الفتوحات المكية

المواقف في بعض إشارات القرآن إلى الأسرار والمعارف

للأمير عبد القادر الحسني الجزائري

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


58. الموقف الثامن والخمسون

قال تعالى: ﴿لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ﴾[يونس: 10/ 26].

المراد: أحسنوا لأنفسهم، وأحسنوا دخلوا حضرة الإحسان، فإن الحق تعالى ـ لا يحسن أحد إليه، ولا يسيء، كما قال: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا﴾[فصلت: 41/ 46].[الجاثية: 45/ 15].

والإحسان هو الحضور مع الله تعالى في الأعمال الصالحة. وهو يستلزم إخلاص العمل من كل شوب، وفسَّر (صلى الله عليه وسلم) الإحسان كما في الصحيح، في حديث سؤال جبريل (عليه السلام) فقال: «أن تعبد الله كأنك تراه».

يعني العبادة على الحضور. فالعبادة الخالصة من الشرك الخفيّ لا تكون إلاَّ لمن دخل حضرة الإحسان، وقد وعد الله تعالى ووعده الحق، فإنه لا يخلف الميعاد من عبده، كأنك تراه بالحس، أي المعرفة والشهود اللائقين بهذه الدار. والزيادة وهي المعرفة والشهود اللائقان بالدار الآخرة فإن الشهود هناك أتم، والمعرفة أكمل، لا أن الشهود يتبدل والمعرفة تتغير، فإن صاحب الشهود والمعرفة في الدنيا، يكون في الآخرة كما هو في الدنيا، كما قال بعض العارفين: هم يعني العارفين في الآخرة، كما هم في الدنيا إن شاء الله وإن كان الحجاب مصاحباً في الدارين، لأن رداء الكبرياء، لا يرتفع عن وجهه تعالى لا دنيا ولا آخرة، كما ورد في الصحيح. وَلَيْسَ بَيْنَ الْقَوْمِ وَبَيْنَ أَنْ يَنْظُرُوا إِلَى رَبِّهِمْ عَزَّ وَجَلَّ إِلاَّ رِدَاءُ الْكِبْرِيَاءِ عَلَى وَجْهِهِ فِي جَنَّةِ عَدْنٍ. ورداء الكبرياء هو أول التعينات، وهو الحقيقة المحمدية.

وقوله (صلى الله عليه وسلم) : «أن تعبد الله كأنك تراه».

تعليم لدخول حضرة الإحسان، وإذن في تخييل الحق تعالى بالحضور مع العابد، وأنه في قبلة المصلي، وبينه وبين القبلة، وأنه يناجيه كما في صحيح الأخبار فإذا أراده الله تعالى لقربه، وأزال الحجاب عن عين بصيرته صيره على حالة لا يعبر عنها لسان، ولا تخطر لعاقل بجنان؛ منها أن يرفع عنه الكاف من كأن. وحينئذٍ تصير حضرة الإحسان في حقه فيها نوع سوء أدب، لما فيها من الحصر والتقييد بالنسبة إلى ما صار إليه. وحسنات الأبرار سيئات المقربين. وإنما أمر (صلى الله عليه وسلم) ورغب في حضرة الإحسان، تعليماً وتدريجاً وتدريباً لما هو أعلى وأقدس وأغلى وأنفس، وهو (صلى الله عليه وسلم) سيّد المعلمين، وأحكم العالمين.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!