الفتوحات المكية - طبعة بولاق الثالثة (القاهرة / الميمنية) |
||
| الباب: | فى معرفة مقام السماع | |
|
التكليف فمثل هؤلاء هم الذين يقتدي بهم ويجب احترامهم وهم الذين إذا رؤوا ذكر الله وطائفة أخرى من الشيوخ أصحاب أحوال عندهم تبديد ليس لهم في الظاهر ذلك التحفظ تسلم لهم أحوالهم ولا يصحبون ولو ظهر عليهم من خرق العوائد ما عسى إن يظهر لا يعول عليه مع وجود سوء أدب مع الشرع فإنه لا طريق لنا إلى الله إلا ما شرعه فمن قال بأن ثم طريقا إلى الله خلاف ما شرع فقوله زور فلا يقتدى بشيخ لا أدب له وإن كان صادقا في حاله ولكن يحترم [أن حرمة الحق في حرمة الشيخ وعقوقه في عقوقه]واعلم أن حرمة الحق في حرمة الشيخ وعقوقه في عقوقه هم حجاب الحق الحافظون أحوال القلوب على المريدين فمن صحب شيخا ممن يقتدي به ولم يحترمه فعقوبته فقدان وجود الحق في قلبه والغفلة عن الله وسوء الأدب عليه يدخل عليه في كلامه ويزاحمه في رتبته فإن وجود الحق إنما يكون للادباء والباب دون غير الأدباء مغلق ولا حرمان أعظم على المريد من عدم احترام الشيوخ قال بعض أهل الله في مجالس أهل الله من قعد معهم في مجالسهم وخالفهم في شيء مما يتحققون به في أحوالهم نزع الله نور الايمان من قلبه فالجلوس معهم خطر وجليسهم على خطر واختلف أصحابنا في حق المريد مع شيخ آخر خلاف شيخه هل حاله معه من جانب الحق مثل شيخه أم لا فكلهم قالوا بوجوب حرمته عليه ولا بد هذا موضع إجماعهم وما عدا هذا فمنهم من قال حاله معه على السواء من حاله مع شيخه ومنهم من فصل وقال لا تكون الصورة واحدة إلا بعد أن يعلم المريد أن ذلك الشيخ الآخر ممن يقتدي به في الطريق وأما إذا لم يعرف ذلك فلا ولهذا وجه وللآخر وجه النبي صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم يقول للمرأة إنما الصبر عند الصدمة الأولى وكانت قد جهلت أنه رسول الله ص والمريد لا يقصد إلا الحق فإذا ظهر مقصوده حيث ظهر قال به وأخذه فإن الرجال إنما يعرفون بالحق لا يعرف الحق بهم والأصل إنه كما لم يكن وجود العالم بين الهين ولا المكلف بين رسولين مختلفي الشرائع ولا امرأة بين زوجين كذلك لا يكون المريد بين شيخين إذا كان مريد تربية فإن كانت صحبة بلا تربية فلا يبالي بصحبة الشيوخ كلهم لأنه ليس تحت حكمهم وهذه الصحبة تسمى صحبة البركة غير أنه لا يجيء منه رجل في طريق الله فالحرمة أصل في الفلاح (الباب الثاني والثمانون ومائة في معرفة مقام السماع)خذها إليك نصيحة من مشفق *** ليس السماع سوى السماع المطلق واحذر من التقييد فيه فإنه *** قول يفند كل عند محقق أن السماع من الكتاب هو الذي *** يدريه كل معلم ومطرق إن التغني بالقرآن سماعنا *** والحق ينطق عند كل منطق والله يسمع ما يقول عبيده *** من قوله فسماعه بتحقق أصل الوجود سماعنا من قول كُنْ *** فبه نكون ونحن عين المنطق انظر إلى تقديمه في آية *** تعثر على العلم الشريف المرهق فالسمع أشرف ما تحقق عارف *** بتعلق وتحقق وتخلق قال تعالى سَمِيعٌ عَلِيمٌ وقال سَمِيعٌ بَصِيرٌ فقدمه على العلم والبصر أول شيء علمناه من الحق وتعلق به منا القول منه والسماع منا فكان عنه الوجود وكذلك نقول في هذا الطريق كل سماع لا يكون عنه وجد وعن ذلك الوجد وجود فليس بسماع فهذه رتبة السماع التي يرجع إليها أهل الله ويسمعون فقوله تعالى للشيء قبل كونه كن هو الذي يراه أهل السماع في قول القائل وتهيؤ السامع المقول له كن للتكوين بمنزلة الوجد في السماع ثم وجوده في عينه عن قوله كن كما قال تعالى كُنْ فَيَكُونُ بمنزلة الوجود الذي يجده أهل السماع في قلوبهم من العلم بالله الذي أعطاهم السماع في حال الوجد فمن لم يسمع سماع وجود فما سمع ولهذا جعل القوم الوجود بعد الوجد ولما لم يصح الوجود أعني وجود العالم إلا بالقول من الله والسماع من العالم لم يظهر وجود طرق السعادة وعلم الفرق بينها وبين طرق الشقاء إلا بالقول الإلهي والسماع الكوني فجاءت الرسل بالقول جميعهم من قرآن وتوراة وإنجيل وزبور وصحف فما ثم إلا قول وسماع غير هذين لم يكن فلو لا القول ما علم مراد المريد ما يريده منا ولو لا السمع ما وصلنا إلى تحصيل ما قبل لنا فبالقول نتصرف وعن القول نتصرف مع السماع فهما مرتبطان لا يصح استقلال واحد منهما دون الآخر وهما نسبتان فبالقول والسماع نعلم ما في نفس الحق إذ لا علم لنا إلا بإعلامه وإعلامه بقوله ولا يشترط في القول الآلة ولا في السماع بل قد يكون بآلة وبغير آلة وأعني بآلة القول اللسان وآلة السماع الأذن فإذا علمت مرتبة السماع في الوجود وتميزه عن غيره من النسب فاعلم أن السماع عند أهل الله مطلق ومقيد فالمطلق هو الذي عليه أهل الله ولكن يحتاجون فيه إلى علم عظيم بالموازين حتى يفرقوا بين قول الامتثال وبين قول الابتلاء وليس يدرك ذلك كل أحد ومن أرسله من غير ميزان ضل وأضل والمقيد هو السماع المقيد بالنغمات المستحسنات التي يتحرك لها الطبع بحسب قبوله وهو الذي يريدونه غالبا بالسماع لا السماع المطلق فالسماع على هذا الحد ينقسم على ثلاثة أقسام سماع إلهي وسماع روحاني وسماع طبيعي فالسماع الإلهي بالأسرار وهو السماع من كل شيء وفي كل شيء وبكل شيء والوجود عندهم كله كلمات الله وكلماته لا تنفد ولهم في مقابلة هذه الكلمات إسماع لا تنفد تحدث لهم هذه الأسماع في سرائرهم بحدوث الكلمات وهو قوله ما يَأْتِيهِمْ من ذِكْرٍ من رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ فمنهم من أعرض بعد السماع ومنهم من وقف عند ما سمع وهذا مقام لا يعلمه كل أحد وما في الوجود إلا هو ولكن يجهل ولا يعلم وهو يتعلق بأسماء الله تعالى على كثرتها فلكل اسم لسان ولكل لسان قول ولكل قول منا سمع والعين واحد من القائل والسامع فإن كان نداء أجبنا وامتثلنا وكان من قوله إن قال لنا ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ فكما قال وسمعنا أمرنا عند ما جعل فينا قوة القول أن نقول فيسمع هو تعالى فمنا من يقول به كما قال إن الله قال على لسان عبده سمع الله لمن حمده فكلام صاحب هذا المقام كله نيابة ومنا من يقول بنفسه في زعمه وما هو كذلك في نفس الأمر فإن الله عند لسان كل قائل فكما أنه ليس في الوجود إلا الله كذلك ما ثم قائل ولا سامع إلا الله وكما قسمنا قولنا بين من يقول بالله ويقوله بنفسه كذلك سماعنا منا من يسمع بربه وهوقوله كنت سمعه الذي يسمع به ومنا من يسمع بنفسه في زعمه والأمر على خلافه فهذا هو السماع الإلهي وهو سار في جميع المسموعات وأما السماع الروحاني فمتعلقه صريف الأقلام الإلهية في لوح الوجود المحفوظ من التغيير والتبديل فالوجود كله رق منشور والعالم فيه كتاب مسطور فالأقلام تنطق وآذان العقول تسمع والكلمات ترتقم فتشهد وعين شهودها عين الفهم فيها بغير زيادة ولا ينال هذا السماع إلا العقول التي ظهرت لمستوي ولما كان السماع أصله على التربيع وكان أصله عن ذات ونسبة وتوجه وقول فظهر الوجود بالسماع الإلهي كذلك السماع الروحاني عن ذات ويد وقلم وصريف قلم فيكون الوجود للنفس الناطقة في سماع صريف هذه الأقلام في ألواح القلوب بالتقليب والتصريف وكذلك السماع الطبيعي مبناه على أربعة أمور محققة فإن الطبيعة مربعة معقولة من فاعلين ومنفعلين فأظهرت الأركان الأربعة أيضا فظهرت النشأة الطبيعية على أربعة أخلاط وأربع قوى قامت عليها هذه النشأة وكل خلط منها يطلب بذاته من يحركه لبقائه وبقاء حكه فإن السكون عدم فأوجد في نفوس العلماء حين سمعوا صريف الأقلام ما ينبغي أن يحرك به هذه النشأة الطبيعية فأقاموا لها أربع نغمات لكل خلط من هذه الأخلاط نغمة في آلة مخصوصة وهي المسماة في الموسيقى وهو علم الألحان والأوزان بالبم والزير والمثنى والمثلث كل واحد من هذه يحرك خلطا من هذه الأخلاط ما بين حركة فرح وحركة بكاء وأنواع الحركات وهذا لها بما هي نشأة طبيعية لا بما هي روحانية فإن الحركة في النشأة الطبيعية والسماع الطبيعي لا يكون معه علم أصلا وإنما صاحبه يجد طربا في نفسه أو حزنا عند سماع هذه النغمات من هذه الآلات ومن أصوات القوالين ولا يجد معها علما أصلا فإنه ليس هذا حظ السماع الطبيعي مع الحال الصحيح والوجد الصحيح الذي يطلبه الطبع وهو سماع الناس اليوم والسماع الروحاني يكون معه علم ومعرفة في غير مواد جملة واحدة والسماع الإلهي يكون معه علم ومعرفة في مواد وفي غير مواد عام التعلق يجده في السماع الطبيعي والروحاني لكن بالسمع الإلهي الذي يخص الطبع والعقل خاصة ومنهم من يعلم ذلك ومنهم من لا يعلمه مع كونه يجده ولا يقدر على إنكار ما يجد فسماع الحق مطلق كما أن وجوده مطلق وتمييزه عسير وللنغمات في الكلام الإلهي والقول أصل تستند إليه وهو أقوى الأصول ولهذا لها القوة والتأثير في الطباع فلا يستطيع أحد أن يدفع عن نفسه عند ورود النغمة وتعلق السمع بها |


