إنما هو استفهام مثل قوله ﴿أَ أَنْتَ قُلْتَ لِلنّٰاسِ﴾ [المائدة:116] كأنه يقول أ فعلت ذلك ﴿حَتّٰى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا﴾ [التوبة:43] فهو عند ذلك إما أن يقول نعم أو لا فإن العفو و لا سيما إذا تقدم و التوبيخ لا يجتمعان لأنه من وبخ فما عفا مطلقا فإن التوبيخ مؤاخذة و هو قد عفا و لما كان هذا اللفظ قد يفهم منه في اللسان التوبيخ لهذا جاء بالعفو ابتداء ليتنبه العالم بالله أنه ما أراد التوبيخ الذي يظنه من لا علم له بالحقائق و قال في هذه المرتبة في حق المؤمن العالم «اعمل ما شئت فقد غفرت لك» أي أزلت عنك خطاب التحجير يا محمد فاسترسل مطلقا فإن اللّٰه لا يبيح الفحشاء و هي محكوم عليها فحشاء تلك الأعمال فزال الحكم و بقي عين العمل فما هو ذنب يستر عن عقوبته و إنما الستر الواقع إنما هو بين هذا العمل و بين الحكم عليه بأنه محجور خاصة هذا معنى قد غفرت لك لا ما يفهمه من لا علم له فيمشي هذا الشخص في الدنيا و لا خطيئة عليه بل قد عجل اللّٰه له جنته في الدنيا فهو في حياته الدنيا كالمقتول في سبيل اللّٰه نسمته تعلق من ثمر الجنة كذلك هذا الشخص و إن أقيمت عليه الحدود فلجهل الحاكم هذا المقام الذي هو فيه فإقامة الحدود على من هذا مقامه ما هي حدود و إنما هي من جملة الابتلاءات التي يبتلي اللّٰه بها عبده في هذه الدار الدنيا كالأمراض و ما لا يشتهي أن تصيبه في عرضه و ماله و بدنه فيصيبه و هو مأجور في ذلك لأنه ما ثم ذنب فيكفر و إنما هو تضعيف أجور فما هي حدود في نفس الأمر و إن كانت عند الحاكم حدود أو تظهر رائحة من هذا في علماء الرسوم المجتهدين فإن الحاكم إذا كان شافعيا و جيء إليه بحنفي قد شرب النبيذ الذي يقول بأنه حلال فإن الحاكم من حيث ما هو حاكم و حكم بالتحريم في النبيذ يقيم عليه الحد و من حيث إن ذلك الشارب حنفي و قد شرب ما هو حلال له شربه في علمه لا تسقط عدالته فلم يؤثر في عدالته و أما أنا لو كنت حاكما ما حددت حنفيا على شرب النبيذ ما لم يسكر فإن سكر حددته لكونه سكران من النبيذ فالحنفي مأجور ما عليه إثم في شربه النبيذ و في ضرب الحاكم له و ما هو في حقه إقامة حد عليه و إنما هو أمر ابتلاه اللّٰه به على يد هذا الحاكم الذي هو الشافعي كالذي غصب ماله غير إن الحاكم هنا أيضا غير مأثوم لأنه فعل ما أوجبه عليه دليله أن يفعله فكلاهما غير مأثوم عند اللّٰه و هذا عين ما ذكرناه في إقامة الحدود على الذين أبيح لهم فعل ما أقيم عليه فيه الحد و هو حد في نفس الأمر بالنظر إلى من أقامه فاعلم ذلك و هذه الحضرة واسعة الميدان يتسع فيها المجال فاكتفينا بهذا القدر من التنبيه ﴿وَ اللّٰهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَ هُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ﴾ [الأحزاب:4] و هو حسبي عز و جل
هذه نسخة نصية حديثة موزعة بشكل تقريبي وفق ترتيب صفحات مخطوطة قونية