الفتوحات المكية

المواقف في بعض إشارات القرآن إلى الأسرار والمعارف

للأمير عبد القادر الحسني الجزائري

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


57. الموقف السابع والخمسون

رأيت في بعض المرائي: أني جالس في قبة بيضاء، وأنا أتكلم مع أشخاص ل أراهم. فتكلمنا في قول القطب عبد السملا بن مشيش (رضي الله عنه).

«واجعل الحجاب الأعظم حياة روحي، وروحه سر حقيقتي»

فقلت لهم: سأل الشيخ بهذا أن يكون الحجاب الأعظم وهو الحقيقة المحمدية، والتعين الأول المسمى بالأسماء الكثيرة، بحسب اعتباراته ووجوهه حياة روحه. أي اجعلني به حياً على الكمال لا مطلق الحياة، لأن الروح مستلزم للحياة، ول عكس. فكل روح حيّ، وليس كل حيّ له روح. ومطلوب الشيخ ومقصوده: أن يكون روحه مظهراً كاملاً ومجلًى تاماً للروح الكل الذي هو الحجاب الأعظم، والحقيقة المحمدية. إذ كل روح إنما هو من الروح الكلي المحمّدي، ولكن لا على الكمال إلاَّ أرواح الكملّ الحاصلين على رتبة الكمال، من الورثة المحمديين فإنه ينطبع فيه كانطباع الطابع في الشمع ونحوه.

فقال لي واحد لم أر شخصه: فعلى هذا، يتماثل المنطبع فيه مع الطابع.

فقلت له: هيهات المنطبع حقيقة وأصل، والمنطبع فيه مجاز وفرع. فإنا نقول في الحق تعالى حيّ، وفي زيد حيّ. وأين حياة الحق تعالى من حياة زيد؟ ونقول في زيد: عالم، وفي الحق تعالى عالم. وأين علم الحق تعالى من علم زيد؟ فإن تباين حقيقة كلّ واحد من الموصوفين بالصفة الواحدة، مؤذن بعدم المشابهة بينهما في النسبة. كما إذا ضرب نور الشمس في حائط من كوّة مثلاً، فنقول: ظ هرت الشمس في الحائط. وأين الشمس من شعاعها الظاهر في الحائط؟ وقوله: «وروحه سر حقيقتي» يريد الشيخ (رضي الله عنه) روح الحجاب الأعظم. فالضمير عائد عليه، وروح الشيء ما به قوامه، وروح الحجاب الأعظم هو الذات الغيب المطلق البحت، الذي لا يعبر عنه بعبارة، ولا تتطرّق إليه إشارة، إذ الحجاب الأعظم هو غاية معرفة العارفين، ونهاية السائرين، غير أنهم علموا أن وراء هذا الذي أدركوه شيئاً من حقيقته وصفة نفسه، أنه لا يعرف ولا يدرك منه سوى وجوده لا غير. فكان إ دراك العجز عن إدراكه إدراك. إذ العلم انكشاف المعلوم على ماهو عليه، فحينئذٍ ظهر لي واحد منهم وقبل يدي.

وليعلم أن كثيراً من أهل الرياضات والمجاهدات على غير طريق الأنبياء وصل إلى الروح الكلي، فظن أنه هو حقيقة الحقائق و أنه ليس وراءه مرمى فكفر ورجع من حيث جاء. ولهذا يقول بعض سادة القوم: ما رجع من رجع إلاَّ من الطريق، ولو وصلوا م رجعوا. يعني الوصول إلى الذات الغيب المطلق، إذ ليس وراء الله مرمى، وأما مرتبة التعين الأول، والحقيقة المحمديّة، والحجاب الأعظم، فوراءه مرمى وهو الله، من حيث أنه اسم مرتجل علم على الذات الغيب المحض، لا شيء فيه من الوصفية.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!