الفتوحات المكية

المواقف في بعض إشارات القرآن إلى الأسرار والمعارف

للأمير عبد القادر الحسني الجزائري

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


78. الموقف الثامن والسبعون

قال تعالى: ﴿َهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ﴾[الحديد: 57/ 4].

الخطاب إنما جاء على ما يتخيله أكثر العباد، من أن لهم وجوداً مستقلاً مبايناً للوجود الحق، ومغايراً له. فمشّى الحق تعالى دعواهم فاحذروه وراقبوه في كل مكان. وأمَّا في نفس الأمر، فمسمّى الخلق مالهم مع الحق رتبة المعية، وإنم لهم التبعيّة، فمسمّى الخلق عند من يثبته كالظل بالنسبة إلى ذي الظل، هو الشاخص، ول يقال في مسمى الظل: أنه الشاخص. وإنما يقال: الظل تابع للشاخص، إذ المعيّة لا تقال إلاَّ على شيئين مستقلين بالموجودية. والمسمى خلقاً وعالماً لا وجود له استقلالاً، وإنما له التبعيّة. وكالصوت والصَّدى، فهُما شيئان في الحسّ، وشيء واحد في نفس الأمر. وكل ما يقال فيه غير الله تعالى ـ، وهو العالم جميعه، أعلاه وأسفله، فهو عدم لو اعتبر مجرداً عن الوجود الحق. لأنه لو كان لغير الله وجود، فلا يخلو إما أن يكون وجوده قديماً أو حادثاً، ولا قديم إلاَّ الوجود الحق، بإجماع من أهل الملل والحكماء، فإنهم وإن قالوا بالقدم الزماني فهم مجمعون معنا على أنه لا قديم بالذات إلاَّ الوجود الحق تعالى ـ. ولا جائز أن يكون حادثاً، لأنه لو كان حادثاً لكان إما جوهراً أو عرضاً، ولا جائز أن يكون جوهراً لأن الجوهر لا توصف به الجواهر والأعراض، والوجود وصف لهما. ولا جائز أن يكون عرضاً، لأن العرض لابّد له من مقوّم وهو الجوهر، والجوهر معدوم قبل اتصافه بالوجود، والمعدوم لا يكون مقوّماً للعرض الموجود. وهذا البرهان للواقفين مع عقولهم. وأما أهل الشهود فقد أغناهم الله عن إقامة البرهان، إذ هذا عندهم من الضرورات. وعليه فلا يجوز السؤال عن العالم هل هو قديم أو حادث، لأن القدم والحدوث بعد ثبوت الوجود، والعالم ما صحَّ له وجود، ول يقال في المعدوم: هل هو قديم أو حادث، فإنه سؤال فاسد.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!