الفتوحات المكية

المواقف في بعض إشارات القرآن إلى الأسرار والمعارف

للأمير عبد القادر الحسني الجزائري

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


56. الموقف السادس والخمسون

قال تعالى: ﴿إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ﴾[النحل: 16/ 40].

[البقرة: 2/116]. [آل عمران: 3/47]، [آل عمران: 3/58]، [الأنعام: 6/73]، [النحل: 16/40]. [مريم: 19:34]. [يس: 36 / 81]. [غافر: 40/68].

فقوله: قولنا، يردي أنه متكلم. وهو عبارة عن توجه إلهي يحصل به سماع المأمور بالتكوين، فيكون لنفسه، بما فيه من الاستعداد، وليس للحق تعالى إل الأمر، ولما كانت فائدة الكلام ونتيجته هي إيصال مافي نفس المتكلم ومراده إلى المخاطب السامع، أخبر الحق تعالى أنه متكلم، بمعنى أنه له صفة الكلام وحقيقته. وهو إيصال مافي إرادته تعالى ونفسه إلى من يريد أمره أو نهيه أو إخباره أو تبشيره أو تحذيره... ممّا يحصل عرفاً بالكلام، فلا مناسبة بين كلام الحق تعالى وكلام المخلوقين إلا من هذا الوجه الواحد، وهو إيصال مافي نفس المتكلم إلى السامع.

وكلام الحقّ تعالى على نوعين: باعتبار بغير واسطة مشهودة، ويسمى إلهاماً أو إلقاءً، ونحو ذلك. وبواسطة مشهودة، وهي المظاهر الروحانية، ويسمى وحياً. وكلام الحق، إذا كان بغير واسطة مشهودة، لا يدرك سامعه له كيفية ولكن يجد السامع له مراد الحق تعالى منه مقرراً عنده، من غير إدراك كيفية من الكيفيات التي تكون لكلام المخلوقين.

وكلام الحق تعالى يسمعه الأنبياء وللأولياء منه نصيب، ولكن أذواقهم في السماع مختلفة متباينة، فليس ذوق النبي كذوق الولي، فبين ذوقيهما مابين رتبتيهما. وإنما اختص موسى (عليه السلام)باسم الكليم، من بين سائر المكلمين، لذوق اختص به موسى (عليه السلام) لا يعلمه إلاَّ هو، كذا قال شيخنا محي الدين، بإخبار موسى (عليه السلام) له ذلك. والذي ألقاه الحق إلي: أن اختصاص موسى بالتكليم، دون غيره من المكلمين، لكون كل من كلّمة الحق تعالى لا يكلمه إلاَّ في باطنه، بحيث لا يسمع الحاضرون تكليم الله إياه. وموسى، كلّمه الحق بحضرة السبعين الذين اختارهم من قومه، وكلهم سمعوا ت كليم الحق وخطابه لموسى (عليه السلام).

وليعلم أنه: كما أن الوجود للحق تعالى خاصة، وليس لغيره وجود مستقل، لا قديم ولا حادث، وإنما لغيره تعالى النسبة للوجود، فكذلك توابع الوجود من كلام وعلم وقدرة وإرادة.... ليست لغيره تعالى فهو الوجود من وراء حجابية كل موجود، والعالم من وراء حجابية كل عالم، والمتكلم من وراء حجابية كل متكلم، ونحو ذلك. فالوجود وتوابع الوجود، إذا نسبت لغير الحق تعالى فهي مجاز. وفي الحقيقة ليس كلامه تعالى سوى ظاهر علمه، وجميع صفاته ترفع إلى ع لمه، ول ينفصل بعضها من بعض إلا في العبارات، لتفهيم المعاني المتواضع عليها. فإذا أضيف علمه إلى دعوة المضطر قيل: سميع. وإذا أضيف علمه إلى رؤية كل شيء قيل: بصير. وإذ أوصل مافي نفسه من أمر أو نهي أو إخبار، وأفاض ذلك على المراد إيصاله إليه قيل: متكلم.

وكما أن للحق تعالى الظهور بالصور، كذلك هو المتكلم بها.

قال تعالى: ﴿فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ﴾[التوبة 6].

وكلامه صفته، وصفته لا تقوم بغير ذاته، أي حتى يسمع كلام الله بمظهرية رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فهي كلام الله، من حيث أنه كلام رسول الله، من حيثية واحدة. فافهم وإلا سلم تسلم، ولا تنكر تندم، وإذا كشف الساق والقدم.

وكما أن ظهور الحق تعالى بالصور حادث، فكذلك كلماته، لأن كلماته أفعاله، وأفعاله حادثة، وأعني بكلماته: مخلوقاته المخاطبة: «بِكُنْ» لا نفس الكلام الذي هو صفته. وصفاته تعالى إذا نسبت إلى مرتبة الإطلاق تكون مطلقة، فيتعلق علمه وكلامه بالواجب والممكن والمستحيل، وتتعلق قدرته وإرادته بكل ممكن، وسمعه وبصره بكل مستعد لأن يرى ويسمع، وإذا نسبت إلى مراتب التقييد لا تظهر إلاَّ مقيدة، فيتعلق العلم ببعض المعلومات والقدرة ببعض المقدورات... وقس على هذا.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!