الفتوحات المكية - طبعة بولاق الثالثة (القاهرة / الميمنية) |
||
| الباب: | فى معرفة مقام الفقر وأسراره | |
|
أدب مع الله ولو لا أنه جائز له أن يبدأ بالمروة في سعيه لما قال هذا ورجح ما بدأ الله به على ما في المسألة من التخيير من أجل الواو فإنه ما بدأ الله به إلا لسر يعلمه فمن لم يبدأ به حرم فائدته وقال صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم خذوا عني مناسككم وتقديم الصفا في السعي من المناسك [تقديم البر على البحر في السفر]ولقد رويت في هذا المعنى حكاية عجيبة عن يهودي أخبرني بها موسى بن محمد القرطبي القباب المؤذن بالمسجد الحرام المكي بالمنارة التي عند باب الحزورة وباب أجياد رحمه الله سنة تسع وتسعين وخمسمائة قال كان رجل بالقيروان أراد الحج فتردد خاطره في سفره بين البر والبحر فوقتا يترجح له البر ووقتا يترجح له البحر فقال إذا كان صبيحة غد أول رجل ألقاه أشاوره فحيث يرجح لي أحكم به فأول من لقي يهوديا فتألم ثم عزم وقال والله لأسألنه فقال يا يهودي أشاورك في سفري هذا هل أمشي في البر أو في البحر فقال له اليهودي يا سبحان الله وفي مثل هذا يسأل مثلك أ لم تر أن الله يقول لكم في كتابكم هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ في الْبَرِّ والْبَحْرِ فقدم البر على البحر فلو لا إن لله فيه سرا وهو أولى بكم ما قدمه وما أخر البحر إلا إذا لم يجد المسافر سبيلا إلى البر قال فتعجبت من كلامه وسافرت في البر يقول الرجل فو الله ما رأيت سفرا مثله ولقد أعطاني الله فيه من الخير فوق ما كنت أشتهي [إنكار الغزالي لمقام القربة]وقد أنكر أبو حامد الغزالي هذا المقام وقال ليس بين الصديقية والنبوة مقام ومن تخطي رقاب الصديقين وقع في النبوة والنبوة باب مغلق فكان يقول لا تتخطوا رقاب الصديقين ولا شك أن الأنبياء أصحاب الشرائع هم أرفع عباد الله من البشر ومع هذا لا يبعد أن يخص الله المفضول بعلم ليس عند الفاضل ولا يدل تميزه عنه أنه بذلك العلم أفضل منه بل قال له يا موسى أنا على علم علمنيه الله لا تعلمه أنت وأنت على علم علمكه الله لا أعلمه أنا وما قال له أنا أفضل منك بل علم حق موسى وما ينبغي له وامتثل أمره فيما نهاه عنه من صحبته احتراما منه لمقام موسى وعلو منزلته وسكوت موسى عنه حين فارقه ولم يرجع عن نهيه لأنه علم إن الخضر ممن لم يسمع نهي موسى عليه السلام ولا سيما وقد قال له وما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي فعلم موسى أنه ما فارقه إلا عن أمر ربه فما اعترض عليه في فراقه إياه وحصل لموسى مقصوده ومقصود الحق في تأديبه فعلم إن لله عبادا عندهم من العلم ما ليس عنده ولم يكن إلا علم كون من الأكوان من علوم الكشف وهو من أحوال المريدين أصحاب السلوك فكيف لو كان من العلوم المتعلقة بالجناب الإلهي إما من العلم المحكم أو المتشابه [السر الذي وقر في نفس أبى بكر]ومن هذا المقام حصل لأبي بكر الصديق السر الذي وقر في نفسه وظهرت قوة ذلك السر مع وقته وقول عائشة لرسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم في مرضه حين أمر أن يصلي بالناس أنه رجل أسيف ورسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم يعرف منه بالسر الذي حصل عنده ما لا تعرفه الجماعة فما بقي أحد يوم مات رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم إلا ذهل في ذلك اليوم وخولط في عقله وتكلم بما ليس الأمر عليه إلا أبو بكر الصديق فما طرأ عليه من ذلك أمر بل رقى المنبر وخطب الناس وذكر موت النبي صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم فقال من كان منكم يعبد محمدا فإن محمدا قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت ثم تلا إِنَّكَ مَيِّتٌ وإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ وما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ الآية فسكن جأش الناس حتى قال عمر والله ما كأني سمعت بهذه الآية إلا في ذلك اليوم وهذا قوله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم إذا وجب يعني الموت فلا تبكين باكية وأما قبل وقوع الموت فالبكاء محمود وكذا فعل أبو بكر لما قام رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم فقال ما تقولون في رجل خير فاختار لقاء الله فبكى أبو بكر وحده دون الجماعة وعلم أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم قد نعى لأصحابه نفسه فأنكر الصحابة على أبي بكر بكاءه وهو كان أعلم فلما مات صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم بكى الناس وضجوا إلا أبا بكر امتثالا لقوله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم إذا وجب فلا تبكين باكية هذا كله من السر الذي أعطاه هذا المقام [الذي ينبغي أن يقال ليس بين محمد وأبى بكر رجل لا أنه ليس بين الصديقية والنبوة مقام]فالذي ينبغي أن يقال ليس بين محمد وأبي بكر رجل لا أنه ليس بين الصديقية والنبوة مقام فإن الصديق تابع بطريق الايمان فما أنكره متبوعة أنكر وما قرره متبوعة قرر هذا حظ الصديق من كونه صديقا ومن كون مقام آخر لا يحكم عليه حال الصديقية فاعلم ذلك انتهى السفر الرابع عشر بانتهاء الجزء السادس ومائة من الفتوحات المكية (الباب الثاني والستون ومائة في معرفة الفقر وأسراره)الفقر أمر يعم الكون أجمعه *** عينا وحكما ولكن ليس ينطلق إلا على ممكن أسماء خالقه *** تبغيه فهي لهذا الأمر تستبق إن القوي بالاستعداد قوته *** مثل الضعيف ففي الأحكام تتفق إن الحقائق تجري في ميادنها *** وكل حق له في نفسه طلق إن الفقير الذي استولت خصاصته *** عليه في كل شيء ثوبه خلق في كل حال من الأحوال تبصره *** كأنه طبق من فوقه طبق وليس يمنعه عن عين موجدة *** على طريقته الآفات والعلق (و من ذلك) الفقر حكم ولكن ليس يدركه *** إلا الذي جل عن أهل وعن ولد الفقر حكم يعم الكون أجمعه *** ولا أحاشي من الأعيان من أحد لأنها كلها بالذات تطلبه *** والفقر يطلبها بالذات في البلد فكلها عدد لأنها عدد *** والكل شفع سوى المدعو بالأحد وما سواه من الأعيان فهو كما *** قلناه كالواهب المحسان والصمد سبحانه جل أن يحظى به أحد *** فلا يولد في عقل وفي جسد [أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله]قال الله تعالى يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى الله والله هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ يعني بأسمائه كما نحن فقراء إلى أسمائه ولذلك أتى بالاسم الجامع للأسماء الإلهية حقيقة سره لَقَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ الله فَقِيرٌ ونَحْنُ أَغْنِياءُ فلو اتصفوا اتصفوا بحقيقة سَنَكْتُبُ ما قالُوا سببه وأَقْرِضُوا الله نزاهته قَرْضاً حَسَناً بيانه ودليله الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه جزاؤه وما يَفْعَلُوا من خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وباب الفقر ليس فيه ازدحام لاتساعه وعموم حكمه والفقر صفة مهجورة وما يخلو عنها أحد وهي في كل فقير بحسب ما تعطيه حقيقته وهي ألذ ما ينالها العارف فإنها تدخله على الحق ويقبله الحق لأنه دعاه بها والدعاء طلب وتقرب منها أختها وهي الذلة قال أبو يزيد قال لي الحق تقرب إلي بما ليس لي الذلة والافتقار فذله وحجبه فهاتان صفتان في اللسان نعتان للممكنات ليس لواجب الوجود منهما نعت في اللسان تعالى الله حجاب مسدل وباب مقفل مفتاحه معلق عليه يراه البصير ولا يحس به الأعمى قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ والَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ وفي هذه الآية أعني آية قوله أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى الله تسمى الحق لنا باسم كل ما يفتقر إليه غيرة منه أن يفتقر إلى غيره فالفقير هو الذي يفتقر إلى كل شيء ولا يفتقر إليه شيء وهذا هو العبد المحض عند المحققين فتكون حاله في شيئية وجوده كحاله في شيئية عدمه دواء نافع لداء عضال قوله وقَدْ خَلَقْتُكَ من قَبْلُ ولَمْ تَكُ شَيْئاً قضية في عين قضية عامة أَ ولا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ من قَبْلُ ولَمْ يَكُ شَيْئاً تنبيه على شرف الرتبة هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ من الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً مع وجود عينه لأن الحين الدهري أتى عليه فالفقر احتياج ذاتي من غير تعيين حاجة لجهله بالأصلح له ومن أسماء الله المانع وهو قد أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ حتى الغرض لما خلقه فينا أعطاه خلقه فلإنزال أصحاب أغراض فما يمنع إلا للمصلحة كما يملي لقوم لِيَزْدادُوا إِثْماً فقد أعطاهم الإثم كما أعطى الإثم خلقه فالحق لا يتقيد إنعامه والقوابل تقبل بحسب استعداداتها فمنعه عطاء لعلمه بالمصالح لذلك حكي عن بعضهم أنه سئل عن الفقير ما هو فقال من ليست له إلى الله حاجة يعني على التعيين ونبه أن الاحتياج له ذاتي والله قد أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ فقد أعطاك ما فيه المصلحة لك لو علمت فما بقي لصاحب هذا المقام ما يسأل الله فيه وما شرع السؤال إلا لمن ليس له هذا الشهود ورآه يسأل الأغيار فغار فشرع له أن يسأله ولما سبق في علمه أنه يخلق قوما ويخلق فيهم السؤال إلى الأغيار ويحجبهم عن العلم به أنه المسئول في كل عين مسئولة يفتقر إليها من جماد ونبات وحيوان وملك وغير ذلك من المخلوقات أخبرنا أن الناس فقراء إلى الله أي هو المسئول على الحقيقة فإنه بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ فالفقر إلى الله هو الأصل فالعلماء بالله هم الذين يحفظون أحوالهم (وصل) [الغني بالله]الغني بالله فقير إليه فالنسبة بلفظ الفقر إلى الله أولى من النسبة بالغنى لأن الغني نعت ذاتي يرفع المناسبة بين ذات الحق والخلق |

