرة فإن الأولى أنبتنا فيها من الأرض فنبتنا نباتا كما ينبت النبات على التدريج وقبول الزيادة في الجرم طولا وعرضا ونشأة الآخرة إخراج من الأرض على الصورة التي يشاء الحق أن يخرجنا عليها ولذلك علق المشيئة بنشر الصورة التي أعادها في الأرض الموصوفة بأنها تنبت فتنبت على غير مثال لأنه ليس في الصور صورة تشبهها فكذلك نشأة الآخرة يظهرها الله على غير مثال صورة تقدمت تشبهها وذلك قوله كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ‏

ولَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى‏ فَلَوْ لا تَذَكَّرُونَ ونُنْشِئَكُمْ في ما لا تَعْلَمُونَ فإذا أَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها وحدثت أنها ما بقي فيها مما اختزنته شي‏ء جي‏ء بالعالم إلى الظلمة التي دون الجسر فألقوا فيها حتى لا يرى بعضهم بعضا ولا يبصرون كيف التبديل في السماء والأرض حتى تقع فتمد الأرض أولا مد الأديم وتبسط ف لا تَرى‏ فِيها عِوَجاً ولا أَمْتاً وهي الساهرة فلا نوم فيها فإنه لا نوم لأحد بعد الدنيا ويرجع ما تحت مقعر الفلك المكوكب جهنم ولهذا سميت بهذا الاسم لبعد قعرها فأين المقعر من الأرض ويوضع الصراط من الأرض علوا على استقامة إلى سطح الفلك المكوكب فيكون منتهاه إلى المرج الذي خارج سور الجنة وأول جنة يدخلها الناس هي جنة النعيم وفي ذلك المرج المأدبة وهو درمكة بيضاء نقية منها يأكل أهل المأدبة وهو قوله تعالى في المؤمنين إذا أقاموا التوراة والإنجيل من بنى إسرائيل ولَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ والْإِنْجِيلَ وما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ من رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا من فَوْقِهِمْ ومن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ فنحن أمة محمد صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم نقيم كل ما أنزل إلينا من ربنا بالإيمان وبه نعمل من ذلك بما أمرنا من العمل به وغيرنا من الأمم منهم من آمن كما آمنا ومنهم من آمن ببعض وكفر ببعض فمن نجا منهم قيل فيه لَأَكَلُوا من فَوْقِهِمْ وهو ما خرج من فروع أشجار الجنان على السور فظلل على هذا المرج فقطفه السعداء ومن تحت أرجلهم هو ما أكلوه من الدر مكة البيضاء التي هم عليها ووضع الموازين في أرض الحشر لكل مكلف ميزان يخصه وضرب بسور يسمى الأعراف بين الجنة والنار وجعله مكانا لن اعتدلت كفتا ميزانه فلم ترجح إحداهما على الأخرى ووقفت الحفظة بأيديهم الكتب التي كتبوها في الدنيا من أعمال المكلفين وأقوالهم ليس فيها شي‏ء من اعتقادات قلوبهم إلا ما شهدوا به على أنفسهم بما تلفظوا به من ذلك فعقلوها في أعناقهم بأيديهم فمنهم من أخذ كتابه بيمينه ومنهم من أخذه بشماله ومنهم من أخذه من وراء ظهره وهم الذين نبذوا الكتاب في الدنيا وَراءَ ظُهُورِهِمْ واشْتَرَوْا به ثَمَناً قَلِيلًا وليس أولئك إلا الأئمة الضلال المضلون الذين ضلوا وأضلوا وجي‏ء بالحوض يتدفق ماء عليه من الأواني على عدد الشاربين منه ولا تزيد ولا تنقص ترمي فيه أنبوبات أنبوب ذهب وأنبوب فضة وهو لزيق بالسور ومن السور تنبعث هذان الأنبوبان فيشرب منه المؤمنون ويؤتى بمنابر من نور مختلفة في الإضاءة واللون فتنصب في تلك الأرض ويؤتى بقوم فيقعدون عليها قد غشيتهم الأنوار لا يعرفهم أحد في رحمة الأبد عليهم من الخلع الإلهية ما تقر به أعينهم ويأتي مع كل إنسان قرينه من الشياطين والملائكة وتنشر الألوية في ذلك اليوم للسعداء والأشقياء بأيدي أئمتهم الذين كانوا يدعونهم إلى ما كانوا يدعونهم إليه من حق وباطل وتجتمع كل أمة إلى رسولها من آمن منهم به ومن كفر وتحشر الأفراد والأنبياء بمعزل من الناس بخلاف الرسل فإنهم أصحاب العساكر فلهم مقام يخصهم وقد عين الله في هذه الأرض بين يدي عرش الفصل والقضاء مرتبة عظمى امتدت من الوسيلة التي في الجنة يسمى ذلك المقام المحمود وهو لمحمد صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم خاصة وتأتي الملائكة ملائكة السموات ملائكة كل سماء على حدة متميزة عن غيرها فيكونون سبعة صفوف أهل كل سماء صف والروح قائم مقدم الجماعة وهو الملك الذي نزل بالشرائع على الرسل ثم يجاء بالكتب المنزلة والصحف وكل طائفة ممن نزلت من أجلها خلفها فيمتازون عن أصحاب الفترات وعمن تعبد نفسه بكتاب لم ينزل من أجله وإنما دخل فيه وترك ناموسه لكونه من عند الله وكان ناموسه عن نظر عقلي من عاقل مهدي ثم يأتي الله عز وجل على عرشه والملائكة الثمانية تحمل ذلك العرش فيضعونه في تلك الأرض والجنة عن يمين العرش والنار من الجانب الآخر وقد علمت الهيبة الإلهية وغلبت على قلوب أهل الموقف من إنسان وملك وجان ووحش فلا يتكلمون إلا همسا بإشارة عين وخفي صوت وترفع الحجب بين الله وبين عباده وهو كشف الساق ويأمرهم داعي الحق عن أمر الله بالسجود لله فلا يبقى أحد سجد لله خالصا على أي دين كان إلا سجد السجود المعهود ومن سجد

اتقاء ورياء خر على قفاه وبهذه السجدة يرجح ميزان أصحاب الأعراف لأنها سجدة تكليف فيسعدون ويدخلون الجنة ويشرع الحق في الفصل والحكم بين عباده فيما كان بينهم وأما ما كان بينهم وبين الله فإن الكرم الإلهي قد أسقطه فلا يؤاخذ الله أحدا من عباد الله فيما لم يتعلق به حق للغير وقد ورد من أخبار

الأنبياء عليه السلام في ذلك اليوم ما قد ورد على ألسنة الرسل ودون الناس فيه ما دونوا فمن أراد تفاصيل الأمور فلينظرها هنالك ثم تقع الشفاعة الأولى من محمد صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم في كل شافع أن يشفع فيشفع الشافعون ويقبل الله من شفاعتهم ما شاء ويرد من شفاعتهم ما شاء لأن الرحمة في ذلك اليوم يبسطها الله في قلوب الشفعاء فمن رد الله شفاعته من الشافعين لم يردها انتقاصا بهم ولا عدم رحمة بالمشفوع فيه وإنما أراد بذلك إظهار المنة الإلهية على بعض عباده فيتولى الله سعادتهم ورفع الشقاوة عنهم فمنهم من يرفع ذلك عنه بإخراجهم من النار إلى الجنان وقد ورد وشفاعته بشفاعة أرحم الراحمين عند المنتقم الجبار فهي مراتب أسماء إلهية لا شفاعة محققة فإن الله يقول في ذلك اليوم شفت الملائكة والنبيون والمؤمنون وبقي أرحم الراحمين فدل بالمفهوم أنه لم يشفع فيتولى بنفسه إخراج من يشاء من النار إلى الجنة ونقل حال من هو من أهل النار من شقاء الآلام إلى سعادة إزالتها فذلك قدر نعيمه وقد يشاء ويملأ الله جهنم بغضبه المشوب وقضائه والجنة برضاه فتعم الرحمة وتنبسط النعمة فيكون الخلق كما هم في الدنيا على صورة الحق فيتحولون لتحوله وآخر صورة يتحول إليها في الحكم في عباده صورة الرضاء فيتحول الحق في صورة النعيم فإن الرحيم والمعافي أول من يرحم ويعفو وينعم على نفسه بإزالة ما كان فيه من الحرج والغضب على من أغضبه ثم سرى ذلك في المغضوب عليه فمن فهم فقد أمناه ومن لم يفهم فسيعلم ويفهم فإن المال إليه والله من حيث يعلم نفسه ومن هويته وغناه فهو على ما هو عليه وإنما هذا الذي وردت به الأخبار وأعطاه الكشف إنما ذلك أحوال تظهر ومقامات تشخص ومعان تجسد ليعلم الحق عباده معنى الاسم الإلهي الظاهر وهو ما بدا من هذا كله والاسم الإلهي الباطن وهو هويته وقد تسمى لنا بهما فكل ما هو العالم فيه من تصريف وانقلاب وتحول في صور في حق وخلق فذلك من حكم الاسم الظاهر وهو منتهى علم العالم والعلماء بالله وأما الاسم الباطن فهو إليه لا إلينا وما بأيدينا منه سوى لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ‏ءٌ على بعض وجوه محتملاته إلا أن أوصاف التنزيه لها تعلق بالاسم الباطن وإن كان فيه تحديد ولكن ليس في الإمكان أكثر من هذا فإنه غاية الفهم عندنا الذي يعطيه استعدادنا وأما قوله تعالى وإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها فإن الطريق إلى الجنة عليها فلا بد من الورود فإذا لم يبق في أرض الحشر من أهل الجنة أحد عاد كله نارا أي دار النار وإن كان فيها زمهرير فجهنم من مقعر فلك الكواكب إلى أسفل سافلين‏

«الفصل السادس» في جهنم وأبوابها ومنازلها ودركاتها

اعلم أن جهنم تحوي على السموات والأرض على ما كانت عليه السماء والأرض إذ كانتا رتقا فرجعت إلى صفتها من الرتق والكواكب كلها فيها طالعة وغاربة على أهل النار بالحرور والزمهرير بالحرور على المقرورين بعد استيفاء المؤاخذة بما أجرموا وبالزمهرير على المحرورين ليجدوا في ذلك نعيما ولذة ما لهم من النعيم إلا ذلك وهو دائم عليهم أبدا وكذلك طعامهم وشرابهم بعد انقضاء مدة المؤاخذة يتناولون من شجرة الزقوم لكل إنسان بحسب ما يبرد عنه ما كان يجده أو يسخنه كالظمآن بحرارة العطش فيجد ماء باردا فيجد له من اللذة لاذهابه لحرارة العطش وكذلك ضده وأبوابها سبعة بحسب أعضاء التكليف الظاهرة لأن باب القلب مطبوع عليه لا يفتح من حين طبع الله عليه عند ما أقر له بالربوبية وعلى نفسه بالعبودية فللنار على الأفئدة اطلاع لا دخول لغلق ذلك الباب فهو كالجنة حفت بالمكاره فما ذكر الله من أبواب النار إلا السبعة التي يدخل منها الناس والجان وأما الباب المغلق الذي لا يدخل عليه أحد هو في السور فباطنه فيه الرحمة بإقراره بوجود الله ربا له وعبودته لربه وظاهره من قبله العذاب وهي النار التي تطلع على الأفئدة وأما منازلها ودركاتها وخوخاتها فعلى ما ذكرناه في الجنة على السواء لا تزيد ولا تنقص وليس في النار نار ميراث ولا نار اختصاص وإنما ثم نار أعمال فمنهم من عمرها بنفسه وعمله الذي هو قرينه ومن كان من أهل الجنة بقي عمله الذي كان في الدنيا على صورته في المكان من النار الذي لو كان من أهلها صاحب ذلك العمل لكان فيه فإنه من ذلك المكان كان وجود ذلك العمل وهو خلاف ما كلف من فعل وترك فعاد إلى وطنه كما عاد الجسم عند الموت إلى الأرض التي خلق منها وكل شي‏ء إلى أصله يعود وإن طالت المدة فإنها أنفاس معدودة وآجال مضروبة محدودة يبلغ الكتاب فيها أجله ويرى كل‏

مؤمل ما أمله فإنما نحن به وله فما خرجنا عنا ولا حللنا إلا بنا حيث كنا وحشرت الوحوش كلها فيها إنعاما من الله عليها إلا الغزلان وما استعمل من الحيوان في سبيل الله فإنهم في الجنان على صور يقتضيها ذلك الموطن وكل حيوان تغذى به أهل الجنة في الدنيا خاصة وإذا لم يبق في النار أحد إلا أهلها وهم في حال العذاب يجاء بالموت على صورة كبش أملح

فيوضع بين الجنة والنار ينظر إليه أهل الجنة وأهل النار فيقال لهم تعرفون هذا فيقولون نعم هذا الموت فيضجعه الروح الأمين ويأتي يحيى عليه السلام وبيده الشفرة فيذبحه ويقول الملك لساكني الجنة والنار خلود فلا موت ويقع الياس لأهل النار من الخروج منها ويرتفع الإمكان من قلوب أهل الجنة من وقوع الخروج منها وتغلق الأبواب وهي عين فتح أبواب الجنة فإنها على شكل الباب الذي إذا انفتح انسد به موضع آخر فعين غلقه لمنزل عين فتحه منزلا آخر

[أسماء أبواب جهنم السبعة]

وأما أسماء أبوابها السبعة فباب جهنم باب الجحيم باب السعير باب سقر باب لظى وباب الحطمة وباب سجين والباب المغلق وهو الثامن الذي لا يفتح فهو الحجاب‏

وأما خوخات شعب الايمان فمن كان على شعبة منها فإن له منها تجليا بحسب تلك الشعبة كانت ما كانت ومنها ما هي خلق في العبد جبل عليه ومنها ما هي مكتسبة وكل خير فإنها عن الخير المحض فمن عمل خيرا على أي وجه كان فإنه يراه ويجازى به ومن عمل شرا فلا بد أن يراه وقد يجازي به وقد يعفى عنه ويبدل له بخير إن كان في الدنيا قد تاب وإن مات عن غير توبة فلا بد أن يبدل بما يقابله بما تقتضيه ندامته يوم يبعثون ويرى الناس أعمالهم والجان وكل مكلف فما كان يستوحش منه المكلف عند رؤيته يعود له أنس له به وتختلف الهيئات في الدارين مع الأنفاس باختلاف الخواطر هنا في الدنيا فإن باطن الإنسان في الدنيا هو الظاهر في الدار الآخرة وقد كان غيبا هنا فيعود شهادة هناك وتبقي العين غيبا باطن هذه الهيئات والصور لا تتبدل ولا تتحول فما ثم إلا صور وهيئات تخلع عنه وعليه دائما أبدا إلى غير نهاية ولا انقضاء

«الفصل السابع» في حضرة الأسماء الإلهية والدنيا والآخرة والبرزخ‏

اعلم أن أسماء الله الحسنى نسب وإضافات وفيها أئمة وسدنة ومنها ما يحتاج إليها الممكنات احتياجا ضروريا ومنها ما لا يحتاج إليها الممكنات ذلك الاحتياج الضروري وقوة نسبتها إلى الحق أوجه من طلبها للخلق فالذي لا بد للممكن منها الحي والعالم والمريد والقائل كشفا وهو في النظر العقلي القادر فهذه أربعة يطلبها الخلق بذاته وإلى هذه الأربعة تستند الطبيعة كما تستند الأركان إلى الطبيعة كما تستند الأخلاط إلى الأركان وإلى الأربعة تستند في ظهورها أمهات المقولات وهي الجوهر والعرض والزمان والمكان وما بقي من الأسماء فكالسدنة لهذه الأسماء ثم يلي هذه الأسماء اسمان المدبر والمفصل ثم الجواد والمقسط فعن هذين الاسمين كان عالم الغيب والشهادة والدار الدنيا والآخرة وعنهما كان البلاء والعافية والجنة والنار وعنهما خلق من كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ والسراء والضراء وعنهما صدر التحميدان في العالم التحميد الواحد الحمد لله المنعم المفضل والتحميد الآخر الحمد لله على كل حال وعن هذين الاسمين ظهرت القوتان في النفس القوة العلمية والقوة العملية والقوة والفعل والكون والاستحالة والملإ الأعلى والملإ الأسفل والخلق والأمر ولما كانت الأسماء الإلهية نسبا تطلبها الآثار لذلك لا يلزم ما تعطل حكمه منها ما لم يتعطل وإنما يقدح ذلك لو اتفق أن تكون أمرا وجوديا فالله إله سواء وجد العالم أو لم يوجد فإن بعض المتوهمين تخيل أن الأسماء للمسمى تدل على أعيان وجودية قائمة بذات الحق فإن لم يكن حكمها يعم وإلا بقي منها ما لا أثر له معطلا فلذلك قلنا إنه سبحانه لو رحم العالم كله لكان ولو عذب العالم كله لكان ولو رحم بعضه وعذب بعضه لكان ولو عذبه إلى أجل مسمى لكان فإن الواجب الوجود لا يمتنع عنه ما هو ممكن لنفسه ولا مكره له على ما ينفذه في خلقه بل هو الفعال لما يريد فلما خلق الله العالم رأيناه ذا مراتب وحقائق مختلفة تطلب كل حقيقة منه من الحق نسبة خاصة فلما أرسل تعالى رسله كان مما أرسلهم به لأجل تلك النسب أسماء تسمى بها لخلقه يفهم منها دلالتها على ذاته تعالى وعلى أمر معقول لا عين له في الوجود له حكم هذا الأثر والحقيقة الظاهرة في العالم من خلق ورزق ونفع وضر وإيجاد واختصاص وأحكام وغلبة وقهر ولطف وتنزل واستجلاب ومحبة وبغض وقرب وبعد وتعظيم وتحقير وكل صفة ظاهرة في العالم تستدعي نسبة خاصة لها اسم معلوم عندنا من الشرع فمنها مشتركة وإن كان لكل واحد من المشتركة معنى إذا تبين ظهر أنها متباينة فالأصل في الأسماء التباين والاشتراك فيه لفظي ومنها متباينة

ومنها مترادفة ومع ترادفها فلا بد أن يفهم من كل واحد معنى لا يكون في الآخر فعلمنا ما سمي به نفسه واقتصرنا عليها فأوجد الدار الدنيا وأسكن فيها الحيوان وجعل الإنسان الكامل فيها إماما وخليفة أعطاه علم الأسماء لما تدل عليه من المعاني وسخر لهذا الإنسان وبنيه وما تناسل منه جميع ما في السموات وما في الأرض وخلق خلقا إن قلت فيه موجود صدقت وإن قلت فيه معدوم صدقت وإن قلت فيه لا موجود ولا معدوم صدقت وهو الخيال وله حالان حال اتصال وهذا الحال له بوجود الإنسان وبعض الحيوان وحال انفصال وهو ما يتعلق به الإدراك الظاهر منحازا عنه في نفس الأمر كجبريل في صورة دحية ومن ظهر من عالم الستر من الجنة من ملك وغيره وخلق الجنة والمنزل الذي يكون يوم القيامة نارا فخلق من النار ما خلق وبقي منها ما بقي في القوة وجعل ذلك فيما جعل الله في هذا الوجود الطبيعي من الاستحالات فالذي هو اليوم دار دنيا يكون غدا في القيامة دار جهنم وذلك في علم الله وقد بينا ذلك في الصورة المثالية المتقدمة في هذا الباب على التقريب‏

«الفصل الثامن» في الكثيب ومراتب الخلق فيه‏

اعلم أن الكثيب هو مسك أبيض في جنة عدن وجنة عدن هي قصبة الجنة وقلعتها وحضرة الملك وخواصه لا تدخلها العامة إلا بحكم الزيارة وجعل في هذا الكثيب منابر وأسرة وكراسي ومراتب لأن أهل الكثيب أربع طوائف مؤمنون وأولياء وأنبياء ورسل وكل صنف ممن ذكرنا أشخاصه يفضل بعضهم بعضا قال تعالى تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى‏ بَعْضٍ وقال ولَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى‏ بَعْضٍ فتفضل منازلهم بتفاضلهم وإن اشتركوا في الدار ومن هذا الباب قوله ورَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ يعني الخلق فدخل فيه جميع بنى آدم دنيا وآخرة فإذا أخذ الناس منازلهم في الجنة استدعاهم الحق إلى رؤيته فيسارعون على قدر مراكبهم ومشيهم هنا في طاعة ربهم فمنهم البطي‏ء ومنهم السريع ومنهم المتوسط ويجتمعون في الكثيب وكل شخص يعرف مرتبته علما ضروريا يجري إليها ولا ينزل إلا فيها كما يجري الطفل إلى الثدي والحديد إلى المغناطيس لو رام أن ينزل في غير مرتبته لما قدر ولو رام أن يتعشق بغير منزلته ما استطاع بل يرى في منزلته أنه قد بلغ منتهى أمله وقصده فهو يتعشق بما هو فيه من النعيم تعشقا طبيعيا ذاتيا لا يقوم بنفسه ما هو عنده أحسن من حاله ولو لا ذلك لكانت دار ألم وتنغيص ولم تكن جنة ولا دار نعيم غير إن الأعلى له نعيم بما هو فيه في منزلته وعنده نعيم الأدنى وأدنى الناس منزلة على أنه ليس ثم من دنى من لا نعيم له إلا بمنزلة خاصة وأعلاهم من لا أعلى منه له نعيم بالكل فكل شخص مقصور عليه نعيمه فما أعجب هذا الحكم ففي الرؤية الأولى يعظم الحجاب على أهل النار والتنغيص والعذاب بحيث إنهم لا يكون عندهم عذاب أشد عذابا من ذلك فإن الرؤية الأولى تكون قبل انقضاء أجل العذاب وعموم الرحمة الشاملة وذلك ليعرفوا ذوقا عذاب الحجاب وفي الرؤية الثانية إلى ما يكون بعد ذلك تعم الرحمة ولهم أعني لأهل الجحيم رؤية من خوخات أبواب النار على قدر ما اتصفوا به في الدنيا من مكارم الأخلاق فإذا نزل الناس في الكثيب للرؤية وتجلى الحق تعالى تجليا عاما على صور الاعتقادات في ذلك التجلي الواحد فهو واحد من حيث هو تجل وهو كثير من حيث اختلاف الصور فإذا رأوه انصبغوا عن آخرهم بنور ذلك التجلي وظهر كل واحد منهم بنور صورة ما شاهده فمن علمه في كل معتقد فله نور كل معتقد ومن علمه في اعتقاد خاص معين لم يكن له سوى نور ذلك المعتقد المعين ومن اعتقد وجودا لا حكم له فيه بتنزيه ولا تشبيه بل كان اعتقاده أنه على ما هو عليه فلم ينزه ولم يشبه وآمن بما جاء من عنده تعالى على علمه فيه سبحانه فله نور الاختصاص لا يعلم إلا في ذلك الوقت فإنه في علم الله فلا يدري هل هو أعلى ممن عمم الاعتقادات كلها علمه أو مساو له وأما دونه فلا فإذا أراد الله رجوعهم إلى مشاهدة نعيمهم بتلك الرؤية في جناتهم قال لملائكة وزعة الكثيب ردوهم إلى قصورهم فيرجعون بصورة ما رأوا ويجدون منازلهم وأهليهم منصبغين بتلك الصورة فيتلذذون بها فإنهم في وقت المشاهدة كانوا في حال فناء عنهم فلم تقع لهم لذة في زمان رؤيتهم بل اللذة عند أول التجلي حكم سلطانها عليهم فأفنتهم عنها وعن أنفسهم فهم في اللذة في حال فناء لعظيم سلطانها وإذا أبصروا تلك الصورة في منازلهم وأهليهم استمرت لهم اللذة وتنعموا بتلك المشاهدة فتنعموا في هذا الموطن بعين ما أفناهم في الكثيب ويزيدون في ذلك التجلي وفي تلك‏

الرؤية علما بالله أعطاهم إياه العيان لم يكن عندهم فإن المعلوم إذا شوهد تعطي مشاهدته أمرا لا يمكن أن يحصل من غير مشاهدة كما قيل‏

ولكن للعيان لطيف معنى *** لذا سأل المعاينة الكليم‏

وهذا ذوق يعرفه كل من أقيم في هذه الحال لا يقدر على إنكاره من نفسه‏

«الفصل التاسع» في العالم‏

وهو كل ما سوى الله وترتيبه ونضده روحا وجسما وعلوا وسفلا

[أن العالم عبارة عن كل ما سوى الله‏]

اعلم أن العالم عبارة عن كل ما سوى الله وليس إلا الممكنات سواء وجدت أو لم توجد فإنها بذاتها علامة على علمنا أو على العلم بواجب الوجود لذاته وهو الله فإن الإمكان حكم لها لازم في حال عدمها ووجودها بل هو ذاتي لها لأن الترجيح لها لازم فالمرجح معلوم ولهذا سمي عالما من العلامة لأنه الدليل على المرجح فاعلم ذلك وليس العالم في حال وجوده بشي‏ء سوى الصور التي قبلها العماء وظهرت فيه فالعالم إن نظرت حقيقته إنما هو عرض زائل أي في حكم الزوال وهو قوله تعالى كُلُّ شَيْ‏ءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ وقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم أصدق بيت قالته العرب قول لبيد

ألا كل شي‏ء ما خلا الله باطل‏

يقول ما له حقيقة يثبت عليها من نفسه فما هو موجود إلا بغيره ولذلك‏

قال صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم أصدق بيت قالته العرب‏

ألا كل شي‏ء ما خلا الله باطل‏

فالجوهر الثابت هو العماء وليس إلا نفس الرحمن والعالم جميع ما ظهر فيه من الصور فهي أعراض فيه يمكن إزالتها وتلك الصور هي الممكنات ونسبتها من العماء نسبة الصور من المرآة تظهر فيها لعين الرائي والحق تعالى هو بصر العالم فهو الرائي وهو العالم بالممكنات فما أدرك إلا ما في علمه من صور الممكنات فظهر العالم بين العماء وبين رؤية الحق فكان ما ظهر دليلا على الرائي وهو الحق فتفطن واعلم من أنت وأما نضده على الظهور والترتيب فأرواح نورية إلهية مهيمة في صور نورية خلقية إبداعية في جوهر نفس هو العماء من جملتها العقل الأول وهو القلم ثم النفس وهو اللوح المحفوظ ثم الجسم ثم العرش ومقره وهو الماء الجامد والهواء والظلمة ثم ملائكته ثم الكرسي ثم ملائكته ثم الأطلس ثم ملائكته ثم فلك المنازل ثم الجنات بما فيها ثم ما يختص بها وبهذا الفلك من الكواكب ثم الأرض ثم الماء ثم الهواء العنصري ثم النار ثم الدخان وفتق فيه سبع سماوات سماء القمر وسماء الكاتب وسماء الزهرة وسماء الشمس وسماء الأحمر وسماء المشتري وسماء المقاتل ثم أفلاكها المخلوقون منها ثم ملائكة النار والماء والهواء والأرض ثم المولدات المعدن والنبات والحيوان ثم نشأة جسد الإنسان ثم ما ظهر من أشخاص كل نوع من الحيوان والنبات والمعدن ثم الصور المخلوقات من أعمال المكلفين وهي آخر نوع هذا ترتيبه بالظهور في الإيجاد وأما ترتيبه بالمكان الوجودي أو المتوهم فالمكان المتوهم المعقولات التي ذكرناها إلى الجسم الكل ثم العرش ثم الكرسي ثم الأطلس ثم المكوكب وفيه الجنات ثم سماء رحل ثم سماء المشتري ثم سماء المريخ ثم سماء الشمس ثم سماء الزهرة ثم سماء الكاتب ثم سماء القمر ثم الأثير ثم الهواء ثم الماء ثم الأرض وأما ترتيبه بالمكانة فالإنسان الكامل ثم العقل الأول ثم الأرواح المهيمة ثم النفس ثم العرش ثم الكرسي ثم الأطلس ثم الكثيب ثم الوسيلة ثم عدن ثم الفردوس ثم دار السلام ثم دار المقامة ثم المأوى ثم الخلد ثم النعيم ثم فلك المنازل ثم البيت المعمور ثم سماء الشمس ثم القمر ثم المشتري ثم زحل ثم الزهرة ثم الكاتب ثم المريخ ثم الهواء ثم الماء ثم التراب ثم النار ثم الحيوان ثم النبات ثم المعدن وفي الناس الرسل ثم الأنبياء ثم الأولياء ثم المؤمنون ثم سائر الخلق وفي الأمم أمة محمد صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم ثم أمة موسى عليه السلام ثم الأمم على منازل رسلها وأما ترتيبه بالتأثير فمنه المؤثر بالحال ومنه ما هو المؤثر بالهمة ومنه ما هو المؤثر بالقول ومنه ما هو المؤثر بالفعل أعني بالآلة ومنهم المؤثر بمجموع الكل ومنهم المؤثر بمجموع البعض ومنهم المؤثر بغير قصد لما ظهر منه من الأثر كتأثيرات الرياح بهبوبها في الرمال وغيرها وهي صورة الأشكال وما في الوجود إلا مؤثر ومؤثر فيه مطلقا ومؤثر اسم مفعول يكون له أثر بالحال كصور تحدث فتؤثر بالحال في واهب الأرواح لها وقد ذكرنا في نضد العالم خطبة وهي هذه التي أنا ذاكرها ذكر الخطبة في نضد العالم الجد

لله الذي ليس لأوليته افتتاح كما لسائر الأوليات الذي له الأسماء الحسنى والصفات العلى الأزليات الكائن ولا عقل ولا نفس ولا بسائط ولا مركبات ولا أرض ولا سماوات العالم في العماء بجميع المعلومات القادر الذي لا يعجز عن الجائزات المريد الذي لا يقصر فتعجزه المعجزات المتكلم ولا حروف ولا أصوات السميع الذي يسمع كلامه ولا كلام مسموع إلا بالحروف والأصوات والآلات والنغمات البصير الذي رأى ذاته ولا مرئيات مطبوعة الذوات الحي الذي وجبت له صفات الدوام الأحدي والمقام الصمدي فتعالى بهذه السمات الذي جعل الإنسان الكامل أشرف الموجودات وأتم الكلمات المحدثات والصلاة على سيدنا محمد خير البريات وسيد الجسمانيات والروحانيات وصاحب الوسيلة في الجنات الفردوسيات والمقام المحمود في اليوم العظيم البليات الأليم الرزيات أما بعد فإنه لما شاء سبحانه أن يوجد الأشياء من غير موجود وإن يبرزها في أعيانها بما تقتضيه من الرسوم والحدود لظهور سلطان الأعراض والخواص والفصول والأنواع والأجناس الدافعين شبه الشكوك والرافعين حجب الالتباس بوسائط العبارات الشارحة والصفات الرسمية والذاتية النيرة النبراس فانجلى في صورة العلم صور الجواهر المتماثلات والأعراض المختلفات والمتماثلات والمتقابلات وفصل بين هذه الذوات بين المتحيزات منها وغير المتحيزات كما انجلى في ذوات الأعراض والجواهر صور الهيئات والحالات بالكيفيات وصور المقادير والأوزان المتصلات والمنفصلات بالكميات وصور الأدوار والحركات الزمانيات وصور الأقطار والأكوار المكانيات والصور الحافظات الماسكات نظام العالم الحاملات أسباب المناقب والمثالب العرضيات وأسباب المدائح والمذام الشرعيات وأسباب الصلاح والفساد الوضعيات الحكميات وصور الإضافات بين المالك والمملوك والآباء والأبناء والبنات وصور التمليك بالعبيد والإماء الخارجات والحسن والجمال والعلم وأمثال ذلك الداخلات وصور التوجهات الفعلية القائمة بالفاعلات وصور المنفعلات التي هي بالفعل والفاعلات مرتبطات وقال عند ما جلاها ب الشَّمْسِ وضُحاها والْقَمَرِ إِذا تَلاها والنَّهارِ إِذا جَلَّاها واللَّيْلِ إِذا يَغْشاها والسَّماءِ وما بَناها والْأَرْضِ وما طَحاها هذه حقائق الآباء العلويات والأمهات السفليات ولها البقاء بالإبقاء مع استمرار التكوينات والتلوينات بالتغيير والاستحالات ليثبت عندها علم ما هي الحضرة الإلهية عليه من العزة والثبات فهذا هو الذي أبرز سبحانه من المعلومات ولا يجوز غير ذلك فإنه لم يبق سوى الواجبات والمحالات فأول موجود أداره سبحانه فلك الإشارات إدارة إحاطة معنوية وهو أول الأفلاك الممكنات المحدثات المعقولات وأول صورة ظهر في هذا الفلك العمائي صور الروحانيات المهيمات الذي منها القلم الإلهي الكاتب العلام في الرسالات وهو العقل الأول الفياض في الحكميات والإنباءات وهو الحقيقة المحمدية والحق المخلوق به والعدل عند أهل اللطائف والإشارات وهو الروح القدسي الكل عند أهل الكشوف والتلويحات فجعله عالما حافظا باقيا تاما كاملا فياضا كاتبا من دواة العلم تحركه يمين القدرة عن سلطان الإرادة والعلوم الجاريات إلى نهايات وهو مستوي الأسماء الإلهيات ثم أدار معدن فلك النفوس دون هذا الفلك وهو اللوح المحفوظ في النبوات وهو النفس المنفعلة عند أصحاب الإدراكات والإشارات والمكاشفات فجعلها باقية تامة غير كاملة وفائضة غير مفيضة فيض العقل فهي في محل القصور والعجز عن بلوغ الغايات ثم أوجد الهباء في الكشف والهيولى في النظر والطبيعة في الأذهان لا في الأعيان فأول صورة أظهر في ذلك الهباء صور الأبعاد الثلاثة فكان المكان فوجه عليه سبحانه سلطان الأربعة الأركان فظهرت البروج الناريات والترابيات والهوائيات والمائيات فتميزت الأكوان وسمي هذا الجسم الشفاف اللطيف المستدبر المحيط بأجسام العالم العرش العظيم الكريم واستوى عليه باسمه الرحمن استواء منزها عن الحد والمقدار معلوم عنده غير مكيف ولا معلوم للعقول والأذهان ثم أدار سبحانه في جوف هذا الفلك الأول فلكا ثانيا سماه الكرسي فتدلت إليه القدمان فانفرق فيه كل أمر حكيم بتقدير عزيز عليم وعنده أوجد الخيرات الحسان والمقصورات في خيام الجنان ثم رتب‏

فيه منازل الأمور كلها وأحكمها في روحانيات سخرها وحكمها بالتأثيرات السبعية من ألف إلى ساعة عن اختلاف الملوان وجعل هذه المنازل بين وسط ممزوج وطرفي سعد مستقر ونحس مستمر بنزول المقدر المفرد الإنسان ثم أدار سبحانه في جوف هذا الفلك الثاني فلكا ثالثا وخلق فيه كوكبا سابحا من الخنس الكنس مسخرا فقيرا أودع لديه كل أسود حالك وقرن به ضيق المسالك والوعر والحزن والكرب والحزن وحسرات الفوت وسكرات الموت وأسرار الظلمات والمفازات المهلكات والأشجار والمثمرات والأفاعي والحيات والحيوانات المضرات والحشرات الموحشات والطرق الدارسات والعناء والمشقات وخلق عند مساعدته النفس الكلية الجبال لتسكين الأرضين المدحيات وأسكن في هذا الفلك روحانية خليله إبراهيم عليه السلام عبده ورسوله ثم أدار في جوف هذا الفلك فلكا رابعا خلق فيه كوكبا سابحا من الخنس الكنس أودع لديه النخل الباسقات والعدل في القضايا والحكومات وأسباب الخير والسعادات والبيض الحسان المنعمات والاعتدالات والنمامات وأسرار العبادات والقربات والصدقات البرهانيات والصلوات النوريات وإجابة الدعوات والناظرين إلى الواقفين بعرفات وقبول النسك بموضع رمى الجمرات وخلق عند مساعدته النفس الكلية تحليل المياه الجامدات واسكن في هذا الفلك روحانية نبيه موسى عليه السلام عبده ونجيه ثم أدار في جوف هذا الفلك فلكا خامسا خلق فيه كوكبا سابحا من الخنس الكنس أودع لديه حماية المذاهب بالقواضب المرهفات والموازن السمهريات وتجمير قدور راسيات ومل‏ء جفون كالجوابي المستديرات والتعصبات والحميات وإيقاع الفتن والحروب بين أهل الهدايات والضلالات وتقابل الشبه المضلات والأدلة الواضحات بين أهل العقول السليمة والتخيلات وخلق عند مساعدته النفس الكل لتلطيف الأهوية السخيفات واسكن في هذا الفلك روح رسوليه هارون ويحيى عليه السلام موضحي سبيليه ثم أدار في جوف هذا الفلك فلكا سادسا خلق فيه كوكبا عظيما مشرقا سابحا أودع لديه أسرار الروحانيات والأنوار المشرقات والضياءات اللامعات والبروق الخاطفات والشعاعات النيرات والأجساد المستنيرات والمراتب الكاملات والاستواءات المعتدلات والمعارف اللؤلؤيات واليواقيت العاليات والجمع بين الأنوار والأسرار الساريات ومعالم التأسيسات وأنفاس النور الجاريات وخلع الأرواح المدبرات وإيضاح الأمور المبهمات وحل المسائل المشكلات وحسن إيقاع السماع في النغمات وتوالي الواردات وترادف التنزلات الغيبيات وارتقاء المغاني الروحانيات إلى أوج الانتهاءات ودفع العلل بالعلالات النافعات والكلمات المستحسنات والأعراف العطريات وأمثال ذلك مما يطول ذكره قد ذكرنا منه طرفا في الباب السادس والأربعين من كتاب التنزلات الموصليات وخلق عند مساعدته النفس الكل تحريك الفلك الأثير لتسخين العالم بهذه الحركات واسكن في هذا الفلك إدريس النبي المخصوص بالمكان العلي ثم أدار في جوف هذا الفلك فلكا سابعا خلق فيه كوكبا سابحا من الخنس الكنس أودع لديه التصوير التام وحسن النظام والسماع الشهي والمنظر الرائق البهي والهيبة والجمال والأنس والجلال وخلق عند مساعدته النفس الكل تقطير ماء رطب من ركن البخارات وأسكن في هذا الفلك روحانية النبي

الجميل التام يوسف عليه السلام ثم أدار في جوف هذا الفلك فلكا ثامنا خلق فيه كوكبا سابحا من الخنس الكنس أودع لديه الأوهام والإيهام والوحي والإلهام ومهالك الآراء الفاسدة والقياسات والأحلام الرديئة والمبشرات والاختراعات الصناعيات والاستنباطات العمليات وما في الأفكار من الغلطات والإصابات والقوي الفعالات والوهميات والزجر والكهانات والفراسات والسحر والعزائم والطلسمات وخلق عند مساعدته النفس الكل مزج البخارات الرطبة بالبخارات اليابسات واسكن في هذا الفلك روحانية روحه وكلمته عيسى عليه السلام عبده ورسوله وابن أمته ثم أدار في جوف هذا الفلك فلكا آخر تاسعا خلق فيه كوكبا سابحا أودع الله لديه الزيادة والنقصان والربو والاستحالات بالاضمحلالات وخلق عند مساعدته النفس الكل إمداد المولدات بركن العصارات واسكن في هذا الفلك روحانية نبيه آدم عليه السلام عبده ورسوله وصفيه واسكن هذه الأفلاك المستديرات أصناف الملائكة الصافات التاليات فمنها القائمات والقاعدات ومنها

الراكعات والساجدات كما قال تعالى إخبارا عنهم وما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ فهم عمار السموات وجعل منهم الأرواح المطهرات المعتكفين بأشرف الحضرات وجعل منهم الملائكة المسخرات والوكلاء على ما يخلقه الله من التكوينات فوكل بالأرجاء الزاجرات وبالأنباء المرسلات وبالإلهام واللمات الملقيات وبالتفصيل والتصوير والترتيب المقسمات وبالترغيب والترحيب الناشرات وبالترهيب الناشطات وبالتشتيت النازعات وبالسوق السابحات وبالاعتناء السابقات وبالأحكام المدبرات ثم أدار في جوف هذا الفلك كرة الأثير أودع فيها رجوع المسترقات الطارقات ثم جعل دونه كرة الهواء أجرى فيه الذاريات العاصفات السابقات الحاملات المعصرات وموج فيه البحور الزاخرات الكائنات من البخارات المستحيلات يسمى دائرة كرة الزمهرير تتعلم منه صناعة التقطيرات وأمسك في هذه الكرة أرواح الأجسام الطائرات وأظهر في هاتين الكرتين الرعود القاصفات والبروق الخاطفات والصواعق المهلكات والأحجار القاتلات والجبال الشامخات والأرواح الناريات الصاعدات النازلات والمياه الجامدات ثم أدار في جوف هذه الكرة كرة أودع فيها سبحانه ما أخبرنا به في الآيات البينات من أسرار إحياء الموات وأجرى فيها الأعلام الجاريات وأسكنها الحيوانات الصامتات ثم أدار في جوفها كرة أخرى أودع فيه ضروب التكوينات من المعادن والنباتات والحيوانات فأما المعادن فجعلها عز وجل ثلاث طبقات منها المائيات والترابيات والحجريات وكذلك النبات منها النابتات والمغروسات والمزروعات وكذلك الحيوانات منها المولدات المرضعات والحاضنات والمعفنات ثم كون الإنسان مضاهيا لجميع ما ذكرناه من المحدثات ثم وهبه معالم الأسماء والصفات فمهدت له هذه المخلوقات المعجزات ولهذا كان آخر الموجودات فمن روحانيته صح له سر الأولية في البدايات ومن جسميته صح له الآخرية في الغايات فبه بدي‏ء الأمر وختم إظهارا للعنايات وأقامه خليفة في الأرض لأن فيها ما في السموات وأيده بالآيات والعلامات والدلالات والمعجزات واختصه بأصناف الكرامات ونصب به القضايا المشروعات ليميز الله به الخبيثات من الطيبات فيلحق الخبيث بالشقاوات في الدركات ويلحق الطيب بالسعادات في الدرجات كما سبق في القبضتين اللتين هما صفتان للذات فسبحان مبدئ هذه الآيات وناصب هذه الدلالات على أنه واحد قهار الأرض والسموات فهذا ترتيب نضد العالم على طريق خاص لبعض النظار انفرد به وسنذكر بعد القصيدة التي أذكرها بعد هذا ما وافقونا فيه وأما نظمنا فيه أيضا على طريقة أخرى في الوضع الأول فاعلم وهذه هي القصيدة

الحمد لله الذي بوجوده *** ظهر الوجود وعالم الهيمان‏

والعنصر الأعلى الذي بوجوده *** ظهرت ذوات عوالم الإمكان‏

من غير ترتيب فلا متقدم *** فيه ولا متأخر بالآن‏

حتى إذا شاء المهيمن إن يرى *** ما كان معلوما من الأكوان‏

فتح القدير عوالم الديوان *** بوجود روح ثم روح ثاني‏

ثم الهباء كذا الهيولى ثم جسم قابل *** لعوالم الأفلاك والأركان‏

فأداره فلكا عظيما واسمه *** العرش الكريم ومستوي الرحمن‏

يتلوه كرسي انقسام كلامه *** فتلوح من أقسامه القدمان‏

من بعده فلك البروج وبعده *** فلك الكواكب مصدر الأزمان‏

ثم النزول مع الخلأ لمركز *** ليقيم فيه قواعد البنيان‏

فأدار أرضا ثم ماء فوقه *** كرة الهواء وعنصر النيران‏

من فوقه فلك الهلال وفوقه *** فلك يضاف لكاتب الديوان‏

من فوقه فلك لزهرة فوقه *** فلك الغزالة مصدر الملوان‏

من فوقه المريخ ثم المشتري *** ثم الذي يعزي إلى كيوان‏

ولكل جسم ما يشأ كل طبعه *** خلق يسمى العالم النوراني‏

فهم الملائكة الكرام شعارهم *** حفظ الوجود من اسمه المحسان‏

فتحركت نحو الكمال فولدت *** عند التحرك عالم الشيطان‏

ثم المعادن والنبات وبعده *** جاءت لنا بعوالم الحيوان‏

والغاية القصوى ظهور جسومنا *** في عالم التركيب والأبدان‏

لما استوت وتعدلت أركانه *** نفخ الإله لطيفة الإنسان‏

وكساه صورته فعاد خليفة *** يعنو له الأملاك والثقلان‏

وبدورة الفلك المحيط وحكمه *** أبدى لنا في عالم الحدثان‏

في جوف هذا الأرض ماء أسودا *** نتنا لأهل الشرك والطغيان‏

يجري على متن الرياح وعندها *** ظلمات سخط القاهر الديان‏

دارت بصخرة مركز سلطانه *** الروح الإلهي العظيم الشأن‏

فهذا ترتيب الوضع الذي أنشأ الله عليه العالم ابتداء

[التفاضل في المعلومات‏]

اعلم أن التفاضل في المعلومات على وجوده أعمها التأثير فكل مؤثر أفضل من أكثر المؤثر فيه من حيث ذلك التأثير خاصة وقد يكون المفضول أفضل منه من وجه آخر وكذلك فضل العلة على معلولها والشرط على مشروطه والحقيقة على المحقق والدليل على المدلول من حيث ما هو مدلول له لا من حيث عينه وقد يكون الفضل بعموم التعلق على ما هو أخص تعلقا منه كالعالم والقادر ولما كان الوجود كله فاضلا مفضولا أدى ذلك إلى المساواة وإن يقال لا فاضل ولا مفضول بل وجود شريف كامل تام لا نقص فيه ولا سيما وليس في المخلوقات على اختلاف ضروبها أمر إلا وهو مستند إلى حقيقة ونسبة إلهية ولا تفاضل في الله لأن الأمر لا يفضل نفسه فلا مفاضلة بين العالم من هذا الوجه وهو الذي يرجع إليه الأمر من قبل ومن بعد وعليه عول أهل الجمع والوجود وبهذا سموا أهل الجمع لأنهم أهل عين واحدة كما قال الله تعالى وما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ ومن كشف الأمر على ما هو عليه علم ما ذكرناه في ترتيب العالم في هذا الباب فإنه متنوع المساق ففي الخطبة ترتيب ليس في المنظوم وكذلك سائر ما ذكرناه في الباب‏

«وصل» في ذكر ما في هذا المنزل من العلوم‏

فمن ذلك علم الاتصال الكوني والانفصال الإلهي والكوني وفيه علم تنزيه الحق مع ثبوت النزول والمعية عما للنزول والمعية من الحركة والانتقال وفيه علم الفرقان بين الكتب المنزلة من عند الله وإن كانت كلها كلام الله ولما ذا تكثرت وتعددت آياتها وسورها هل لكونها كلاما أو لكونها متكلما بها وفيه علم افتراق الناس إلى مؤمن بكذا وغير مؤمن به وفيه علم الملإ الأعلى وفيه علم الآجال وفيه علم حكمة التفضيل في العالم وفيه علم انتشاء الفروع من أصل واحد وفيه علم قول القائل‏

وما على الله بمستنكر *** أن يجمع العالم في واحد

وهذا هو علم الإنسان الكامل الجامع حقائق العالم وصورة الحق سبحانه وتعالى وفيه علم الفرق بين المبدأ والمعاد وما معنى المعاد هل هو أمر وجودي أو نسبة مرتبة كوال يعزل ثم يرد إلى ولايته وفيه علم السبب الذي لأجله أنكر من أنكر المعاد وما المعاد الذي أنكر وما صفة المنكر وفيه علم نسبة الأشياء إلى الله نسبة واحدة فكيف سبقت الرحمة الغضب حتى عمت الرحمة كل شي‏ء فلم يبق للغضب محل يظهر فيه وفيه علم هداة الحق وفيه علم إنشاء العالم من العالم ولما ذا يرجع ما فيه من الزيادة والنقص فلا بد من العلم بكمال أو تمام به يتميز ما زاد عليه وما نقص عنه وهل كل زيادة على التمام نقص أم لا وفيه علم هل يوجد أمران متجاوران ليس بينهما وسط مثل الغيب والشهادة وكالنفي والإثبات ومثل قولنا أنت ما أنت وما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وفيه علم الأمر الذي يحفظ الله به المكلف من حيث عينه ومن حيث أفعاله وفيه علم كمال العالم الكمال الذي لا يحتمل الزيادة فيه فلا يظهر فيه مما لم يظهر إلا ما خرج عنه فيعود عليه فيظهر فيه أمر لم يكن فيه وهو منه فما ظهر في العالم بعد تمامه إلا العالم فأمر الله واحدة فيه وهو المعبر عنه‏

بالاستحالات والاستحالات متنوعة بحسب الحقائق كالماء يستحيل بخارا والملك يستحيل إنسانا بالصورة وكذلك التجلي فمن عرف ذلك عرف الأمر على ما هو عليه والولد على شبه أبيه فإن الولد إذا خرج على شبه أبيه برأ الأم مما يتطرق إليها من الاحتمال إذا لم يكن الشبه ومن هنا تعلم أنه لا خالق إلا الله وقد نبه الشارع بحديث الصورة الكاملة الإمامية وفيه علم نفي الأسباب بإثباتها وفيه علم الأمر الذي دعا المشرك إلى إثبات الشريك وفيه علم غيرة الحق على الرتبة الإلهية وفيه علم ما يقول المتعلم من العالم إذا سأله العالم بفتح اللام وفيه علم ما هو من القول حجة وما ليس بحجة فهل الحجة على الخصم عين القول خاصة أو ما يدل عليه القول أو في موطن يكون القول وفي موطن يكون ما يدل عليه القول فإذا كان القول يعجز السامع فهو عين الحجة وفيه علم الفضل بالعلم بين المخلوقين وأنه لا رتبة أشرف من رتبة العلم وفيه علم أن الملائكة كلهم علماء بالله ليس فيهم من يجعل بخلاف الناس ولذلك قال تعالى شَهِدَ الله أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ والْمَلائِكَةُ ثم قال في حق الناس وأُولُوا الْعِلْمِ وما أطلق مثل ما أطلق الملائكة وهو علم التوحيد هنا لا علم الوجود فإن العالم كله عالم بالوجود لا بالتوحيد لا في الذات ولا في المرتبة وإن كان المشرك قد جعل له الرتبة العليا مع الاشتراك في معنى الرتبة وفيه علم ما لا يمكن لمخلوق جحده وهو افتقار الممكن إلى المرجح وفيه علم ما يجوز نقضه من‏

المواثيق والعهود وما لا يجوز وفيه علم ما يسبق إلى الوهم من تكذيب شخص من الناس يدعي أنه موجود من غير أب ولا أم عند من يؤمن بوجود آدم عليه السلام وينكره في حق شخص ما قد أشبهه في الصورة ولا يتوقف في تكذيبه ولا في رد ما قاله وجاء به وهو ممكن في نفس الأمر ويقر به من يقول بحدوث العالم وبقدمه وفيه علم ما تقيده الملائكة من العلم إذا دخلوا على أهل السعادة في منازلهم وفيه علم فصل الدنيا من الآخرة دار أو حياة وهما دار واحدة وحياة واحدة وفيه علم القلوب ولما ذا ترجع نسبة الكون إليها هل إلى علمها باستحالة ثبوتها على أمر واحد زمانين لما علمت أن خالقها إذا تذكرت وفكرت أنه كل يوم في شأن فتقطع عند ذلك أنها لا تبقي على حال واحد لأنها محل التصريف والتقليب وفيه علم العلم الجامع والمفصل للمضار والمنافع وهل الإنسان الجاهل يقاوم بقوته قوة كلام الله حتى لا يؤثر فيه أو قوته على نفسه أن يستر ما أثر فيه كلام الله فلم يقاوم إلا نفسه لا كلام الله وفيه علم انتظار الحق بإظهار الأمور ما حكم به علمه فيها من الترتيب في الإيجاد مع الجواز وكيف يجتمع المحال والإمكان في أمر واحد فيحكم عليه بأنه محال بالدليل العقلي ممكن بالدليل العقلي وأدلة العقول لا تتعارض إلا في هذا الموطن وفيه علم تلقين الحجة لإظهار الحق وهل للحاكم إذا علم صدق أحد الخصمين في دعواه ويعلم أنه يبطل حقه لجهله بتحرير الدعوى هل له أن يعلمه كيف يدعي حتى يثبت له الحق كما هو في نفس الأمر أو ليس له ذلك لا في حضور الخصم ولا في غيبته وهذا مع علم الحاكم بصاحب الحق وفيه علم حجج الرسل عليه السلام ليست عن نظر فكري وإنما هي عن تعليم إلهي وفيه علم ما حظ الرسول من الرسالة وفيه علم لا يعارض الحق الإلهي إلا الحق الإلهي فهو مقابلة المثلين لا مقابلة غير المثلين وإن ظهرت المعارضة من جانب المخلوق فما ظهر الحق إلا على لسان المخلوق فإن الله ما كلم عباده على رفع الحجاب لأنه يقول لا معقب لحكمه وقد وقع في الدنيا المعقب فلا بد أن يكون المعقب الله لا غيره فهو مثل النسخ في الشرائع هو الذي شرع وهو الذي رفع ما شرع بشرع آخر أنزله فالناسخ والمنسوخ من الله كذلك أمر العالم فيما جاء من الحق بالدلالة وفيما رد به ذلك الحق من غير دلالة فيعلم العالم بالله أنه من الحق فالحق يتلو بعضه بعضا فإن زمان دعوى الواحد ما هو زمان دعوى الآخر الراد

له والمعارضة على الحقيقة إن لم يشتركا في الزمان فما هي معارضة فافهم وفيه علم إنزال الحق العالم بالشي‏ء منزلة نفسه منه في ذلك العلم ولهذا تقول لا منزلة أشرف من العلم لأنه ينزلك منزلة الحق‏

لقد خرت كل الطيب فيما لثمته *** وقد علم الأقوام من قد لثمته‏

وإن الذي في الكون من كل طيب *** من العقل والإحساس فيما طعمته‏

والله يَقُولُ الْحَقَّ وهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ‏



Veuillez noter que certains contenus sont traduits de l'arabe de manière semi-automatique!