الفتوحات المكية - طبعة بولاق الثالثة (القاهرة / الميمنية) |
||
| الباب: | فى معرفة منزل القران من الحضرة المحمدية | |
|
لا من أجل غيره وعلم إلقاء المحبة في القلوب وثباتها فيه وهل إلقاؤها انتقال وجودي أو خلق يخلق في المحل وهل من شرط الحب المناسبة أم لا وعلم التغريب عن الأوطان لموجب النقيض وعلم مشقات السبل الإلهية وعلم طلب الرضاء في المنشط والمكره وعلم السر والعلن وعلم الحيرة عن طريق خاص وعلم محبة الستر على التجلي وعلم ثبات السبب الموجب لقطع ما أمر بوصله فيكون قطعه قربة ووصله بعد أو علم المواطن وكيف ترد الأمور بحكمها وتأثيرها في الأمور الكونية والأحكام الإلهية وهو علم واسع وعلم رؤية الأعمال مع كونها أعراضا كونية والأعراض الكونية ترى أحكامها لا أعيانها بخلاف الأعراض اللونية فإنه يرى أعيانها وأحكامها وعلم الاقتداء بالمتقدمين واتباع الفاضل المفضول وعلم التبري من الجمع لا من أحدية الجمع وعلم ستر أحدية الجمع والكثرة وعلم الحب المشروط والبغض المشروط وهل يصح في نفس الأمر ذلك أو لا يصح وهل يصح فيه استثناء أو لا يصح وهل يقدح في العلم الإلهي رجوع العبد في توكله وأحواله إلى اسم خاص دون سائر الأسماء الإلهية أم لا وعلم الصيرورة من علم الرد والرجوع والفرق بينهما وبين كل واحد منهما وبين الآخر وعلم الاختيار فيما يحمد ويذم وعلم تضمن العزة الحكمة وعلم الرجاء المشترك وعلم ما ينتجه التولي عن الحق المطلق والمقيد وهل يتأثر من يتولى عنه عند التولي أو لا يتأثر وعلم المقاربة من الشيء هل يتصف بها الحق أم لا وعلم كون الرحمة قد تكون بالستر وبغير الستر وعلم سبب إكرام الكريم ومجازاة اللئيم هل يكون بلؤم فيشتركان وإن كان الواحد جزاء أو لا يجازيه إلا بالإحسان وهل يكون لؤم الجزاء لؤما في نفس الأمر أو هو صفة اللئيم تعود عليه لما ظهرت له في غيره فكرهها منه فعلم بذلك أنها صفته وأنها في المجازي أمر عرضي أظهرها للتعليم وهو علم شريف نافع يعرف منه عقوبة الله عباده على أعمالهم مع غناه في نفسه عن ذلك وعدم تضرره به وهل يمكن للخلق أن يكونوا في الجزاء باللؤم على هذا الحد عند مجازاة اللئيم أو لا يكونون وعلم ما يعامل به أصحاب الدعاوي وعلم الحكم بالعلم وإن الظن قد يسمى علما شرعا ولما ذا يسمى الظن علما وهو ضده وهل العلم هنا عبارة عن العلامة التي يحصل بها الظن في نفس الظان الحاكم به فيكون علمه بتلك العلامة علما بأن هذا ظن غالب يجب الحكم به لرائحة العلم بالعلامة إذ العلم ليس سوى عين العلامة وبه سمي علما فبالعلم يعلم العلم كما يعلم به سائر المعلومات فهي كلها علامات ولذلك قال ذلك مبلغهم من العلم ولم يكن علما فكأنه قال ذلك الذي أعطتهم العلامة في ذلك الأمر وعلم الحلال والحرام العقلي والشرعي وعلم المعاوضة في الأبضاع وهو علم عجيب لأنه لا متعلق للمشتري في ذلك إلا الاستمتاع خاصة فكأنه مشتري الاستمتاع وعلم العدل في الحكم الإلهي والنيابة فيه وعلم الفرق بين العلم والحكمة وعلم اتخاذ الله وقاية مما ذا وهل ذلك من مرتبة العلم أو مرتبة الايمان وعلم أحكام التابع والمتبوع هل يجتمعان في أمر أو لا يجتمعان في أمر وعلم مبايعة الإمام الذي هو السلطان هل حكمها حكم البيع فيتعين ما بيع وما اشترى وهل يدخل فيها بيع النفوس وهو المبايعة على الموت أم لا وعلم التشبيه فهذا ما يتضمنه هذا المنزل من العلوم والله يَقُولُ الْحَقَّ وهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ «الباب الخامس والعشرون وثلاثمائة في معرفة منزل القرآن من الحضرة المحمدية»الجمع معتبر في كل آونة *** والوتر في الجمع كالأعداد في الأحد هذا الإله هو الأسماء أوترها *** تسع وتسعون لم تنقص ولم تزد فالعين مجموع أسماء وليس لها *** وتر سوى ما ذكرناه من العدد فليس ثم سوى فرد يعينه *** عين الكثير فلا تلوي على أحد والله وتر فلا شيء يكثره *** مع العلوم التي أعطاك في الرصد فلا مؤثر غير الله في بشر *** والغير ما ثم فاقصد ساكن البلد يعطيك خيرا بإحسان يجود به *** عليك فهو الذي إن شاء لم يجد [أن كل ما سوى الله أرواح مطهرة منزهة]اعلم فهمك الله أن كل ما سوى الله أرواح مطهرة منزهة موجدها وخالقها وهي تنقسم إلى مكان وإلى متمكن والمكان ينقسم إلى قسمين مكان يسمى سماء ومكان يسمى أرضا والمتمكن فيهما ينقسم إلى قسمين إلى متمكن فيه وإلى متمكن عليه فالمتمكن فيه يكون بحيث مكانه والمتمكن عليه لا يكون بحيث مكانه وهذا حصر كل ما سوى الله وكل ذلك أرواح في الحقيقة أجسام وجواهر في الحق المخلوق به وهذه الأرواح على مراتب في التنزيه تسمى مكانة وما من منزه لله تعالى إلا وتنزيهه على قدر مرتبته لأنه لا ينزه خالقه إلا من حيث هو إذ لا يعرف إلا نفسه فيثمر له ذلك التنزيه عند الله مكانة يتميز بها كل موجود عن غيره وهذا المنزل يحتوي على تنزيه الأرواح المتمكنة لا المكانية وسيرد منزل في هذه المنازل نذكر فيه تنزيه المكان والمتمكن معا فكان هذا المنزل يحتوي على نصف العالم من حيث ما هو منزه ثم إن الله تعالى عاد بالمكانة على هذا المنزه بأن كان الحق مجلاه فرأى نفسه ورتبته فسبح على قدر ما رأى فإذا هو نفسه لا غيره وذلك أن الحق أسدل بينه وبين عباده حجاب العزة فوقف التنزيه دونه فعلم إن الحق لا يليق به تنزيه خلقه وأن حجاب العزة أحمى وقهرها أغلب ثم رأى من سواه من العارفين بالله المنزهين بنعوت السلوب على مراتب وقد أقر الجميع منهم بأنهم كانوا غالطين في محل تنزيههم وأن تنزيههم ما خرج عنهم وذلك لحكمته التي سرت في خلقه فكان ذلك تنزيه الحكمة لا غيره ولو لا ستر حجاب العزة ما عرفوا ذلك ومن هذا الحجاب ظهر الكفر في العالم وصارت المعرفة خبرا بما وراء هذا الحجاب فظهر الايمان في العالم بين الستر والمؤمن فالكافر الذي هو الساتر أقرب من أجل الكفر فإن الستر يرى المستور به والمستور عنه وهو صفة الكافر والمؤمن دون هذا الستر فمقامه الحجاب قال تعالى وما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ الله إِلَّا وَحْياً أَوْ من وَراءِ حِجابٍ والايمان متعلقة الخبر والخبر من أقسام الكلام [إن الله سبحانه أخرج أهل الستر من الغيب إلى الشهادة]ثم إنه سبحانه أخرج أهل الستر من الغيب إلى الشهادة ليحصل له مقام الجمع بين الحالتين فينزهه باللسانين ويثبت له الصفتين ولم يكن في ظنه ما فعله الحق به بل كان يتخيل أن الغيب لا يكون في موطن شهادة لعلمه أن الغيب منيع الحمى لا يعلم ما فيه فيوصل إليه وإنما مقامه أن يكون مشعورا به من غير تعيين ما هو ذلك المشعور به وغفل عن كون الله يفعل ما يريد وإنه ما في حقه غيب وأن الغيب لا يصح أن يكون إلا إضافيا فلما بدا له من الله ما لم يكن في حسابه علم إن الأمور بيد الله وأنه ما ثم من يستحق حكما لنفسه بل هو الله الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ولما علمت الأشياء أنه لا شيء لها من ذاتها وإنها بحسب ما تقتضيه ذات موجدها وأن الأحوال تتجدد عليها بحسب ما تطلبه حقائق من استندت إليه وهو الله تعالى خافت حيث لم تقف على علم الله فيها في المستقبل فتركت جميع ما كانت تعتمد عليه في نفسها لما عند خالقها فسبحته تسبيحا جديدا من خلق جديد وعبرت من النظر إليها إلى النظر إلى من بيده ملكوت كل شيء ولو لا هذا المقام الذي أقامها فيه وردها من قريب إليه لناداها من بعيد فكان المدى يطول عليها ويتعرض لها الآفات والصوارف في الطريق فإن المسافر وماله على قلة ثم إن الله لما حصل الأشياء في هذا المقام رفع لها علما من أعلام المعرفة أعطاها ذلك العلم إنها شق وإنها على النصف من الوجود وأن كمال الوجود بها ولولاها ما ظهر الكمال في الوجود والعلم فزهت وعظم شأنها عندها وما عرفت أي قسم صح لها من الوجود ثم ظهر ذلك لها في عبادة الصلاة حيث قسمها الحق نصفين بينه وبين عبده فزادت تيها فلما سمعت آخر الخبر موافقا لحالها الذي لم تشعر به في قوله فنصفها لي ولم يقيد وقال في نصف العبد ونصفها لعبدي ولعبدي ما سأل والسؤال مذلة وفقر وحاجة ومسكنة إلا أن العبد لاح له من خلف هذا الحجاب ما لم يكن يظنه وهو أنه في منزل يكون الحق متأخرا عنه مثل قوله والله من وَرائِهِمْ مُحِيطٌ وذلك لأنه في حكم الفرار إذا استقبله ما لا يطيق حمله فأخبره الله أنه من ورائه وهو الذي يستقبله فإن فر منه فإليه يفر من حيث لا يشعر كما يكون في منزل آخر أو لا له من قوله ما من دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها وقد وصف نفسه بأنه الهادي والهادي هو الذي يكون إمام القوم ليريهم الطريق وهو قوله إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ما كُنْتَ تَدْرِي ما الْكِتابُ ولا الْإِيمانُ فصارت الأشياء مع الحق عقبة فتقدم تعالى الأشياء ليهديها إلى ما فيه سعادتها وتأخر عنها ليحفظها ممن يغتالها وهو العدم فإن العدم يطلبها كما يطلبها الوجود وهي محل قابل للحكمين ليس في قوتها الامتناع إلا بلطف اللطيف ثم إن الله تعالى لما أطلعها على هذا حصل لها من العلم بجلال الله أسماء تسبحه بها وتحمده وتثني عليه بها لم تكن تعلم ذلك قبل هذا المشهد كما قال صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم في المقام المحمود يوم القيامة فأحمده بمحامد لا أعلمها الآن يعطيه إياها ذلك المقام بالحصول فيه إلها ما يلهمه الله فيثني عليه بها وهكذا كل منزلة ومرتبة في العالم دنيا وآخرة إلى ما لا يتناهى له ثناء خاص في كل منزل منها فإذا سبحه ورثه ذلك الثناء علما آخر لم يكن عنده من علم الأذن الإلهي الذي خلق الله منه بيد عيسى الطير ومنه نفخ عيسى فيه فكان طيرا ومنه أبرأ الأكمه والأبرص وأحيا الموتى وهو علم شريف تحقق به أبو يزيد البسطامي وذو النون المصري فأما أبو يزيد فقتل نملة بغير قصد فلما علم بها نفخ فيها فقامت حية بإذن الله وأما ذو النون فجاءته العجوز التي أخذ التمساح ولدها فذهب به في النيل فدعا بالتمساح فألقاه إليها من جوفه حيا كما ألقى الحوت يونس فإذا كشف له عن هذا العلم أثنى عليه سبحانه بما ينبغي له من المحامد التي يطلبها هذا المقام ومن هنا يكون له الاستشراف على من خرج عن هذا المقام فيعلم حال الخارجين لأن هذا المنزل هو المنزل الجامع ولهذا سمي منزل القرآن فإذا نزل صاحب هذا المنزل من هذا المقام إلى الكون تعرض له العدو بأجناده وهو إبليس المعادي له بالطبع ولا سيما للبنين فإنه منافر من جميع الوجوه بخلاف معاداته لآدم فإنه جمع بينه وبين آدم اليبس فإن بين التراب والنار جامعا ولذلك الجامع صدقه لما أقسم له بالله أنه لنا صح وما صدقه الأبناء فإنه للأبناء ضد من جميع الوجوه وهو قوله في الأبناء أنه خلقهم من ماء وهو منافر للنار فكانت عداوة الأبناء أشد من عداوة الأب له وجعل الله هذا العدو محجوبا عن إدراك الأبصار وجعل له علامات في القلب من طريق الشرع يعرفه بها تقوم له مقام إدراك البصر فيتحفظ بتلك العلامات من إلقائه وأعان الله هذا الإنسان عليه بالملك الذي جعله مقابلا له غيبا لغيب فمهما لم يؤثر في ظاهر الإنسان وظهر عليه الملك بمساعدة النفس كان أجران للنفس أجرها وأجر المعين وهو الملك لأن الملك لا يقبل الجزاء ولا يزيد مقامه ولا ينقص وإن أثر في ظاهر الإنسان فإن الملك يغتم لذلك ويستغفر لهذا الإنسان وهو أعني الملك ليس بمحل لجزاء الغم فيعود ذلك الجزاء على الإنسان فهو في الحالتين رابح في الطاعة والمعصية والايمان يشد من الملك ولهذا يستغفر له الملك [أن القرآن جامعا تجاذبته جميع الحقائق الإلهية فمنزلته الاعتدال]واعلم أن القرآن لما كان جامعا تجاذبته جميع الحقائق الإلهية والكونية على السواء فلم يكن فيه عوج ولا تحريف فمنزلته الاعتدال والاعتدال منزل حفظ بقاء الوجود على الموجود ما هو منزل الإيجاد لأن الإيجاد لا يكون إلا عن انحراف وميل ويسمى في حق الحق توجها إراديا وهو قوله إِذا أَرَدْناهُ ولما كان منزله الاعتدال كان له الديمومة والبقاء فله إبقاء التكوين وبقاء الكون فلو نزل عن منزله لنزل من الاعتدال إلى الانحراف وهو قوله ولَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ به الْجِبالُ وقوله لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ يعني عن منزله عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً يعني الجبل فلم يحفظ عليه صورته لأنه نزل عن منزله ولما كان هذا منزله وتجاذبته الحقائق على سواء كان من به أنزل عليه رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ لأن الرحمة وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فطلبها كل شيء طلبا ذاتيا لما دعا رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم في القنوت على من دعا عليه عوتب في ذلك فقيل له وما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ أي لترحمهم لأنك صاحب القرآن والقرآن ينطق بأني ما أرسلتك إلا رحمة وإنه ينطق بأن رَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فهي بين منة ووجوب فمن عبادي من تسعهم بحكم الوجوب ومنهم من تسعهم بحكم المنة والأصل المنة والفضل والإنعام الإلهي إذ لم يكن الكون فيكون له استحقاق فما كان ظهوره إلا من عين المنة وكذلك الأمر الذي به استحق الرحمة كان من عين المنة فإذا نزل القرآن عن منزله فإنه كلامه وكلامه على نسبة واحدة لما يقبله الكلام من التقسيم فإنه ينزله وفيه حقيقة الاعتدال في النسب وهو جديد عند كل تال أبدا فلا يقبل نزوله إلا مناسبا له في الاعتدال فهو معرى عن الهوى ولهذا قيل في محمد صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم وما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى ونهى غيره من الرسل الخلفاء أن يتبع الهوى فلم ينزل في المرتبة منزلة من أخبر عنه أنه لا ينطق عن الهوى وما كل نال يحس بنزوله لشغل روحه بطبيعته فينزل عليه من خلف حجاب الطبع فلا يؤثر فيه التذاذا وهوقوله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم في حق قوم من التالين إنهم يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم فهذا قرآن منزل على الألسنة لا على الأفئدة وقال في الذوق نَزَلَ به الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ فذلك هو الذي يجد لنزوله عليه حلاوة لا يقدر قدرها تفوق كل لذة فإذا وجدها فذلك الذي نزل عليه القرآن الجديد الذي لا يبلى والفارق بين النزولين أن الذي ينزل القرآن على قلبه ينزل بالفهم فيعرف ما يقرأ وإن كان بغير لسانه ويعرف معاني ما يقرأ وإن كانت تلك الألفاظ لا يعرف معانيها في غير القرآن لأنها ليست بلغته ويعرفها في تلاوته إذا كان ممن ينزل القرآن على قلبه عند التلاوة وإذا كان مقام القرآن ومنزله ما ذكرناه وجد كل موجود فيه ما يريد ولذلك كان يقول الشيخ أبو مدين لا يكون المريد مريدا حتى يجد في القرآن كل ما يريد وكل كلام لا يكون له هذا العموم فليس بقرآن ولما كان نزوله على القلب وهو صفة إلهية لا تفارق موصوفها لم يتمكن أن ينزل به غير من هو كلامه فذكر الحق أنه وسعه قلب عبده المؤمن فنزول القرآن في قلب المؤمن هو نزول الحق فيه فيكلم الحق هذا العبد من سره في سره وهو قولهم حدثني قلبي عن ربي من غير واسطة فالتالي إنما سمي تاليا لتتابع الكلام بعضه بعضا وتتابعه يقضي عليه بحر في الغاية وهما من والى فينزل من كذا إلى كذا ولما كان القلب من العالم الأعلى وكان اللسان من العالم الأنزل وكان الحق منزله قلب العبد وهو المتكلم وهو في القلب واحد العين والحروف من عالم اللسان ففصل اللسان الآيات وتلا بعضها بعضا فيسمى الإنسان تاليا من حيث لسانه فإنه المفصل لما أنزل مجملا والقرآن من الكتب والصحف المنزلة بمنزلة الإنسان من العالم فإنه مجموع الكتب والإنسان مجموع العالم فهما إخوان وأعني بذلك الإنسان الكامل وليس ذلك إلا من أنزل عليه القرآن من جميع جهاته ونسبه وما سواه من ورثته إنما أنزل عليه من بين كتفيه فاستقر في صدره عن ظهر غيب وهي الوراثة الكاملة حكي عن أبي يزيد أنه ما مات حتى استظهر القرآن وقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم في الذي أوتي القرآن إن النبوة أدرجت بين جنبيه وهذا الفرق بين الأنبياء والأولياء الأتباع لكن من أدرجت النبوة بين جنبيه وجاءه القرآن عن ظهر غيب أعطى الرؤية من خلفه كما أعطيها من أمامه إذ كان القرآن لا ينزل إلا مواجهة فهو للنبي صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم من وجهين وجه معتاد ووجه غير معتاد وهو للوارث من وجه غير معتاد فسمي ظهرا بحكم الأصل وهو وجه بحكم الفرع ولما ذقنا ذلك لم نر لأنفسنا تمييز جهة من غيرها وجاءنا بغتة فما عرفنا الأمر كيف هو إلا بعد ذلك فمن وقف مع القرآن من حيث هو قرآن كان ذا عين واحدة أحدية الجمع ومن وقف معه من حيث ما هو مجموع كان في حقه فرقانا فشاهد الظهر والبطن والحد والمطلع فقال لكل آية ظهر وبطن وحد ومطلع وذلك الآخر لا يقول بهذا والذوق مختلف ولما ذقنا هذا الأمر الآخر كان التنزل فرقانيا فقلنا هذا حلال وهذا حرام وهذا مباح وتنوعت المشارب واختلفت المذاهب وتميزت المراتب وظهرت الأسماء الإلهية والآثار الكونية وكثرت الأسماء والآلهة في العالم فعبدت الملائكة والكواكب والطبيعة والأركان والحيوانات والنبات والأحجار والأناسي والجن حتى إن الواحد لما جاء بالوحدانية قالوا أَ جَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ وفي الحقيقة ليس العجب ممن وحد وإنما العجب ممن كثر بلا دليل ولا برهان ولهذا قال ومن يَدْعُ مَعَ الله إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ به وهذه رحمة من الله بمن لاحت له شبهة في إثبات الكثرة فاعتقد أنها برهان بأن الله يتجاوز عنه فإنه بذل وسعه في النظر وما أعطته قوته غير ذلك فليس للمشركين عن نظر أرجى في عفو الله من هذه الآية وقد قلنا إنه ما في العالم أثر إلا وهو مستند إلى حقيقة إلهية فمن أين تعددت الآلهة وعبدت من الحقائق الإلهية فاعلم إن ذلك من الأسماء فإن الله لما وسع فيها فقال اعْبُدُوا الله وقال اتَّقُوا الله رَبَّكُمْ وقال اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ وقال ادْعُوا الله أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا يعني الله أو الرحمن فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فزاد الأمر عندهم إبهاما أكثر مما كان فإنه لم يقل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فالعين واحدة وهذان اسمان لها هذا هو النص الذي يرفع الإشكال فما أبقى الله هذا الإشكال إلا رحمة بالمشركين أصحاب النظر الذي أشركوا عن شبهة وبقي الوعيد في حق المقلدين حيث أهلهم الله للنظر وما نظروا ولا فكروا ولا اعتبروا فإنه ما هو علم تقليد فالمخطئ مع النظر أولى وأعلى من الإصابة والمصيب مع التقليد إلا في ذات الحق فإنه لا ينبغي أن يتصرف مخلوق فيها بحكم النظر الفكري وإنما هو مع الخبر الإلهي فيما يخبر به عن نفسه لا يقاس عليه ولا يزيد ولا ينقص ولا يتأول ولا يقصد بذلك القول وجها معينا بل يعقل المعنى ويجهل النسبة ويرد العلم بالنسبة إلى علم الله فيها فمن نظر الأمر بمثل هذا النظر فقد أقام العذر لصاحبه وكان رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ [إن ليلة القدر ليلة النصف من شعبان]ثم اعلم أن الله أنزل الكتاب فرقانا في ليلة القدر ليلة النصف من شعبان وأنزله قرآنا في شهر رمضان كل ذلك إلى السماء الدنيا ومن هناك نزل في ثلاث وعشرين سنة فرقانا نجوما ذا آيات وسور لتعلم المنازل وتتبين المراتب فمن نزوله إلى الأرض في شهر شعبان يتلى فرقانا ومن نزوله في شهر رمضان يتلى قرآنا فمنا من يتلوه به فذلك القرآن ومنا من يتلوه بنفسه فذلك الفرقان ولا يصح أن يتلى بهما في عين واحدة ولا حال واحدة فإذا كنت عنده كنت عندك وإذا كنت عندك لم تكن عنده لأن كل شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ وهو ليس كذلك بل هو مع كل شيء وعند من يذكره بالذكر لا غير فإنه جليس الذاكرين «فصل»اعلم أن الله أنزل هذا القرآن حروفا منظومة من اثنين إلى خمسة أحرف متصلة ومفردة وجعله كلمات وآيات وسورا ونورا وهدى وضياء وشفاء ورحمة وذكرا وعربيا ومبينا وحقا وكتابا ومحكما ومتشابها ومفصلا ولكل اسم ونعت من هذه الأسماء معنى ليس للآخر وكله كلام الله ولما كان جامعا لهذه الحقائق وأمثالها استحق اسم القرآن فلنذكر مراتب بعض نعوته ليعلم أهل الله منزلته «وصل»فمن ذلك كونه حروفا والمفهوم من هذا الاسم أمران الأمر الواحد المسمى قولا وكلاما ولفظا والأمر الآخر يسمى كتابة ورقما وخطا والقرآن يخط فله حروف الرقم وينطق به فله حروف اللفظ فلما ذا يرجع كونه حروفا منطوقا بها هل لكلام الله الذي هو صفته أو هل للمترجم عنه فاعلم إن الله قد أخبرنا نبيه صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم أنه سبحانه يتجلى في القيامة في صور مختلفة فيعرف وينكر ومن كانت حقيقته تقبل التجلي في الصور فلا يبعد أن يكون الكلام بالحروف المتلفظ بها المسماة كلام الله لبعض تلك الصور كما يليق بجلاله فكما نقول تجلى في صورة كما يليق بجلاله كذلك نقول تكلم بصوت وحرف كما يليق بجلاله ونحملها محمل الفرح والضحك والعين والقدم واليد واليمين وغير ذلك مما ورد في الكتاب والسنة مما يجب الايمان به على المعنى المعقول من غير كيفية ولا تشبيه فإنه يقول لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ فنفى إن يماثل مع عقل المعنى وجهل النسبة فإذا انتظمت الحروف سميت كلمة وإذا انتظمت الكلمات سميت آية وإذا انتظمت الآيات سميت سورة فلما وصف نفسه بأن له نفسا كما يليق بجلاله ووصف نفسه بالصوت والقول وقال فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ الله كان النفس المسمى صوتا وكان انقطاعه من الصوت حيث انقطع يسمى حرفا وكل ذلك معقول مما وقع الإخبار الإلهي به لنا مع نفي المماثلة والتشبيه كسائر الصفات ولما وصف نفسه بالصورة عرفنا معنى قوله إنه الظَّاهِرُ والْباطِنُ فالباطن للظاهر غيب والظاهر للباطن شهادة ووصف نفسه بأن له نفسا فهو خروجه من الغيب وظهور الحروف شهادة والحروف ظروف للمعاني التي هي أرواحها والتي وضعت للدلالة عليها بحكم التواطؤ وقال تعالى وما أَرْسَلْنا من رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ وأبلغ من هذا الإفصاح من الله لعباده ما يكون فلا بد أن يفهم من هذه العبارات ما تدل عليه في ذلك اللسان بما وقع الإخبار به عن الكون فيعرف المعنى الذي يدل عليه ذلك الكلام وتعرف النسبة وما وقع الإخبار به عن الله يعرف المعنى الذي يدل عليه ذلك الكلام وتجهل النسبة لما أعطى الدليل العقلي والدليل الشرعي من نفي المماثلة فإذا تحققت ما قررناه تبينت أن كلام الله هو هذا المتلو المسموع المتلفظ به المسمى قرآنا وتوراة وزبورا وإنجيلا فحروفه تعين مراتب كلمه من حيث مفرداتها ثم للكلمة من حيث جمعيتها معنى ليس لآحاد حروف الكلمة فللكلمة أثر في نفس السامع لهذا سميت كلمة في اللسان العربي مشتقة من الكلم وهو الجرح وهو أثر في جسم المكلوم كذلك للكلمة أثر في نفس السامع أعطاه ذلك الأثر استعداد السمع لقبول الكلام بوساطة الفهم لا بد من ذلك فإذا انتظمت كلمتان فصاعدا سمي المجموع آية أي علامة على أمر لم يعط ذلك الأمر كل كلمة على انفرادها مثل الحروف مع الكلمة إذ قد تقرر أن للمجموع حكما لا يكون لمفردات ذلك المجموع فإذا انتظمت الآيات بالغا ما أراد المتكلم أن يبلغ بها سمي المجموع سورة معناها منزلة ظهرت عن مجموع هذه الآيات لم تكن الآيات تعطي تلك المنزلة على انفراد كل آية منها وليس القرآن سوى ما ذكرناه من سور وآيات وكلمات وحروف فهذا قد أعطيتك أمرا كليا في القرآن والمنازل تختلف فتختلف الآيات فتختلف الكلمات فيختلف نظم الحروف والقرآن كبير كثير لو ذهبنا نبين على التفصيل ما أومأنا إليه لم يف العمر به فوكلناك إلى نفسك لاستخراج ما فيه من الكنوز وهذا إذا جعلناه كلاما فإن أنزلناه كتابا فهو نظم حروف رقمية لانتظام كلمات لانتظام آيات لانتظام سور كل ذلك عن يمين كاتبة كما كان القول عن نفس رحماني فصار الأمر على مقدار واحد وإن اختلفت الأحوال لأن حال التلفظ ليس حال الكتابة وصفة اليد ليست صفة النفس فكونه |


