الفتوحات المكية

المواقف في بعض إشارات القرآن إلى الأسرار والمعارف

للأمير عبد القادر الحسني الجزائري

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


77. الموقف السابع والسبعون

قال تعالى: حكاية عن يعقوب (عليه السلام) : ﴿يَا بَنِيَّ لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ﴾[يوسف: 12/ 67].

هكذا، فليكن تعليم المعلمين وتأديب المؤدبين، أمرهم أولاً باستعمال الأسباب لميل الطبيعة إليها، وإيناس النفوس بها، ثم أمرهم بالتوكل حالة ملابسة السبب وهذ هو الكمال. وإنما عكس بعض مشايخ الصوفية اليوم، حيث إنهم يأمرون تلامذتهم بالتوكل، ثم إذا ثبت قدمهم في مقام التوكل، ردّوهم إلى الأسباب، لأن أولئك قريبون من النور النبوي، والصفاء الفطري، فعلاجهم بهذا أقرب وأسهل وأسرع في الترقي من تقديم التوكل، فإنه يحتاج إلى تعب شديد، ومعالجة قوية، والناس في هذا الأمر ثلاثة:

متسبّب صرف، نظره مقصور على السبب وقوّته وضعفه، فهو أعمى، ومتوكّل صرف، معرض عن الأسباب ظاهراً وباطناً، وهو صاحب حال لا يقتدى به، ولا يحتج عليه. ومتسبّب بظاهره، متوكل بباطنه، يده في السبب، وقلبه متعلق بخالق السبب، ظاهر لظاهر، وباطن لباطن، وهذا هو الكامل الناظر بعينين.

واعلم أن الأسباب كلّها حجب وأستار دون وجه الحق، وهو الفاعل من خلف أستارها ما يظن العميان أنه أثر للأسباب وناشئ عنها، وسواء في ذلك الأسباب العادية أو العقلية، أو الشرعية من الأوامر والنواهي. لأن معنى المأمورات: افعل كذا، فيكون سبب دخولك الجنة، ومعنى المنهيات: لا تفعل كذا، فيكون سبب دخولك النار. والشرائع كلها من لدن آدم إلى محمد (صلوات الله وسلامه عليهم) إنما جاءت باعتبار الأسباب العادية والرعية، إذ هي مقتضى الحكمة، ومن أسمائه تعالى الحكيم، وترك الأسباب مقتضى القدرة، ومن أسمائه تعالى القادر. والوقوف مع أحد الاسمين تعطيل للآخر والمعطل هالك، والكمال في اعتبار الاسمين على وجه لا يناقض التوحيد، وإفراد المولى بأنه الفعال لما يريد. فيعتبر الاسم "الحكيم" بالتلبس ظاهراً بالأسباب الشرعية والعادية؛ ويعتبر الاسم "القادر" بالتعلق به باطناً، والغيبة عن الأسباب بشهود مسببها ومجريها، واعتقاد عدم تأثيرها في شيء ما لاَّ بوجوهه الخاصة بها، فإنها من هذا الوجه هي هو، وهذه طريقة الأنبياء (عليه السلام) والكمّل من ورثتهم. ولا يلتفت إلى أصحاب الأحوال، فإن أحوالهم حاكمة عليهم، وقاهرة لهم. ومن العجب أنَّ المواظبة على الأسباب الشرعية التي قلنا إنها حجب وأستار دون الحق، على وجه مخصوص، وطريقة معروفة عند أهلها، تكون سبباً لرفع حجابيتّها مع بقاء عينها، فالذي يرفع حكمها لا عينها، فإن عينها مأمور بإثباتها، ومن هنا ترى العارفين، أهل الوجود والشهود، يتلبسون بالأسباب العادية والشرعية كلها، لا فرق بينهم وبين عوام المؤمنين في ظاهر الأمر، وبادئ الرأي. ولكن في الباطن بينهم مابين السماء والأرض، والمشرق والمغرب، لأن من كوشف بالفاعل الحقيقي، الذي تصدر منه الأفعال، وعرف حقيقة المكلّف والمكلّف وحكمة التكليف، والعلة الغائية منه، ليس كالجاهل بذلك:

﴿هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾[الزمر: 39/ 9].

و ﴿هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ ﴾[الأنعام: 6/ 50، الرعد: 13/16].

﴿هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ ﴾[الرعد: 13/ 16].

وهذا هو السور الذي ضرب بين عوام المؤمنين والعارفين بالله.

﴿بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ﴾[الحديد: 57 /13].

فالعارفون تتلبّس ظواهرهم بالأوامر والأفعال الشرعية، ويعلمون أنهم ظروف لإجرائها، لا فاعلون لها، فلذا لا يرجون بما ينسب إليهم من الأفعال حصول خير، ولا دفع شرّ، فهم ناظرون به إليه، وقلوبهم عاكفة ليس إلاَّ عليه، قد يئسوا من خير غيره، وأمنوا من شره، فنالوا بذلك أعظم راحة، ونعماً دائمة مستباحة. وقفوا على حقيقة الاسمين الظاهر والباطن، فعرفوا أنه لا ظاهر إلاَّ هو، ولا باطن إلاَّ هو، وكل شيء إما ظاهر وإما باطن.

وأمَّا عامة المؤمنين، وأعني بعامتهم صلحاؤهم من العباد والزهاد وعلماء الظاهر، فهم في تعب وعناء ومشقة وضنى لظنهم الذي أرادهم أن أفعالهم المخلوقة فيهم تجلب لهم نفعاً، وتدفع عنهم ضراً. وإذا فاتهم سبب، حزنوا لفوته، لتحققهم بفوات مسبّبه عندهم. يفعلون ما يفعلون، معتقدين أن لهم وجوداً حادثاً مستقلاً، مبايناً للوجود الحق، وثانياً له. وهذا عام في جميع طوائف المؤمنين إلاَّ الطائفة المرحومة بمعرفته تعالى وأن لهم قدرة على الفعل والترك إنْ كانوا معتزلة؛ وإن لهم كسباً إن كانوا أشعرية؛ أو جزءاً اختيارياً إن كانوا ما تريدية. والكل قلوبهم في أكنّة، وفي آذانهم وقر، وعلى أبصارهم غشاوة، ولو نوّر الله بصائرهم، وفتح أسماعهم وأبصارهم، لعلمو أنه لا وجود لهم، لا قديماً ولا حادثاً، ولتبرؤوا من ادعائهم الوجود، إذ هو الصنم الأكبر، والشرك الأعظم، الذي لا يقبل معه عمل إلاَّ بفضل الله تعالى ورحمته.

إذا قلت ما أذنبت؟ قالت: مجيبة             وجودك ذنب لا يقاس به ذنب

فليس لشيء ممّا يقال إنه غير الحق، وجود أصلاً، وإذا انتفى الوجود، انتفى كل شيء من الصفات والأحوال والأفعال، فإنها توابع الوجود لازمة له.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!