فما ثم نسخ على هذا القول و لو كان ثم نسخ لكان من الحكمة و صورته إن الزمان إذا اختلف اختلف الحكم بلا شك فالنسخ ثابت أبدا لأن الاختلاف واقع أبدا فالحكمة تثبت النسخ و الحكمة ترفع النسخ و لكن في مواطن معينة تطلبها لذاتها فيوفيها الحكيم ما تستحقه من ذلك فالحكيم من قامت به الحكمة فكان الحكم لها به كما كان الحكم له بها فهو عينها و هي عينه فالحكمة عين الحاكم عين المحكوم به عين المحكوم عليه فالحكمة علم خاص و إن عمت و الفرق بينها و بين العلم أن الحكمة لها الجعل و العلم ليس كذلك لأن العلم يتبع المعلوم و الحكمة تحكم في الأمر أن يكون هكذا فيثبت الترتيب في أعيان الممكنات في حال ثبوتها بحكمة الحكيم لأنه ما من ممكن يضاف إلى ممكن إلا و يمكن إضافته إلى ممكن آخر لنفسه لكن الحكمة اقتضت بحكمها أن ترتبه كما هو بزمانه و حاله في حال ثبوته و هذا هو العلم الذي انفرد به الحق تعالى و جهل منه و ظهر به الحكم في ترتيب أعيان الممكنات في حال ثبوتها قبل وجودها فتعلق بها العلم الإلهي بحسب ما رتبها الحكيم عليه فالحكمة أفادت الممكن ما هو عليه من الترتيب الذي يجوز خلافه و الترتيب أعطى العالم العلم بأن الأمر كذا هو فلا يوجد إلا بحسب ما هو عليه في الثبوت الذي هو ترتيب الحكيم عن حكم الحكمة فقد بان لك الفرقان بين العلم و الحكمة فما يبدل القول لديه فإنه ما يقول إلا ما رتبته الحكمة كما أنه ما علم إلا ما رتبته الحكمة فيقول للشيء ﴿كُنْ فَيَكُونُ﴾ [البقرة:117] بالحال الذي هو عليه كان ما كان فمن هذه القوة يقول الناظر في الأمر لو كان كذا لجوازه عنده فإذا علم حكمة اللّٰه يقول بأنه يجهل حكمة اللّٰه في هذا الوضع الذي يقتضي في نظري لو كان خلافه لكان أحسن لكن لله فيه علم لا أعرفه و صدق و من الناس من يفتح له في سر ذلك الترتيب و من الناس من لا يعلم ذلك إلا بعد ما يقع حكمه في الوجود فيعلم عند ذلك حكمة ذلك الأمر و يعلم جهله بالمصالح و هذا كثير اتفاقه في العالم يكون الشخص يتسخط بالأمر الذي لا يوافق غرضه و لا نظره و ينسب مثلا الحاكم به إلى الجور فإذا ظهرت منفعة ذلك الحكم الذي تسخطت به عاد المتسخط يحمد اللّٰه و يشكر ذلك الحكم و الحاكم على ما فعل حيث دفع اللّٰه به ذلك الشر العظيم الذي لو لم يكن هذا الحكم لوقع بالمحكوم عليه ذلك الشر و هذا يجري كثيرا فغاية العارفين إنهم يعلمون بالجملة أن الظاهر في الوجود و الواقع إنما هو في قبضه الحكمة الإلهية فيزول عنه التسخط و الضجر و يقوم به التسليم و التفويض إلى اللّٰه في جميع الأمور كما جاء ﴿وَ أُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللّٰهِ إِنَّ اللّٰهَ بَصِيرٌ بِالْعِبٰادِ﴾ [غافر:44]
هذه نسخة نصية حديثة موزعة بشكل تقريبي وفق ترتيب صفحات مخطوطة قونية