الفتوحات المكية - طبعة بولاق الثالثة (القاهرة / الميمنية) |
||
| الباب: | فى معرفة مقام الإخلاص | |
|
الذي يعم جميع هذه الاعتقادات ويعلم مصادرها ومواردها ولا يغيب عنه منها شيء فمثل هذا لا تتعين له الاستقامة لأنه لا يرى لهذه الحال ضدا تتميز به هذه الحالة لأنه فيها والكون إذا كان في الشيء لا يدركه عينا ورؤية بصر وإن عرفه كما لا يدرك الهواء للقرب المفرط كذلك لا يدرك الحق للقرب المفرط فإنه أقرب إلينا من حَبْلِ الْوَرِيدِ ف لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ [سبحان من خلق العالم للسعادة لا للشقاء وكان الشقاء فيه عرضا عرض]فسبحان من خلق العالم للسعادة لا للشقاء فكان الشقاء فيه عرضا عرض له ثم يزول وذلك لأن الله تعالى ما خلق العالم لنفس العالم وإنما خلقه لنفسه فقال فيه وإِنْ من شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ونحن من الأشياء ثم قال في حقنا وما خَلَقْتُ الْجِنَّ والْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ فما من أحد منا يتعزز على الله ولا يتكبر عليه وإن تكبر بعضنا على بعض وما من صاحب نحلة ولا ملة ولا نظر إلا وتسأله عن طلبه فتجده مستوفر الهمة على طلب موجدة لأنه خلقه للمعرفة به واختلفت أحوالهم في إدراك مطلوبهم لاختلاف أمزجتهم ونزلت الشرائع تصوب نظر كل ناظر ويتجلى لأهل الكشوف والكل أهل كشف لكن بعضهم لا يدري أن مطلوبه قد أدركه وهو الذي خشع له وآخر قد علم أنه لا يرى سوى مطلوبه فالكل في عين الوجود والشهود ولكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ فرحم الله الجميع وهذا معنى قوله ورَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ [مدرسة الوجود الجامعية ربها المعيدون فيها المذنبون فيها المذنبون أصناف عاومها الكلية الأربعة]وسيرد إن شاء الله في منزل الإنعام والآلاء من هذا الكتاب ما أشرنا إليه في هذا الكلام فإنا جعلنا فيه أن الوجود مدرسة وأن الحق سبحانه هو رب هذه المدرسة وملقي الدروس فيها على المتعلمين وهم العالم والرسل هم المعيدون والورثة هم المذنبون وهم معيدو المعيدين والعلوم التي يلقيها للمتعلمين في هذه المدرسة وإن كثرت فهي ترجع إلى أربعة أصناف صنف يلقى عليهم دروس موازين الكلام في الألفاظ والمعاني ليميزوا بها الصحيح من السقيم وإن كان الكل صحيحا عند العلماء بالله وإنما يسمى سقيما بالنظر إلى ضده أو غرض ما معين والعلم الثاني هو العلم بتنقيح الأذهان وتدريب الأفكار وتهذيب العقول لأن رب المدرسة إنما يريد أن يعرفهم بنفسه وهو الغاية المطلوبة التي لأجلها وضع هذه المدرسة وجمع هؤلاء الفقهاء فاستدرجهم للعلم به شيئا بعد شيء وبعضهم تجلى لهم ابتداء فعرفوه لصحة مزاجهم كالملائكة والأجسام المعدنية والنباتية والحيوانية وما احتجب إلا عن الثقلين ففيهما وضع هذه العلوم ليتدربوا بها للعلم به وهو لا يزال خلف حجاب المعيدين والعقول ستر مسدل وباب مقفل ودروس يلقيها أيضا ليعلمهم بذلك ما سبب وجود هذه الهياكل واختلافات أمزجتها وبما امتزجت وما سبب عللها وأمراضها وصحتها وعافيتها ومن أي شيء قامت وما يصلحها ويفسدها وما معنى الطبيعة فيها وأين مرتبتها من العالم وهل هي أمر وجودي عيني أو هي أمر وجودي عقلي وهل يخرج عنها شيء أو صنف من العالم أو لا حكم لها إلا في الأجسام المركبة التي تقبل الحل والتركيب والكون والفساد وما أشبه هذا الفن والدرس الرابع هو ما يلقيه من العلم الإلهي وما يجب أن يكون عليه هذا المفتقر إليه الذي هو الله سبحانه وما يستحيل أن ينعت به وما يجوز فعله في خلقه وما ثم درس خامس أصلا لأنه ليس وراء الله مرمى غير أن كل نوع من أنواع هذه العلوم ينقسم إلى علوم جزئية كثيرة يتسع المجال فيها فمن وقف مع شيء منها ولم يحضر من الدروس إلا درسها كان ناقصا عن غيره ومن ارتفعت همته وعلم أن هذه الدروس ليس المطلوب منها نفسها ولا وضعت لعينها وإنما المقصود منها تحصيل العلم بالله الذي هو رب هذه المدرسة جعل في همته طلب هذا العلم الإلهي فمنهم من طلبه بمقدمات هذه العلوم وهو طلب عقلي ومنهم من طلبه من المعيد واقتصر عليه فإنه رأى بينه وبين المدرس وصلة ورأى رسولا يخرج إليه من خلف الحجاب يعرفه بأمور يلقيها على الحاضرين وأوقات يدخل المعيد إليه ثم يخرج من عنده فقال هذا الطالب العلم بالله من جهة هذا المعيد أحق وأوثق للنفس من أن تتخذ دليلا نظريا أو فكريا مما تقدم من هذه العلوم الأخر فلما أخذ علمه من المعيد كان وارثا وصار معيدا للمعيد وهو المذنب ويسمى في الشرع الوارث وهم ورثة الأنبياء (الباب الرابع والثلاثون ومائة في معرفة مقام الإخلاص)من أخلص الدين فذاك الذي *** لنفسه الرحمن يستخلصه فكل نقصان إذا لم يكن *** في كونه فإنه ينقصه [الاسم الأحد ينطلق على كل شيء مع كونه نعتا إلهيا]اعلم أن الاسم الأحد ينطلق على كل شيء من ملك وفلك وكوكب وطبيعة وعنصر ومعدن ونبات وحيوان وإنسان مع كونه نعتا إلهيا في قوله قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ وجعله نعتا كونيا في قوله ولا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً وما من صنف ذكرناه من هؤلاء الأصناف الذين هم جميع ما سوى الله وقد حصرناهم إلا وقد عبد منهم أشخاص فمنهم من عبد الملائكة ومنهم من عبد الكواكب ومنهم من عبد الأفلاك ومنهم من عبد العناصر ومنهم من عبد الأحجار ومنهم من عبد الأشجار ومنهم من عبد الحيوان ومنهم من عبد الجن والإنس [المخلص في العبادة التي هي له ذاتية أن لا يقصد بها إلا من أوجده]فالمخلص في العبادة التي هي ذاتية له أن لا يقصد إلا من أوجده وخلقه وهو الله تعالى فتخلص له هذه العبادة ولا يعامل بها أحدا ممن ذكرناه أي لا يراه في شيء مما ذكرناه لا من حيث عين ذلك الشيء ولا من حيث نسبة الأحدية له فإن الناظر أيضا له أحدية فليعبد نفسه فهو أولى له ولا يذل لاحدية مثله إذ ولا بد من ذلته لغير أحدية خالقه فيكون أعلى همة ممن ذل لاحدية مخلوق مثله [ما من مخلوق إلا وفيه نفس دعوى ربوبية]وما من شيء من المخلوقات إلا وفيه نفس دعوى ربوبية لما يكون عنه في الكون من المنافع والمضار فما من شيء في الكون إلا وهو ضار نافع فهذا القدر فيه من الربوبية العامة وبها يستدعي ذلة الخلق إليه أ لا ترى الإنسان على شرفه على سائر الموجودات بخلافته كيف يفتقر إلى شرب دواء يكرهه طبعا لعلمه بما فيه من المنفعة له فقد عبده من حيث لا يشعر كرها وإن كان من الأدوية المستلذة لمزاج هذا المريض وهو قد علم إن استعماله ينفعه فقد عبده من حيث لا يشعر طوعا ومحبة وكذا قال الله ولِلَّهِ يَسْجُدُ من في السَّماواتِ والْأَرْضِ طَوْعاً وكَرْهاً وخذ الوجود كله على ما بينته لك [الافتقار إلى جلب المنافع والحاجة إلى دفع المضار أدى النفوس الضعيفة إلى عبادة الأشياء]فإنه ما من شيء في الكون إلا وفيه ضرر ونفع فاستجلب بهذه الصفة الإلهية نفوس المحتاجين إليه لافتقارهم إلى المنفعة ودفع المضار فأداهم ذلك إلى عبادة الأشياء وإن لم يشعروا ولكن الاضطرار إليها يكذبهم في ذلك فإن الإنسان يفتقر إلى أخس الأشياء وأنقصها في الوجود وهو مكان الخلأ عند الحاجة يترك عبادة ربه بل لا يجوز له في الشرع أداؤها وهو حاقن فيبادر إلى الخلأ ولا سيما إذا أفرطت الحاجة فيه واضطرته بحيث تذهب بعقله ما يصدق متى يجد إليه سبيلا فإذا وصل إليه وجد الراحة عنده وألقى إليه ما كان أقلقه فإذا وجد الراحة خرج من عنده وكأنه قط ما احتاج إليه وكفر نعمته واستقذره وذمه وهذا هو كفر بالنعمة والمنعم [الدين الخالص هو الدين المستخلص من أيدى ربوبية الأكوان]ولما علم الله ما أودعه في خلقه وما جعل في الثقلين من الحاجة إلى ما أودع الله في الموجودات وفي الناس بعضهم لبعض قال فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً أي لا يشوبه فساد ولا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً أي لا يذل إلا لله لا لغيره وأمر أن نعبده مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وقال أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ وهو الدين المستخلص من أيدي ربوبية الأكوان فإذا لم ير شيئا سوى الله وأنه الواضع أسباب المضار والمنافع لجأ إلى الله في دفع ما يضره ونيل ما ينفعه من غير تعيين سبب فهذا معنى الإخلاص [المخلصون- بفتح اللام- والمخلصون- بكسر اللام-]ولا يصح وجود الإخلاص إلا من المخلصين بفتح اللام فإن الله إذا اعتنى بهم استخلصهم من ربوبية الأسباب التي ذكرناها فإذا استخلصهم كانوا مخلصين بكسر اللام وإنما أضاف إليهم الإخلاص ابتلاء ليرى هل يحصل لهم امتنان بذلك على الحق أم لا وقد وجد في قوله يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا فإن منوا بذلك وبخوا ونبهوا بقوله بَلِ الله يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في دعواكم إنكم مؤمنون فعراهم من هذه الصفة أن تكون لهم كسبا [ينبغي للعاقل أن لا يأمن مكر الله في إنعامه]فينبغي للعاقل أن لا يأمن مكر الله في إنعامه فإن المكر فيه أخفى منه في البلاء وأدنى المكر فيه إن يرى نفسه مستحقا لتلك النعمة وأنها من أجله خلقت فإن الله ليس بمحتاج إليها فهي لي بحكم الاستحقاق هذا أدنى المكر الذي تعطيه المعرفة ويسمى صاحبه عارفا في العامة وهو في العارفين جاهل إذ قد بينا فيما قبل إن الأشياء إنما خلقت له تعالى لتسبح بحمده وكان انتفاعنا بها بحكم التبعية لا بالقصد الأول ففطر العالم كله على تسبيحه بحمده وعبادته ودعا الثقلين إلى ذلك وعرف أن لذلك خلقهم لا لأنفسهم ولا لشيء من المخلوقات مع ما في الوجود من وقوع الانتفاع بها بعضها من بعض وقال تعالى في الحديث الغريب الصحيح من عمل عملا أشرك فيه غيري فأنا منه بريء وهو للذي أشرك فطلب من عباده إخلاص العمل له فمنهم من أخلصه له جملة واحدة فما أشرك في العمل بحكم القصد فما قصد به إلا الله ولا أشرك في العمل نفسه بأنه الذي عمل بل عمله خلق لله فالأول عموم والثاني خصوص وهو غاية الإخلاص ولا يصح إخلاص إلا مع عمل أعني في عمل فإنه لا بد من شيء يكون مستخلصا |


